برج خليفة وسجن الرزين: وجهان لدولة واحدة
يواجههم الموت يوميًا، بينما تبقى أجسامهم حية تأبى الاستسلام لحالات التعذيب الممنهج التي يتعرضون لها، إلا أن أرواحهم تذوق آلام الخلاص في كل لحظة، تحجب النوافذ عنهم الشمس بالطوب أحمر اللون، وتحجب السلطات عنهم الحياة بأسوار سجن الرزين بالإمارات العربية المتحدة.
تقطعت ملابس بعضهم بعد أن بقيت على أجسادهم لشهور من غير تبديل بسبب مصادرة إدارة السجن لمقتنياتهم الشخصية، يمُنع عنهم الطعام حينًا ويتم إمدادهم بالمواد الغذائية الفاسدة في أحيان أخرى؛ مما عرضهم للتسمم الغذائي في ديسمبر/كانون الأول 2014، وتبقى قصصهم سرًا لا تبوح به السلطات ولم يصبح لدى أصحابها أصواتًا تقدر على البوح.
الوجه القبيح للإمارات الكذوب
وجهٌ آخر لا يعرفه الكثيرون عن دولة برج «خليفة»، وجه قبيح لا تحبذ السلطة إظهاره. فتعمل الحكومة بشكل دؤوب لتصدير صورة حسنه متمثلة في النشاطات الاقتصادية العملاقة والمعالم السياحية ومراكز التسوق والبنايات الشاهقة، حتى تخفي عن أعين العالم ما تخبئه من ديكتاتورية ساكنة وسياسات تعسفية تلاحق كل من يحاول أن يكشف عن كذب السلطة أو يعارضها.
تتوارث الأسر الحاكمة للإمارات السبع الحكم، تخضع وسائل الإعلام للرقابة الشديدة، ولا تسمح السلطة بوجود مؤسسات مجتمع مدني قادرة على ممارسة أنشطتها بحرية. كما تمنع القوانين الجمعيات الأهلية وأعضاءها من ممارسة أو التدخل بالشئون السياسية للبلاد، مما يحول دون تكوين أحزاب سياسية مستقلة.
يُعد سجن الرزين حلقة في سلسلة سياسات القمع التي يتبعها النظام الحاكم بالإمارات، والتي بلغت أوْجها بعام 2011 بعدما تقدم مجموعة من الأكاديميين والقضاة والصحفيين والمحامين وغيرهم من المواطنين الإماراتيين، بعريضة موجهة إلى مجلس الدولة وحكام الإمارات السبع، مطالبينهم بضرورة البدء في إحداث إصلاح ديمقراطي متدرج للبلاد.
وطالبت العريضة بحق المواطنين في الانتخاب العام، وإيجاد سلطة تشريعية ممثلة في برلمان يتم انتخاب أعضائه بشكل مباشر من الشعب. فكان الرد على عكس ما توقعه المتقدمون بالعريضة – 133 شخص من بينهم 19 امرأة – حيث بدأت السلطات في اتباع خطواتها القمعية لإسكات كل صوت حر يطمح بالتغيير المجتمعي، بعدما رسمت ثورتا تونس ومصر أملا جديدًا وطموحًا لكل مواطن عربي.
«أخفت السلطات قسرًا واحتجزت بمعزل عن العالم الخارجي الأفراد الذين انتقدوا الحكومة أو حلفاءها»؛ هكذا أفاد التقرير العالمي ل «هيومن رايتس واتش» عن الأحداث المستمرة من 2011 إلى 2015 بالإمارات. فمنذ إبريل/نيسان 2011 ويتعرض النشطاء السياسيين والحقوقيين للقمع، فتم اعتقال خمسة من النشطاء من قبل أمن الدولة الإماراتي، من بينهم أحمد منصور حيث كان أحد الموقعين على العريضة. وعرفت تلك الواقعه ب «الإماراتيون الخمس»، حيث تم منحهم العفو الرئاسي بعد شهور من الحكم عليهم بالحبس لسنوات متفاوتة، إلا أن السلطات قامت بإبعاد أحمد عبد الخالق – مدون وناشط سياسي ومن ضمن الإماراتيين الخمس – عن موطنه حيث تم تهجيره إلى تايلند في عام 2012، إلى جانب تجريد آخرين من جنسيتهم بسبب معارضتهم للنظام الحاكم وتوجيه نقدهم إلى الحكومة.
كما غضبت السلطة على المنظمات غير الحكومية بسبب مطالبتها هي الأخرى بالإصلاح السياسي، فقامت الحكومة بحل مجلس إدارة جمعيتي «فقهاء القانون» و«المعلمين»، متهمة إياهم بالتدخل في الشئون السياسية للبلاد، وهو ما يجرمه القانون. ولم تنأ المنظمات الدولية بنفسها عن ما تتعرض له المعارضة المحلية من قمع، حيث قامت السلطات الإماراتية بإغلاق مكاتب فرعية تابعة لمنظمات أجنبية تهتم بالإصلاح الديمقراطي الإماراتي.
الإخوان هم السبب أيضًا
سجين الرأي الدكتور أحمد غيث السويدي، أثناء محاكمته في مارس/آذار 2013
همت السلطة الإمراتية باتباع كل ما في وسعها حتى تتمكن من الإفلات بنفسها من سيناريو ثورات الربيع العربي، على الرغم أن النشطاء السياسيين لم يطمحوا إلى الكثير، فقط طالبوا بالإصلاح التدريجي، فكانت حملات الاعتقلات اعتبارًا من مارس/آذار 2012 حليفًا لهم.
وكان المنتمون إلى جمعية «الإصلاح والارشاد الاجتماعي» هم أول الذين استهدفتهم السلطات، حيث تعتبر الجمعية جزءًا من المجتمع المدني الإماراتي واكتسبت تأييدًا شعبيًا من مختلف طبقات المجتمع طوال أكثر من 35 عامًا من تاريخ إنشائها. وجاءت تصريحات النائب العام في 15 يوليو/تموز خير معبرٍ عن عن منهج السلطة في التعامل مع معارضيها، حيث اتهمهم بالتعاون مع منظمات وأجندات خارجية؛ في إشارة واضحة إلى جماعة الإخوان المسلمين بمصر.
وتمت محاكمة 94 إماراتيًا من بينهم أساتذة جامعيين ومستشارين وموظفين بالحكومة، في 4 مارس/آذار 2013، فيما عُرف مجتمعيًا بمحاكمة «إمارات 94» بتهم التخطيط لقلب النظام السياسي القائم والانضمام إلى جماعة سرية تهدف للاستيلاء عن الحكم، في إشارة إلى جمعية الإصلاح.
عُرفت المحاكمة بالهزلية، حيث الاعتماد على أدلة وشهادات ضعيفة، بالإضافة إلى الخروقات القانونية التي شابت المحاكمة، ومنع مراسلي وسائل الإعلام الدولية والمراقبين الدوليين من حضور المحاكمة، وكان من بينهم منظمة العفو الدولية. هذا إلى جانب مزاعم المتهمين بالتعرض للتعذيب الممنهج أثناء احتجازهم وقبل الحكم عليهم.
وتوالت المحاكمات الجائرة – كما تصفها منظمة العفو الدولية – منذ ذلك الحين، وشملت 20 مصريًا زعمت السلطات انتماءهم إلى جماعة الإخوان المسلمين وسرقة وثائق إماراتية سرية، وأصدرت المحكمة أحكامًا ضدهم بحد أقصى خمس سنوات، إلى جانب القضاء بترحيلهم إلى موطنهم الأصلي – مصر – بعد قضاء مدة الحبس المقررة.
كما أصدر رئيس الدولة قانونًا لمكافحة الإرهاب بأغسطس/آب 2014، اختص بتوسيع نطاق الأعمال الإرهابية وعقوباتها. وفي السياق ذاته تم تصنيف جماعة الإخوان المسلمين كجماعة إرهابية مع عدد من التنظيمات الأخرى.
من داخل جوانتانامو الإمارات
وسط صحراء أبو ظبي يقبع وجه الإمارات المخبأ، حيث سجن الرزين المشدد الحراسة والمليء بالسجناء السياسيين والنشطاء الحقوقيين حيث يقع تحت سيطرة أمن الدولة، في مخالفة للقوانين المنظمة لقطاعات السجون التي من المفترض أن تشرف عليها رسميًا وزارة الداخلية.
و صنف المركز الدولي لدراسات السجون بفبراير/شباط 2016 «الرزين» بالسجن الأسوأ سمعة من بين السجون العربية، لما يواجهه المعتقلين من انتهاكات بداخله، حيث المعاملة السيئة والتعرض لأبشع أنواع التعذيب ومصادرة مقتنياتهم وعدم السماح لهم بالزيارات الأهلية. هذا بالإضافة إلى تقليل عدد الثياب المسموح بها للمساجين ومرات غسلها، تمتنع إدارة السجن من توفير مستلزمات النظافة الشخصية لمساجينها وتراقب مكالمتهم مع ذويهم وقطعها عليهم دون سبب، إلى جانب منعهم من الصلاة جماعة أيام الجمعة.
ويطلق على السجن «جوانتانامو الإمارات» في أوساط المعارضة الإماراتية. وأشار المركز الدولي للعدالة وحقوق الإنسان في أواخر عام 2015، إلى معاقبة أحمد الطابور؛ الحقوقي وعضو جمعية الإصلاح سابقًا بالسجن الانفرادي بسبب احتفاظه بقلم. ومن خلال بيان للمركز الدولي تم الكشف عن أسماء بعض المسئولين المتورطين في خرق اتفاقيات حقوق الإنسان العالمية لسجناء الرأي، و قال المركز «علمنا أن سلطات سجن الرزين تشنُّ حملة شرسة على المعتقلين منذ بداية شهر سبتمبر، حيث قام أحد أعوان السجن المدعو طارق حمد المقبالي على رأس كتيبة من الحراس النيباليين مدججين بالأسلحة والكلبشات بوضع القيود على أيدي وأرجل المعتقلين ولكل من يتفوه بكلمة أو يعترض على الممارسات الهمجية».
ومن بين المسجونين بسجن الرزين؛ المحامي الشهير محمد المنصوري والقاضي محمد العبدولي وأستاذ القانون هادف العويس والمعلم نجيب العامري، ولا يجمعهم سوى القليل من الطموح الذي انتابهم بعد ثورات الربيع العربي، فتقدموا بدعوات للإصلاح السياسي إلا أن سجنهم وتشريد ذويهم كان النتيجة.
مما يفسر سياسات الإمارات المعادية لثورات الربيع العربي منذ لحظة انطلاقها – خوفًا من عدوى التغيير – وسعيها الدائم لمد أنفها في شئون الدول العربية الداخلية، لإفشال تحركات الشعوب تجاه تحقيق الحرية والكرامة الإنسانية، فلن تنعم بالديكتاتورية الساكنة طالما تحقق الدول الأخرى ولو خطوات طفيفة تجاه الديمقراطية الحقة.