رواية «ممر بِهلر»: عن الحياة التي نريدها
يُحكى أن أحدهم كان يصدح بالحق بين أعيان المملكة، ينادي فيهم بنبذ الأنا والعمل من أجل العامة، لا يخشى في الحق لومة لائم، لا يأبه بمزاج الملك ولا رأي حاشيته، لم يكن يُسمع في مجالس الرجال إلّاه، حتى ظنّ البعض أنه مرسل من عند الإله، هبط من فوق سبع سماوات ليهدم الفساد ويحارب أهله ويقيم العدل ويجلو عن الأحرار خوفهم وصمتهم. فلما استيقظ الناس على فضيحة تكشف ستر سوءاته وتردم حسن قوله قبحاً، أيقنوا أن الجميع فاسدون، وليس لأحد في ذلك أي استثناء.
لكلٍّ تاريخ يعجّ بالفساد، لكلٍّ ثوبه الأسود القادر على طمس حاضره فجاءة وجعله محطّاً لأنظار الجميع ومرمى لسهام ألسنتهم. وإذا صدقنا الكاتب اللبناني «حنا عيسى» الذي قال «عندما يصل الفساد الكتب، فقد اهترأت حتماً كُل النُظم»، فعلى الدنيا السلام.
قام «علاء فرغلي» في روايته «ممر بهلر» باجْتِثاث القُبح كله من جوف الوسط الثقافي ليكشف لنا عن فساده بسخرية لاذعة وضحك مبكٍ. ولأن الراوي –وهو الشخصية المحورية- وشخصيات الرواية جمعاء تنتمي إلى المجتمع الثقافي من روائيين و شعراء وناشرين ومصمّمي أغلفة وصحفيين ونقاد وبوك تيوبرز، فنجد أن الفساد هنا من قبيل إقامة علاقة مع صاحب دار نشر مقابل نشر رواية ركيكة تشي بانعدام الموهبة، أو التخلي عن القناعات الشخصية مقابل العمل لدى مركز إعلامي يروّج لأفكار تتعارض مع فكر صاحبه وتحقق له الشهرة والمال أو كتابة مقالات نقدية طويلة تتسع لصفحات وأعمدة عن أعمال هشّة الموهبة والفكرة مقابل قُبلة من كاتبة أو هدية من كاتب صاعد يبحث عن ثقب ينحشر فيه بين الوسط الثقافي.
أو أن تعطَى ورش كتابية على أيدي كُتّاب ليسوا بكُتّاب ولا يحزنون ولكن كتبهم هي الأكثر مبيعاً لكثرة متابعيهم على صفحات التواصل الاجتماعي أو أن تكتب مقالات تتناول أعمالك الأدبية وتنشرها بأسماء أصدقائك فيبهت الجميع أمام كتاباتك وينحنون لك إجلالاً.
«الثورة إيثار»
يقول محمد عبده إن «الفساد يهبط من أعلى إلى أدنى، والإصلاح يصعد من أدنى إلى أعلى»، ما يعني أن السّاسة، الذين هم في قمة الهرم المجتمعي، هم المسئولون عن فساد من يليهم في الهرم، وإذا كان لمن ينتمون إلى طبقات العوام تلك أن يغضبوا من فساد من فوقهم، فعليهم إذا بالبدء بأنفسهم، وهذا ما قد حدث بالفعل في «ممر بهلر».
سيتخلص الكل من أنانيته وفرديّته التي يتقوقع داخلها لينفذَ من رحم ذاته إلى فضاء الجماعة. لذا فقد اجتاح بركان تطهّر غمر أرواح الجميع، فبدأت موجات الاعتراف تتوالى، ولكنه ليس اعترافاً سرياً هامساً خلف جدران الكنيسة بين يدي الكاهن، إنما اعتراف على الملأ، على مرأى ومسمع من الجميع.
فمنْ كان بالأمس أضخمهم تفاخراً وحباً لذاته وأشدهم نزقاً إذا ما أحسّ أنه لا يمثّل محور القيادة، أفضى باعترافات جريئة، وحينما تدفّقت السيول البشرية، كان يتقدّمهم بجسارة يصدّ الاعتداء عن الحشد، يبكي، يتصبّب عرقاً، يشارك في إسعاف منْ سقطوا، لا يتوقف عن إيقاد حماسهم وتأجيج غضبهم. أمّا منْ عرفناه كزير نساء، فقد تزوّج زيجة شرعية في نهاية المطاف.
هكذا إذن انسجم الجميع مع الملايين فأضحوا جسداً واحداً، وقد كانوا بالأمس القريب فرادى، غلّفهم لون أوحد لا يتميز فيه أحد عن الآخر. تساقطت الرغبات وتهاوت المصالح الفردية فتجردوا جميعاً من رداء الشهوة: شهوة المال والشهرة والحصانة.
المواطنون الصامتون
الراوي الذي يؤمن بصواب أفلاطون حين قال «إن السماء لو أمطَرَت حرِّيَّةً لفتح العبيد مظلَّاتهم» يخطّط لثورة مُحكمة البناء متماسكة القوى ثابتة الخطى واضحة المطالب، ليقف هو ومجموعته –الغارقون في فسادهم– في وجه جبل جليدي من الفساد، باحثاً عن فرصة «ستعدل المعوج وتعيد الحقوق وتقضي على الفوضى».
لم يرَ في الخوف حلّا قطّ، يؤمن بأناس ابتلع الخوف همّتهم حتى ماتت أرواحهم فلم تعد تحلم بغدٍ أفضل، وتحشرجت أصواتهم فلا تسمع لهم قولا. وحيث إن «الشيء الذي يُهيمن على روح الجماهير ليس الحاجة إلى الحرية وإنما إلى العبودية. ذلك أن ظمأها للطاعة يجعلها تخضع غرائزياً لمن يعلن أنه زعيمها»، كما ذكر «جوستاف لوبون» في كتابه «سيكولوجية الجماهير».
لذا يعتمد الراوي في الكتابة على فن الرواية، وفي السياسة على فن التأثير على مخيلة الجماهير. فاستطاع أن يخلق الزعامة لنفسه، فالتفّ حوله ظمأى الحرية، وعرف كيف يؤثر على مُخيّلتهم، ألهب حماسهم وأثار شجونهم وأضفى بنزيناً على نار حنقهم المحبوس، حتى هبطت الصرخات حجارةً على رؤوس الفاسدين، فأرّقت سباتهم.
من قلب الصُّحبة يُزهِر الرّجاء
أن تترك للخوف سبيلاً إلى قلبك يعني أن تتوقف عن التذمر وتضع حلمك جانباً، ذلك أن الخوف يجرّ صاحبه إلى الخضوع والاحتجاج، يجرّ صاحبه إلى المقصلة. خوف صامت تسلّل إلى صدور الرفقاء -الذين انتقاهم البطل المُمسِّك بشعلة الانطلاق والمصرّ عليها- أبعدهم واحداً تلو الآخر عن صاحبهم. حذّره البعض من العواقب غير المتوقعة، ولكنه يتفق مع سارتر في السخرية من الرأي الذي يقول إن الخوف هو «الطريقة الوحيدة لتظلّ من المواطنين الشرفاء».
غير أن الخوف تمكّن لاحقاً منه، أحسّ بذراته تبتلعه وتخنق مسام جلده حينما وجد نفسه محاصر بين جدران إسمنتية سميكة تحت الأرض أمتاراً، وصف رائحتها بـ«رائحة موت معتّق».
لم تلتقط أذنيه سوى حفيف أقدام تمرّ قبالة الكوّة الضيقة، التي «لا تسمح لرائحة الحياة بالدخول»، وصرخات مستغيثة من تهاوي السياط على أجسام عارية في زنازين مجاورة. صار وجِلَ القلب مسلوب الإرادة، بقي على هذا الحال طويلاً، حتى قالها بوضوح «في النهاية سأموت ولن يُدفن معي درع الجائزة… لن أعلن استسلامي».
هنا المدينة الفاضلة
كانت الجموع في أرض الميدان تتصرف كَصُحبة قديمة، إلى درجة تتيح لك مشاركة أحدهم طعامه دون إذن، أو أن تتناول الرشفة الأخيرة من كوب شاي لهذا أو ذاك، أو أن تجد سيدة تنزع عنك قميصك لتصلح ما به من مزق.
امتزج الجميع على أرض الميدان وتماهت الألوان والطبقات والانتماءات في تناغم بديع، حتى صار الميدان بيتاً ينتمي إليه كل ثائر لا يعجبه تلاشي 7000 عام من الحضارة، حيث «سياج الكوبري مترّب، ومصابيح العواميد منطفئة، وسلال القمامة بلا قعور، والرصيف متهدّم، والباعة يصفّون المقاعد البلاستيكية بطول النيل للإيجار، والسيارات قديمة متهالكة تبعث روائح منفرة، وباعة الورود لا يتركون زوجاً من العاشقين يسيران على حافة الحلم دون محاولة ابتزازهما، وكمين البوليس يستوقف بعضهم ويطالع البطاقات».
ثورات مصر على صفحات الأدب
عندما قامت ثورة 1919 كانت هناك «عودة الروح» بقلم توفيق الحكيم، وعندما اندلعت ثورة 1952 صار هناك «في بيتنا رجل» بقلم إحسان عبد القدوس، والآن لدينا «ممر بهلر» بقلم علاء فرغل.
هناك –دائماً– الأديب الذي يملك مفاتيح الإبداع ليرسم بكلماته مشاهد حية تنطق بصوت الجماهير المتدفقة في شوارع المحروسة وحاراتها وميادينها، فيمنحها الخلود على صفحات رواية أو قصة، فـ «عودة الروح» منحت الأبدية لثورة 1919، حيث يتوحّد الجميع تحت زعامة سعد زغلول، في الرواية يرى أثري فرنسي مستقبل مصر وقد غرق فلاحوها في الضرائب، فيقول «أمّة أتت في فجر الإنسانية بمعجزة الأهرام لن تعجز عن الإتيان بمعجزة أخرى، أو معجزات. أمة يزعمون أنها ميتة منذ قرون، ولا يرون قلبها العظيم بارزاً نحو السماء بين رمال الجيزة. لقد صنعت مصر قلبها بيدها ليعيش الأبد».
رواية «في بيتنا رجل» منحت الأبدية لثورة 1952، حيث يقصّ إحسان عبد القدوس قصة شاب جامعي لا يطيق الظّلم والانحناء أمام من سلب قوت وطنه، ويعُدّ المسئولين المتعاونين مع الانجليز خونة، لا يستحقون العيش، فأحال أحدهم جثة هامدة. ثم جاءت ثورة يناير في 2011 لتجد في «ممر بهلر» تخليداً لذكراها.
في «عودة الروح» و«ممر بهلر» يُمسَك بمن شارك في السخط ليُقبَر في سجن سحيق. إذاً، سواء في ربيع مارس أو في قرس يناير، تضع مصر مولودها بعد حمل طويل من الغضب المصفّد بين جدران القلوب والصبر والسكوت.
يهبّ الشعب دفقة واحدة فيجري نهر بشري لا توقفه دبابة ولا عصا أمنية ولا يد حاكم حتى يستعيد ما استُلب من قوتِه وحريته، فينتزعها نزعاً بالقوة العظمى: قوة الجماهير.
يعتمد البطل على قوة الجماهير كخير وسيلة للضغط على النظام، فيتحدث مع رفقائه عن الحشد عبر صفحة فيسبوكية تشحذ الهمم وترهف لها الأرواح المغلولة، فتحشد الأعداد الكبيرة التي ستملأ الميادين لتتحرك في دفقٍ لا يتوقف تحت راية تظلّهم جميعا على السواء.
في نهاية رحلة غامرة بالحب والكبرياء، الخوف والغضب، السخط والاستسلام، الدين والسياسة، الوفاء والخيانة، قبو السجن المقبض وفضاء سطح البيت الرّحب، يمكنني الجزم أن الراوي الذي يتذوق الأدب ويحترفه، يتذوق الثورة ويحترفها، فيسند الأدب بالسياسة، والسياسة بالأدب.