الوظائف التافهة: تروس عاطلة في ماكينة الرأسمالية
نظرة عابرة لتلك الأمثلة تثير الكثير من الأسئلة حول جدوى وجود تلك الوظائف، وكيف لا يمكن لأحد أن يلاحظ غياب موظف عن عمله طيلة هذه السنوات؟
الإجابة ببساطة أن هذا العمل لم يكن يقدّم أي خدمة تذكر. وهذا أيضًا حال الوظائف الأخرى التي لا تقدم أي قيمة مضافة إلى العمل، فجميعها وظائف هراء، وبشكل أكثر بساطة وظائف وهمية وتافهة.
الوظائف التافهة: ليست حكرًا على القطاع العام
من المفترض أن أي وظيفة لها دور معين تؤديه لكي تستمر منظومة العمل، فإذا غاب ذلك الدور فمن شأنه أن يؤثر على المنظومة سلبًا، لكن على أرض الواقع -وكما رأينا- هناك الكثير من الوظائف التافهة التي تفتقد لمثل هذا الدور.
فهي وظائف غير ضرورية، لا معنى لها، ولا تضيف جديدًا إلى العمل، غيابها لا يُحدث فرقًا على الاطلاق، بل يمكن أن تصبح المنظومة في وضع أفضل دونها. وأكثر ما يميز هذه الوظائف أن من يعمل بها يدرك جيدًا أنها لا تُقدم شيئًا جوهريًا، ولا يستطيع حتى أن يبرر وجوده، ومع ذلك عليه أن يتظاهر بالعمل وتقديم الخدمات.
للوهلة الأولى يبدو أن هذه الوظائف ينحصر وجودها في القطاع العام، حيث الجلوس لثماني ساعات والتظاهر بالانشغال في عمل قد لا يستغرق سوى ساعتين أو ثلاث، إلا أن الأمر ليس كذلك. فالقطاع الخاص أيضًا يزخر بمثل هذه الوظائف الأمر الذي يتنافى مع طبيعته، فُيفترض بكل شركة خاصة ألا توظّف فوق حاجتها، وأن تقوم بتحسين أدائها بشكل مستمر، بما في ذلك تخلصها من الأعمال التافهة.
هي بالفعل تقوم بتحسين أدائها بشكل كبير، لكن للأسف تقع عملية التحسين هذه على رؤوس من يقومون بأعمال حقيقية غير تافهة، وهم عادة العمال في المصانع، والمُعلّمين والممرضات، وغيرها من الوظائف التي تقع في قاعدة السلم الوظيفي. لكن كلما ارتقينا في السلم الوظيفي زادت نسبة وأعداد الوظائف التافهة.
للهراء أشكال عديدة
انتشار هذه الوظائف بشكل كبير دفع ديفيد جريبر (أستاذ الأنثروبولوجيا بكلية لندن للاقتصاد) إلى كتابة مقالة عام 2013 عن ظاهرة وظائف الهراء، كانت مجرد فرضية، ولكن أثارت الكثير من الجدل، وتوالت آلاف التعليقات من أشخاص يؤكدون أن وظائفهم أيضًا وظائف هراء لا جدوى منها.
شجعت هذه الضجة جريبر على تطوير مقالته إلى كتاب، فطلب من أتباعه على «تويتر» إرسال قصصهم وتجربتهم بتلك الوظائف، كما اعتمد على استطلاعات آراء رسمية وأخرى قام بها بنفسه، حيث كان التساؤل «هل تعتقد بأن الوظيفة التي تشغلها هي وظيفة تافهة؟» فكانت المفاجأة أن 37%من البريطانيين و40% من الهولنديين الذين تمّ استفتاؤهم أكدوا أن عملهم لا يؤدي أي مساهمة للعالم.
انطلاقًا من هذا، بدأ جريبر يعدد الأمثلة لقطاعات العمل التي يمكن أن توجد بها هذه الوظائف، فتطرق إلى قطاعات كالإدارة والمبيعات والخدمات، حيث موظفي الاستقبال الذين تنحصر مهمتهم في أحيانًا كثيرة في كونهم واجهة للشركة، وموظفي العلاقات العامة، والإداريين والاستشاريين، ومحامي الشركات، والمسوقين عبر الهاتف، الذين يتقاضون رواتب مقابل الجلوس والعمل بوظائف غير ضرورية، وهم يعرفون ذلك. وهكذا تم تقسيم تلك الوظائف إلى 5 أنواع، كالتالي:
1. الإمعة
ومهمتهم تمكين الأشخاص الآخرين من الظهور بشكل جيّد، والمثال الأبرز على هذا موظف استقبال في مكان لا يحتاج حقًا لذلك، فهو يحصل على مكالمة هاتفية واحدة في اليوم، يمكن للمدير تلقيها بنفسه، ولكن الأمر لن يكون جيدًا لصورة الشركة ومديرها، كذلك إذا دخلت إلى المكتب دون أن تمر على هذا الموظف، فالأمر لن يكون لطيفًا.
2. الحمقى أو التابعون
وهم يعملون في وظيفة ما لأن هناك أشخاصًا مثلهم، كما هو الحال في هو التسويق عبر الهاتف، أنت فقط في حاجة إليها إذا كان منافسوك لديهم نفس الوظائف، وينطبق ذلك أيضًا على محامي الشركات وموظفي العلاقات العامة.
3. مُغلِقي الفراغات
توظفهم الشركات لإزالة الأضرار الناجمة عن خطأ ما عوضاً عن استئصال المشكلة من جذورها، فمثلًا، إن استعنت بنجّار يعمل في شركة لأعمال النجارة وأحدث مشكلة ما في الحائط، فمن حقك أن تتصل بالشركة لحل المشكلة، وفي حال عدم قدومه، فهناك من يعمل بالشركة طوال اليوم لتلقي الشكاوى، وتكمن وظيفته بمحاولة طمأنتك وتقديم الأعذار للنجار الغائب على شكل اعتذارات لطيفة، لكن في حال استبدال الشركة للنجار المتقاعس، لن يكون هناك سبب لخلق هذه الوظيفة.
4. ملصقو الصناديق
وهم موجودون للتغطية على أخطاء مؤسساتهم عبر الإدعاء بأنها تقوم بأمور هي لا تقوم بها بالفعل. وأبرز الأمثلة عليها لجان تقصي الحقائق، تلك التي تُنشئها الحكومات إذا ما شعرت بالحرج من أمر ما، كأن يطلق رجال الشرطة مثلًا النار على بعض المواطنين، أو يثبت وجود مسئولين تقاضو رشاوى بالفعل، حيث يتم تشكيل مثل هذه اللجان والادعاء بأن الحكومة لم تكن تعلم بحدوث هذا، وهو أمر غير صحيح – في الأغلب- ولكنه مخرج من الأزمة.
5. مانحو المهمات
ويندرج تحت هذا النوع، الأشخاص الذين يأمرون موظفين آخرين بالقيام بهمات ليست ضرورية، أو المشرفين على عمال لا يحتاجون لإشراف. كما هو الحال في الإدارة التنفيذية التي تكمن مهمتها في إرشاد عمال مهنيين يعلمون ماهية عملهم، عبر إخبارهم بما يجب أن يفعلوه، عن طريق عقد اجتماعات لا معنى لها، أو وضع أهداف يقوم الموظفون بالعمل نحو تحقيقها أصلًا.
وعلى الرغم من تفاهة ووهمية هذه الوظائف فإنها في أغلب الأحيان ذات أجور مرتفعة، أما الوظائف الحقيقية فعادة ما تكون ذات رواتب منخفضة، وكأن البشرية تعاقب أصحابها: أنت تمتلك وظيفة ذات جدوى ومجزية وفوق كل هذا تطلب راتبًا عاليًا؟ كيف تجرؤ على هذا؟
في الرأسمالية كما الاشتراكية
انتشار هذه الوظائف كان أمرًا مبررًا في النظم الاشتراكية حيث البيروقراطية وسياسات التوظيف للجميع التي تتبعها الدولة، ولكن انتشارها بهذا الشكل في النظم الرأسمالية يتعارض مع نهجها النفعي والقاعدة العامة لها، القائمة على تحقيق أكبر أرباح ممكنة بأقل عدد من الموظفين. فلماذا الاستمرار في إنشاء مثل هذه الوظائف والابقاء عليها؟
يرجع ذلك إلى عدد من العوامل في مقدمتها:
1. نمو قطاع الخدمات
فقد أدى التطور العلمي والتكنولوجي الهائل إلى انخفاض الاعتماد على العمالة في الزراعة والصناعة، ونمو قطاع الخدمات في كثير من دول العالم، ففي الولايات المتحدة ارتفعت نسبة مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي من 59% عام 1965 إلى 65% عام 1998، وفي بريطانيا من 51% إلى 56%، وفي ألمانيا من 43% إلى 47%. وترتب على هذا زيادة نسبة العمالة عديمة الجدوى المُستوعبة داخل هذا القطاع.
2. التنافس بين المديرين
فالرأسمالية لم تعد كما كنا نتخيلها من قبل، مجموعة من الشركات متوسطة الحجم تعمل في التصنيع والتجارة، وفي منافسة مع بعضها البعض، فالمنافسة لم تعد بين الشركات فقط بل داخل الشركة الواحدة ذاتها، حيث يتنافس المديرون على عدد الأشخاص الذين يعملون لديهم، وكلما زاد هذا العدد من إداريين واستشاريين وما شابه زادت المكانة الاجتماعية لهم، فكل سيد لابد أن تكون له حاشيته.
3. سياسة الفعالية في القطاع الخاص
السياسة الداخلية للشركات الخاصة تمثّل عائقًا كبيرًا للتخلص من هذه الوظائف، فسياسة الفعالية التي تعتمدها هذه الشركات في توفير الوقت والموارد، تُفرض -كما سبقت الإشارة- على موظفي الدرجات الدنيا، أولئك الذين يقومون بأعمال حقيقية، فهم الأكثر عرضة لعمليات التقليص والتسريح.
4. الوظائف التافهة كوسيلة للسيطرة
الأمر لا يتعلق بالاقتصاد وحده بل تتداخل معه السياسة، فهذه الوظائف غير مربحة للاقتصاد العالمي، لكن الإبقاء عليها يضمن للنظام الحاكم البقاء والسيطرة، فالشعوب المنشغلة بما يشبه العمل هي حتماً أقلّ ميلاً إلى الانتفاض.
وليس أدل على ذلك من إجابة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما عندما طُرح عليه سؤال بخصوص التخلص من نظام الرعاية الصحي الخاص واستبداله بنظام موحّد أكثر كفاءة سيوفر مليارات الدولارات فيما يتعلّق بالجانب الإداري فقط. فكانت إجابته «أن توفير تلك المليارات يعني فقدان ملايين الوظائف كانت تُشغل في قطاع الرعاية الصحي الخاص».
5. العمل كغاية وقيمة أخلاقية
هناك أيضًا شعور دائم لدى الأفراد بأن العمل في حد ذاته قيمة أخلاقية، فمن لا يشغل ساعات استيقاظه بعمل إلزامي لا يستحق الحياة. هذا فضلًا عما ارتبط بالعمل من قبول اجتماعي، فحينما تعمل فأنت ذو شان ومكانة وتحظى بالقبول بمجتمعك، والعكس صحيح، وهكذا يصبح العمل غاية في حد ذاته، بغض النظر عما إذا كان يُنتج أي شيء ذي قيمة أم لا
ماذا عن آثارها النفسية والاجتماعية؟
على هذا النحو أدى اتجاه الأفراد إلى مثل هذه الوظائف عديمة الجدوى إلى ظهور عدد من التأثيرات السلبية عليهم كالاكتئاب ونمو المشاعر العدوانية، واليأس والإجهاد وانعدام الهدف والرؤية.
قد يبدو الأمر غريبًا بعض الشيء. كيف يمكن لشخص يعمل بوظيفة ذات راتب مرتفع وجهد بسيط أن يُصاب بالاكتئاب! إلا أن الاقتراب من واقع هذه الوظائف يشير إلى أن الاكتئاب والسخط أحد أبرز أعراضها بالفعل.
فالطبيعة البشرية تميل دائمًا إلى التأثير في العالم والواقع المحيط بها، وهذا التأثير هو من يجعل الشخص يشعر بوجوده. يبدو ذلك أكثر وضوحًا مع الأطفال،فهم يشعرون بالسعادة عندما تخرج ألعابهم أصواتًا، هذه السعادة ليست مصدرها الصوت، ولكن كونهم من جعلوها تُصدر هذا الصوت.
وهكذا فمن شأن العمل بمثل تلك الوظائف عديمة الجدوى التي لا تُضيف جديدًا، أن يصيب الإنسان بالاكتئاب، الناتج عن الشعور بافتقاد القدرة على التأثير.وما يزيد الأمر سوءًا اضطرار الموظف إلى التظاهر بالعمل طوال الوقت حتى لو لم يكن هناك شيء للقيام به.
ومن شأن هذه الوظائف أيضًا أن تخلق أشكالاً من الاستياء المتبادل، حيث يستاء هؤلاء الموظفون عديمو الجدوى من نظائرهم الذين يؤدون وظائف حقيقية، في حين أن أولئك الذين يقدمون عملًا حقيقيًا ويتقاضون أجورًا منخفضة يستاؤون من موظفي الهراء ذوي الأجور المرتفعة.