هل تعرف أحدًا يدعى فيصل الغامدي؟! على الأرجح ستكون إجابتك لا. وهذا غير مستغرب، لأن فيصل ليس إلا طفلًا من ناشئي نادي الاتحاد السعودي، لم يكن يعرف عنه الكثيرون أي شيء حتى مساء الحادي والعشرين من فبراير/شباط الماضي، وهي الليلة التي عاش فيها أكثر لحظات حياته رعبًا. 

ماذا حدث بالضبط؟ القصة بدأت مع وصول فيصل لملعب الجوهرة، وقد اتخذ موقعه رفقة جامعي الكرات حول عشب ملعب ناديه الذي يخوض مباراة هامة في مواجهة الهلال. كان حظ فيصل عثيرًا، حيث جلس خلف مرمى فريقه، وشاهد بعينيه شباكه تهتز مرتين، لكنه لم يكن يتخيل أن يصاب بكل ذلك الهلع بعد هدف الهلال الأول. 

لم يكن الهلع بسبب الهدف نفسه، ولكن بسبب طريقة احتفال لاعب الهلال بعد تسجيله، لأن من سجله هو المهاجم الفرنسي «بافيتيمبي جوميز» الذي همَّ بالزحف على الأرض كأنه أسد يزأر مطاردًا فريسته، ولم ينتبه لوجود فيصل الذي فرَّ مذعورًا من مقعده كأنه يفلت بحياته من مخالب الأسد.

الدور التاسع

طبعًا لم ينسَ بافي أن يبحث عن فيصل ما إن انتهت المباراة، ليستقبله هذه المرة بابتسامة عريضة بدلًا من التحديق المخيف بعينيه، قبل أن يطبع قبلة على جبينه ثم يخلع قميص الهلال ويهديه للولد الصغير الذي استرد وعيه. ولا بد أن سؤالًا واحدًا كان يجول في خاطر فيصل في تلك الأثناء؛ لو أن جوميز لطيف لهذه الدرجة فما سر احتفاله بتلك الصورة؟ 

https://twitter.com/as_arabia/status/1098691028083793920

وإجابة هذا السؤال تعود لسنوات بعيدة، حين كان جوميز لا يزال في عمر فيصل وينشط ضمن ناشئي الأندية الفرنسية الصغيرة، لكن ظروف طفولته لم تكن سهلة أو يسيرة مطلقًا. إذ إن بافيتيمبي كان أحد عشرة أبناء لوالدين هاجرا من السنغال بحثًا عن حياة أفضل في الجنوب الفرنسي، إلا أن كليهما لم يحمل شهادة جامعية أو يجيد حتى القراءة والكتابة، وهذا ما دفع الوالد لامتهان الأعمال اليدوية في البناء والتشييد. 

كان ما يتحصل عليه الأب يكفي بالكاد لسد نفقات الأسرة، لذلك لم يعش بافي في ترف، كما أنه لم يعش أيضًا في فقر مدقع، سوى أنه كان يكره المنزل الذي تعيش فيه الأسرة. لماذا؟ لأنه كان يقطن في الدور التاسع، ولم يكن هناك مصعد كهربائي، لذلك كان والده يضطر للصعود على قدمه الأدوار التسعة يوميًّا بعد قضاء النهار كله في عمله المجهد، ليدخل للمنزل ويلقى بافيتيمبي وإخوته بعد أن استنزف كامل طاقته. 

كان الولد الصغير يقدر تضحيات الوالدين، ويعرف أنهما سخرا حياتهما تمامًا لخدمة الأبناء والحرص على مستقبلهم، وهو ما شكَّل الوقود الذي دفع جوميز في حياته بعد أن حدد لها هدفين رئيسيين؛ الأول هو شراء منزل جديد للأسرة، والثاني هو الحصول على شهادة جامعية كما هي رغبة والديه.

كيف تحصل على راتب في الرابعة عشرة من عمرك؟

بصراحة لا أدري، لكن بافي فعلها. كان ذلك حين انضم لأكاديمية نادي سانت إيتيان بعدما لفت الانتباه. بدأ الآن يراكم المال البسيط في سبيل تحقيق هدفه الأول، وحاول استغلال الوقت بعد التدريبات لاستذكار دروسه سعيًا خلف الهدف الثاني. كانت الأمور تسير على هذا النحو حتى وقعت المباراة التي تأثر بها الصغير بشدة. 

حدث ذلك خلال موسم 1999/2000، حين استضاف فريقه سانت إيتيان نادي مارسيليا، ثم تغلب عليه بنتيجة تاريخية: 5/1. ثلاثة من أصل أهداف إيتيان الخمسة جاءت عن طريق المهاجم أليكس دياز. اللاعب البرازيلي الذي احتفل بهدفه الثاني زاحفًا على الأرض في استعراض يشبه الحيوانات البرية. 

في الحقيقة دياز كان يشير للشعار الذي اتخذه ناديه، وهو النمر الأسود. وهذا ليس نسبة لفيلم أحمد زكي الشهير، وإنما نسبة للمهاجم المالي ساليف كيتا، الذي سجل بقميص إيتيان 125 هدفًا في 149 مباراة، لذلك يعتبر أسطورة النادي ورمزه. 

على اليمين: الهاجم البرازيلي أليكس دياز، وعلى اليسار أسطورة سانت إيتيان المالي: ساليف كيتا.

ربما لم يكن جوميز يعرف كل ذلك حينها، لكن المؤكد أنه أعجب بشكل الاحتفال كما لقب النمر الأسود، وأحب أن يخوض مسيرته بهذه الشراسة والقوة، فحلم باللحظة التي يتم تصعيده فيها للفريق الأول ليكون هو النمر الجديد. لم يتأخر الأمر كثيرًا، فبعد أربعة أعوام من تسجيل دياز هذا الهاتريك، كان بافي يسجل الظهور الرسمي الأول مع ناديه. هل يمكنك تخمين ماذا فعل بعد أن حصل على مكافأته الأولى؟ 

ذهب مباشرة إلى والده وأخبره التالي:

الآن ستتوقف عن العمل، أنت شخص رائع ونحن نقدر ما فعلت لأجلنا، لكن ينبغي أن تستريح الآن وسأقوم أنا بتحمل تكاليف الأسرة.

بالطبع بعد مرور بضعة شهور كان جوميز يشتري منزلًا جديدًا، ويحقق بذلك هدفه الأول، لكن ماذا عن الهدف الآخر؟ 

قرر المهاجم الفرنسي تأجيله لوقت لاحق، ففي تلك المرحلة كان من الضروري أن يثبت جدارته، وهو ما دفعه للخروج في إعارة للدرجة الثانية قبل العودة من جديد لإيتيان والحصول على فرص مشاركة أكبر خلال موسمين 2005/2006 و2006/2007، حتى إنه فاز بجائزة أفضل لاعب بالدوري عام 2007 في ظل وجود نجوم بحجم جونينيو وفرانك ريبيري وطبعًا كريم بنزيما وحاتم بن عرفة. 

أما في موسمه الثالث، فقد وصلت فاعلية بافيتيمبي إلى مستواه آخر، بعدما سجل 16 هدفًا في 35 مشاركة ليحل بذلك ثالثًا في سباق الهدافين. وهو ما جعل أصواتًا جماهيرية وصحفية تطالب بضمه لمنتخب الديوك، وحرك مسئولين في أندية تنافس على البطولة المحلية مثل ليون ومارسيليا للحصول على خدماته. 

في البحث عن الهدوء

أتم بالفعل انتقاله لليون، وهناك لم يثبت فقط جدارة بقميصه الجديد، بل إنه سجل 95 هدفًا ليحل بذلك سادسًا بقائمة هدافي ليون تاريخيًّا، وهو ما جعله يحصل على استدعاء دولي لتمثيل فرنسا.

ومن ليون إلى سوانزي سيتي، خاض جوميز تجربة الدوري الإنجليزي التي لم تكن بنجاح تجاربه السابقة، وأصابته خلالها سهام الانتقادات والتشكيك، لذا ذهب في إعارة نحو مارسيليا بهدف اكتساب الثقة مجددًا. احتاج موسمًا واحدًا فقط ليستعيد كثيرًا من تألقه، ويسكت المشككين بعد تسجيله 20 هدفًا في عامه الـ 31. 

لكن يبدو أن حالة من التشبع والإرهاق الذهني قد أصابت جوميز، وأحب أن يقضي سنواته القادمة في مساحة أكثر هدوءًا ومع تحديات أقل توترًا. أكبر دليل على ذلك أنه سعى نحو تحقيق هدفه الآخر القديم، هل ما زلت تذكره؟ نعم الحصول على شهادة علمية. ولهذا السبب فقد رحب بدعوة نادي جلطة سراي للدفاع عن ألوانه، خصوصًا بعدما نصحه دروجبا بتلك الخطوة. 

في تركيا وجد الفرنسي المعادلة المثالية؛ مستوى أقل تنافسية وضغوطًا، وناديًا صاحب جماهيرية كبيرة، ويوفر له الفريق الفرص ويترك له مهمة إنهائها. لذلك برزت قدراته التهديفية، وكان من العادي أن يهز المرمى أسبوعيًّا. يكفيك أن تعرف أنه ساهم في 38 هدفًا من أصل 40 مباراة لعبها خلال الموسم، من بينها تسجيله 29 هدفًا بالدوري في رقم مسجل باسمه. 

 انتهى الموسم بنجاح باهر، لكن بدأت الخلافات تشتعل مع رئيس النادي مصطفى جنكيز. والسبب هو التقلبات الاقتصادية في قيمة الليرة التركية، وهو ما دفع بافيتيمبي لطلب زيادة في راتبه، لكن جنكيز رفض تمامًا. كان هذا يعني لجوميز الرحيل، لأنه يبحث عن الهدوء. وهنا التقط مسئولو الهلال السعودي برئاسة سامي الجابر طرف الخيط. 

أقنع الهلال جوميز بمشروعه الجديد، وأخبره المسئولون أن هدف الزعيم هو التتويج بدوري أبطال آسيا الغائب منذ عشرين عامًا. وفور التوصل لاتفاق معه، دخلوا في مفاوضات طويلة ومرهقة مع جلطة سراي انتهت أخيرًا بالحصول على الاستغناء عنه في صفقة يقول موقع جول إنها تتراوح بين 10 و11 مليون يورو. 

11 في 14

بالتأكيد لم يتعلق الأمر فقط بمشروع الهلال، لكن أيضًا بالراتب الذي عرضوه، والذي يقدر بنحو سبعة ملايين يورو سنويًّا. وهنا السؤال يطرح نفسه؛ لماذا يضطر النادي لدفع هذا المبلغ لجوميز؟ للعثور على إجابة، كان علينا مطالعة إحصائيات الهلال التهديفية في الموسمين اللذين سبقا صيف 2018. 

فخلال موسم 2016/2017، كان أكثر لاعبي الزعيم تهديفًا ليو بوناتيني قد سجل 14 هدفًا في كل البطولات، وهو ما ساهم بالتأكيد في توديع دوري أبطال آسيا 2016 من دور المجموعات. في الموسم الذي يليه، نجح الفريق في الصعود لنهائي البطولة القارية بفضل تألق المهاجم عمر خربين خصوصًا في نصف النهائي، لكنه عجز عن ترجيح كفة فريقه في المباراة الأخيرة. 

ذهب عمر خربين للإعارة، ورحل بوناتيني نحو وولفرهامبتون، ولم يتأقلم بصورة جيدة أشرف بنشرقي. لذلك فكرت الإدارة أنها لن تستطيع الوصول لأهدافها دون مهاجم يواكب قدرات عبد الرزاق الحمد لله في النصر، أو عمر السومة في الأهلي، وكذلك مهاجمو الأندية الآسيوية. ومن ثم قررت أن الوقت قد حان للتعاقد مع لاعب يمكنه التسجيل من أي وضعية، وقد وجدوا ضالتهم أخيرًا في جوميز.

بافيتيمبي يحظى بكل القدرات البدنية المطلوبة في رأس الحربة؛ فهو طويل القامة، ويمتلك سرعة جيدة، وقوي في المواجهات الثنائية. أضِف لذلك أنه مهاجم يعرف الطريق نحو المرمى؛ فهو يسدد بقوة سواء داخل أو خارج منطقة الجزاء، ويتسم باللعب المباشر السريع، ويجيد التمركز والإفلات من الرقابة. لكل ذلك يبدو مهاجمًا مرهقًا لخطوط الدفاع. 

وفر الهلال لجوميز الفرص، وذلك عن طريق العرضيات الرائعة لمحمد البريك وياسر الشهراني، وكذلك التمريرات البينية المميزة لعبد الله عطيف وأندريه كاريو، وبقت مهمته في توجيه كل ذلك نحو المرمى بقدمه ورأسه. وتكشف لنا الأرقام كيف أحسن الفرنسي الوافد استغلال تلك الفرص، إذ سجل 35 هدفًا في 48 لقاءً بمعدل يقترب من 0.75 هدف/المباراة، ترى كم هدفًا منها سجل خلال دوري أبطال آسيا؟ 

11 هدفًا في 14 مباراة قارية، آخرها كان في مرمى أوراوا الياباني في النهائي. لتنهمر بعدها دموعه، وكأنه يؤكد أنه كان الرجل الصحيح لقيادة الزعيم نحو الكأس الغائبة عن خزائنه منذ كان هو يركض في أكاديمية سانت إيتيان ويلقب بالنمر الصغير. لكن بافي لم يعد صغيرًا، بل أصبح نمرًا شرسًا وجد البيئة الحاضنة له في ملاعب آسيا. فاز بالأمس بجائزة أفضل لاعب في القارة، واليوم يستعد ليخوض معركة كأس العالم للأندية، فهل يواصل النمر الزحف على الأراضي القطرية؟