بُثَيْنَة — قصة قصيرة
(1)
شعر وكأنه ركض ساعة كاملة، تسارعت قدماه وتسارع لهاثه وتسارع قلبه. في الحقيقة لم تمتد مدة هروبه أكثر من بضع دقائق، عقله كان يعي هذا تمامًا، لكنهم كانوا خلفه وكان خائفًا، فازدادت سرعة كل أجزائه وطال الوقت وقصُرت المسافة. هرب هو وبعض الشباب من الساحة، وتفرقوا مباشرة بعدها، وفق خطة غير مدروسة لتشتيتهم أو لتشتيت رجال الشرطة. ظهرت له بساتين القرية ومعها بيت «رائف الياسين»، بوّابته الحمراء الصدئة الكبيرة، البيت في الطرف الشمالي تليه بساتين الزيتون، وفي تلك اللحظة غدا بيت رائف حافة الدنيا بالنسبة له وتليه جهنم.
خرجت بثينة من بيت حميها باتجاه الدرج الخارجي الموصل إلى بيتها، جهّزت لحميها وحماتها طعام الغداء ورتّبت البيت ثم انسحبت خارجة في صمت، رافضة عرضهما بالبقاء لبعض الوقت.
مشيت بكسل ووجهها يكسوه الملل، منذ فترة ووجهها يكسوه الملل، بل تغلغل الملل تحت بشرتها وحوّل ملامحها إلى ملامحه، وكيف يبدو وجه الملل؟
ليس جميلًا وليس قبيحًا، ليس أملس أو خشنًا، والبشرة ليست شفافة لكن لا لون لها، إنه تمامًا مثل وجه بثينة طراز 1976. امتلكت يومًا وجهًا عاديًا، بل ربما وجهًا جامحًا، لا يهم هذا، المهم أنه كان وجهًا حيًا يتوسطه أنف معقوف تعلوه عيون زرقاء ويدنوه فم حاد وذقن واسعة ويكسوه شعر بني أهوج.
مر 16 عامًا على زواجها برائف ومزاجه وحدّته وأبيه وأمه. وقتها كان رائف من أوائل منْ خرجوا للعمل في مطعم في الجنوب، يغيب طويلًا ويعود ليومين كل أسبوعين. سكن تل أبيب. تزوجت وهي في الثامنة عشرة، ترتيب أمهات، لم توافق ولم تعترض على رائف، جاء الزواج الذي تنتظره في هيئة رائف فتزوجت.
(2)
سمعت بُثَيْنَة صوتًا أمامها فانتبهت من كسلها ووجدت نفسها أمام يوسف الذي قفز عن السور المنخفض الذي يحيط ببيتهم.
– من أنت؟
– دعيني أختبئ عندكم. بين الزيتون وراء البيت، الشرطة خلفي.
– في حظر تجول، كسرت الحظر؟ منْ أنت؟
– يوسف، كنت في المظاهرة، ما سمعتِ ضرب النار؟ دعيني أمر.
– يوسف أخ سهيل وهيفاء؟ الصغير؟
وكأنها فطنت إلى أن الحديث ليس في وقته.
– تعال، تعال إلى العليّة في بيت عمي، أسرع، أسرع. لن ينتبهوا. ماتوا ناس؟
تبعها وهو يقول:
– إنهم يفتشون البيوت.
– لن يجدوك.
أسند رأسه إلى الحائط وأمسك ركبتيه ليثبّت قدميه إلى جسده فلا مكان لهما ممتدتين، نجحت بثينة بتكديسه خلف عبوتي صفيح ملطختين من الخارج بزيت الزيتون، وأمرته ألّا يتعدّى رأسه ارتفاعهما في حال سمع أي جلبة في الدار.
– كل منْ ينظر إلى هذه الزاوية لا يعرف أن وراء الصفائح فراغ. كما أني لم أر عليّة فوق الحمّام إلّا في هذا البيت. واصِل الضغط على الجرح، لا تدعه ينزف.
نزلت عن السلّم وسحبته بعيدًا.
على الأغلب أن رائف خارج البيت، لم يستغرب يوسف أنه لم يره، فهو يعمل خارج البلدة ولا يعود إلّا مرة كل أسبوعين. البلدة صغيرة والكلّ يعرف الكلّ، سمع هذه المعلومة في جلسة عائلية ذُكر فيها اسم بثينة أثناء حديث دار بين التوأم هيفاء وسهيل حول حنينهما إلى أيام المدرسة.
رفع القماشة البيضاء التي لفّت بها بثينة جرحه، فوجد الدم يسيل لكن أخف من ذي قبل، اصطدم وهو يركض بعامود حديد فجرح ذراعه أعلى المرفق. هو يعرف جيدّا بثينة، هو لا يعرف بثينة، هو يعرف قصّة بثينة.
(3)
لم ينتبه العجوزان الى أن بثينة أدخلت يوسف إلى بيتهما، فتسلّلت من الدار صامتة. فمن الأفضل ألّا يشكّا في حال هجمت الشرطة على البيت. ركّزت تفكيرها، إن أتوا فسيأتون خلال وقت قصير، رائف الجبان، ما كان ليأوي الصبي في الدار، لو عرف بأمرها!
تمهّلت قليلاً، فقد أعجبتها فكرة أنها تثور على رائف ولو من وراء ظهره، أرادت حماية يوسف فلا يلتقطوه في البستان. صعدت الدرج، دفعت الباب واتجهت مباشرة إلى المرآة، نظرت إلى وجهها، وشرعت تُفكِّك تجعدات الملل، توردت وجنتاها ووجدت نفسها تُدندن.
ما إن انتبهت إلى صوت الجلبة حتى دفع أحدهم الباب بقدمه، لمحته بالمرآة قبل أن تستدير لتواجه الشرطي المقتحم، أهو جندي أم شرطي؟
بدأ بالصراخ عليها في كل حال، توّردت وجنتاها أكثر ولم تردّ، لأنها لم تفهم أو تظاهرت أنها لا تفهم. لحق به ثلاثة آخرون، أحدهم يرطن بالعربية، دفعوها جانبًا، وهي تصرخ بهم:
– أنا وحدي، وحدي.
بيتها غرفة نوم وصالة في طرفها الحمّام، على مدخله مرآة ومغسلة، وفي طرف الصالة الآخر مطبخ صغير خلف ستار أطرافه مهترئة. لم يكن البيت يحتاج أربعة رجال أشدّاء لتفتيشه. فاجتمعوا عليها مرة أخرى واندفع أحدهم باتجاه الحمّام وأخذ يكسر المرآة والمغسلة غضبًا على ما لم يجده.
سمعت صوتًا من الأسفل، بيت حميها ويوسف، هناك آخرون إذن. أشار لها أحد الجنود أن تتقدّمهم، فمشيت ببطء، أطلّت برأسها فوجدت الشيخين في ساحة الدار ومجموعة من الجنود يجوبون الدار والبستان ويعودون.
صرخ عليها أحدهم سائلًا بالعربية، قبل أن تصل الدرجة الأخيرة:
– أرأيتِ أحد الهاربين؟ ويلكم إن أخفيتهم.
وقفت بثينة قرب العجوزين وظهورهم جميعًا للحائط. والجنود يدخلون ويخرجون من البيت ويختفون بين الأشجار ويظهرون. لمحت فجأة على الأرض خطًا متعرجًا من الدم. فحرّكت عينيها لتقدّر طوله، ربما شبرين أو ثلاثة ثم ينقطع. فحرّكت عينيها أكثر باتجاه باب البيت، وانتبهت إلى خيط دم آخر يمتد على العتبة، خيط رقيق، أطول من سابقه يدخل البيت فلم تر له نهاية، همس حموها:
– ليت رائف كان هنا، أين هو؟
– وماذا كان سينفع وجود رائف؟
أجابت بهمس أيضًا لكن بغضب، لو كان رائف موجودًا لزاد الطين بلّة، لبدأ يتحدث بالعبرية، ولشعر الغبي أن هذا يُقرِّبه من الشرطة، ولاستفزهم أكثر بسماجته، ولما ستر يوسف، هو لا يحميها ولا يحمي أبويه.
اعتادت غيبته، فضّلتها، صحيح أنها أسيرة البيت في حضوره وفي غيابه، لكن حضوره أخفّ حملًا. عشر سنين وهي صابرة بحكم أهلها على عجزه وسوء طبعه وكثرة غيابه، ثم حدثت المعجزة وحملت 7 شهور كاملة، تحول هو خلالها إلى إنسان آخر. وولدت شافع، ومات شافع، أسماه أبو رائف بعد موته ليكون شفيعهم في الآخرة. لكن من يشفع لها في هذه الحياة؟ لم تعد تطيقه، يعود يومين في الأسبوع، يقضي جلهم في المقهى وهي تنتظر أن يسافر مجددًا. توقّفت عن الكلام مع أهلها عن الطلاق، حكمهم نافذ.
(4)
نصف ساعة أو ساعة، ترك الجنود ونجا يوسف. مسحت الدم عن الأرض وتتبعت الطريق إلى العلية فلم تجد أثر دم آخر، موّه البلاط القديم المعتق لون الدم فلم يلاحظوه.
– يوسف، قد رحلوا. لكن اصبر حتى أتدبر أمر خروجك، سننتظر الليل.
رتّبت البيت ونظفته وأخرجت كرسيين مكسورين إلى الخارج. أطلت برأسها من البوابة الصدئة، بيوت حارتهم قليلة في طرف البلد، لكنها شاهدت جارتهم تطل برأسها من الشباك. فصرخت:
– عايدة، انتهى منع التجول؟
– لا لا يا بثينة، ما انتهى، دخلوا فتشوا عندكم؟ فتشوا عندنا ونبشوا لنا البيت، حظي أن أولادي صغار. بثينة، ماتوا ناس.
أغلقت الباب، وأسرعت إلى يوسف.
– يوسف، كيف أنت؟
– تعبان وعطشان.
انتظرت حتى سمعت أذان العشاء، أنزلت يوسف من العليّة، أشارت له بالصمت. ومشيت بحذر، خرجا من الباب إلى ساحة الدار المظلمة، توقّف يوسف، فالتفتت نحوه وأشارت له أن يتبعها. صعدت الدرج وهو يسير وراءها مُتردِّدًا.
– اجلس وكل.
– أريد الذهاب إلى الحمام.
– اغسل يديك في المطبخ.
تناول الطعام بشهية مفتوحة، لم يتكلم وهو يأكل.
– سلمت يداك يا أختي.
– ألست طالبًا في دار المعلمين في حيفا؟ فما الذي كنت تفعله في المظاهرة؟ أكيد أهلك قلقون عليك.
كشف عن جرحه، تجمّد الدم السائل على طول ذراعه وقميصه وفوق منطقة الجرح نفسه. تناولت بثينة بعض قطع القماش وبلّلتها بالماء وأخذت تزيل الدم عن ذراعه.
– سآتيك بقميص نظيف.
اختارت قميصًا قديمًا لرائف، بدّل قميصه بسرعة وجلس على الكنبة.
– أعتقد أن أهلي سيجنّ جنونهم الآن، أرجو ألّا يبحثوا عني وألّا يخبروا أحدًا عن غيابي.
– لماذا خرجت؟
– سوف يصادرون أراضي البلد، فكيف لا نخرج؟ أنتركهم يأخذونها؟ ودون مقاومة؟
– ليست أول مرة. كل أراضينا صودرت.
توقف برهة:
– أحيانًا لا تستطيع أكثر، بعض الظلم يُطاق وبعضه لا يُطاق. إذا راحت «أراضي الملّ» [1] فلا عيش لنا.
– ماذا تتعلم في دار المعلمين؟
– لغة عربية.
– لهذا تُحسِن الكلام. ثم أنت طالب؟ لماذا خرجت؟
– أنا طالب؟ وأنت لماذا لم تخرجي؟ لأنك امرأة. ورائف؟ لأنه يعمل. منْ يحمينا؟
– امرأة، حمتك امرأة.
صمت قليلًا، ثم استطرد:
– صحيح، وأنا شاكر لكِ بثينة.
أخذت قميصه المتسخ إلى المطبخ لتغسله.
اقترب يوسف من الستارة المهترئة.
– أنا أفهم صعوبة أن تخفيني عندك وزوجك غائب.
صمت آخر.
– بثينة، لماذا تبقين مع رائف؟
لم تتوقع هذا من الصبي، أهي وقاحة أم ولادة السّر بينهما؟ سمحت له أن يتحدث بما لا يعنيه. وهل هذا هو وصف حالها مع رائف؟ تبقين؟ زجرته برقّة.
– ما سؤالك هذا؟ لنفكر كيف ستعود إلى بيتكم في حظر التجوال ودون أن يراك أحد تنزل من بيتي، سننتظر منتصف الليل ثم تنزل. سيكون قميصك رطبًا لكن من الأفضل أن تأخذه معك.
– كل الناس تسأل.
ضحكت بصوت عالٍ، ضحكت طويلًا. فواصل:
– امرأة جميلة وهو سيئ الطبع والسمعة، يعيش بعيدًا عن البلد، ولا… ولا أولاد لديكم.
حدّقت به لا تصدق جرأته، انتابها بعض الحياء وتحركت مشاعر مشلولة منذ سنين، فولدٌ ميت هو لا أولاد. أجابته:
– لم يعلن أحد عن مظاهرة لحماية بُثينة من المصادرة.
تراجع إلى الوراء قليلًا، أنقذته هذه المرأة من السجن ومن البهدلة. أنقذت مستقبله، ومستقبل أهله. الحرية، نعم لديه الكثير ليقوله عن الحرية، والوطن والأرض. هل تريد بثينة أن تسمع؟
– أخبرتني عايدة، جارتنا، أن أحدهم قد استشهد.
(5)
طرق يوسف البوابة الصدئة ووقف ينتظر، مرت دقيقتان أو ثلاثة، ثم رأى بثينة تنزل عن الدرج، ترتدي بنطالًا عريضَا وقميصًا قصير الأكمام أزرق اللون يُبرِز لون عينيها. فتحت الباب فخفض رأسه.
– أتيتك بالقميص، كيف حالك؟
أخرج القميص من حقيبته وناولها إياه.
– بخير، وأنت؟
توهّج وجهه.
– بخير. بثينة، فكّرت كثيرًا، يمكن أن أخبر أهلي أنك ساعدتني، وسيقفون جانبك إذا قرّرت أن تتركي رائف، لا يمكن أن تستمرّي على هذا الحال.
– ما هذا الّذي تقول؟ لا يتحدث أحد بمثل هذا.
– أنتِ شجاعة وقويّة وصبيّة، لماذا تقبلين بهذا الوضع؟
رمقته بتعجّب، صبيّة؟ هي تكبره بأكثر من عشر سنين، بقيت إثارة ذلك اليوم معها واحتفظت بوجنتيها متوردّتين، حتى أنها لم تشجع رائف على إصلاح المغسلة المكسورة.
– ألا يكفيك إنقاذ أراضي المَلّ؟
تمت
- الملّ: هو المسمى الفلسطيني للمنطقة التي صادرها الحاكم العسكري الإسرائيلي عام 1976 ومنع الفلاحيين من الدخول إليها، وأطلقت عليها الأجهزة الأمنية الإسرائيلية اسم المنطقة رقم 9. وبسبب المسيرات والمظاهرات والإضرابات، التي قام بها الفلسطينيون في ذلك الوقت (30 مارس/أذار 1976)، صار هذا اليوم يُطلَق عليه «يوم الأرض الفلسطيني»، ليتم إحياء هذه الذكرى كل عام في نفس التوقيت.