تاريخ الشعر: كيف بدأ؟ وكيف انتهى؟
يقول المخرج الإيراني الراحل «عباس كيارستمي» في مقدمة مجموعته الشعرية «ريح وأوراق»:
لطالما تخيلتُ الشعر رجلًا حكيمًا ألجأ إليه لأشاركه وأشكي إليه ما لم أستطع عليه صبرًا، وأحيانًا كبيت يحمل في شطوره دِفْئًا لقلبي من برودة الحياة، وأخرى كرفيق نتسكع معًا على أطراف المدينة، فأخبره ذات مساء أني وقعت في شباك قلب إحداهن، فيخبرني عن الطريقة المثلى للإفصاح لها عما يدور بداخلي دون إطناب أو إسهاب.
يُقال إن الشعر فن بدأ مع بداية الزمان، فكان انعكاسًا له تارةً، ووجهًا مضادًّا له في أخرى، ورفيق درب لهذا الزمان، وعدوًّا له في أزمان عديدة، وواصفًا له ومؤرخًا لأحداثه، يقول الشاعر الإنجليزي شيلي في وصف الشعر: «القصيدة هي صورة الحياة نفسها، المعبرة عنها في حقيقتها الأبدية».
متى بدأ الشعر؟
يُعدُّ الشعر من أقدم أشكال الفنون الأدبية، حتى يُعتقد أنه قد نشأ قبل الكتابة نفسها، غالبًا ما كانت تُغنَّى الأنواع الأولى من القصائد أو تُتلى لتمرير التاريخ الشفوي والقانون ومعلومات الأجداد؛ لأن الأشكال الإيقاعية والمتكررة جعلت الكلمات أسهل على التذكر قبل تطور الكتابة.
شملت القصائد الموجودة في الحضارات القديمة القصص الخيالية والحوادث التاريخية وأغاني الحب وتعليمات حول كيفية أداء الأنشطة اليومية. إن تاريخ الشعر طويل ومتعدد الأوجه بعدما استخدمت الثقافات هذا الشكل الأدبي كوسيلة للتعبير، وما زالت تستخدمه.
يُرجع المؤرخون بداية الشعر المكتوب إلى حضارة بلاد ما بين النهرين (حضارة بلاد الرافدين)، حوالي عام 1500 ق.م، حيث بدأ تدوين القصائد عبر استعمال الكتابة المسمارية. هذه القصائد الموجودة على ألواح من الطين وصفت بالتفصيل كيف كان الملوك القدامى يحكمون شعوبهم.
ومن المُرجح أن الشعر نشأ من الطقوس القديمة والترانيم المستخدمة عند أداء الاحتفالات الدينية أو طقوس الزفاف أو الجنازات.
يعتبر المؤرخون ملحمة جلجماش أولى القصائد التي كُتبت في التاريخ، وهي قصيدة رافدية من أقدم الكتابات الأدبية المعروفة في العالم. نشأت كسلسلة من الأساطير والقصائد السومرية المكتوبة بالخط المسماري، يعود تاريخها إلى أوائل القرن الثالث أو أواخر الألفية الثانية قبل الميلاد.
لاحقًا، جرى جمعها في قصيدة طويلة محفوظة في 12 لوحًا طينيًّا، وتحكي عن جلجماش وهو بطل أسطوري، ثلثه إنسان وثلثاه إله، باركته الآلهة فأصبح بطلًا عظيمًا يصول ويجول وينصر الحق في مدينة أوروك البابلية، لكن شعب أوروك يتهم جلجماش باستغلال سلطته في إيقاع نسائهم، فتغضب عليه أرورو إلهة الخلق، وتخلق رجلًا بريًّا جبارًا اسمه إنكيدو ليصارع جلجماش، ومن هنا تدور أحداث القصة في هيئة قصيدة ملحمية.
تصف الملحمة الشعرية بطلها جلجاميش بقولها:
أعظم الكنوز المنسية لمصر القديمة
قال «ريتشارد باركنسون»، الخبير في الشعر المصري القديم في المتحف البريطاني بلندن، موطن أكبر مجموعة من القطع الأثرية المصرية خارج القاهرة: «إنه ربما يكون الشعر أعظم كنز منسي في مصر القديمة».
أخبرنا ريتشارد عن أهمية الشعر ودوره المنسي في التأريخ لحياة المصريين القدماء؛ فالشعر يعطي نظرة حقيقية عن الطبيعة البشرية وعيوبها، في حين أن الروايات والسير الذاتية المنقوشة على جدران المعابد والمقابر تُعطي صورة منمقة، بل تبالغ في المثالية أحيانًا.
على مشارف وادي الملوك حيثُ دفن العديد من الفراعنة، عُثِر على مجموعة قصائد في قرية عمالية أغلبها كانت قصائد عاطفية.
وبحسب باركنسون، فإن هذه القصائد استخدمت أحداثًا من الحياة اليومية كزراعة الحبوب، وصيد الطيور، وصيد الأسماك من نهر النيل كاستعارات للحديث عن الحب.
يقول باركنسون:
تشير النتائج إلى أن القرويين – أصحاب الأشعار المكتشفة – ربما كانوا يعرفون القراءة والكتابة بشكل ملحوظ في وقتهم، وهو ما يؤكد أن المعرفة لم تكن مقتصرة فقط على الكهنة، ما ساهم في نظم هذه الأشعار.
يعتقد الباحثون أن هذه الأغاني كُتبت خلال عصر الدولة الحديثة في مصر (1539-1075 قبل الميلاد)، ولكن من المحتمل أن تكون مؤلفة قبل ذلك بكثير.
وفقًا لجاكو ديليمان، عالم المصريات بجامعة كاليفورنيا، فإن الشعر المصري القديم فُكَّت شفراته في مرحلتين: أولًا بالترجمة إلى الخط الهيراطيقي عن طريق دراسة تفصيلية للكتابات المحفورة على الجدران، ثم ترجمته إلى الهيروغليفية، ما يعني أن كتابته في عصر ما لا تعني بالضرورة أن يخصَّ ذلك العصر، بل قد يعود إلى أبعد من ذلك بكثير.
الشعر اليوناني القديم
بين القرنين السابع والرابع قبل الميلاد كانت الحركة الشعرية التي طورها الكُتَّاب اليونانيون القدماء واحدة من أكثر الحركات الشعرية أهمية ثقافيًّا وفكريًّا في تاريخ الشكل الأدبي.
طوَّر هؤلاء الكتاب، تقريبًا، جميع الأشكال الكلاسيكية المعروفة اليوم، ومن أبرزهم: هوميروس، سافو، هسيود، ناكريون ويوريبيديس.
عادةً ما تُعتبر القصائد الملحمية المنسوبة إلى هوميروس أول عمل شعري موجود في الأدب الغربي. يُعتقد على نطاق واسع أن هوميروس هو مؤلف القصائد الملحمية اليونانية القديمة «الإلياذة» و”الأوديسة”، وأنه هو من سن قوانين كتابة الشعر في الأدب الغربي.
يمثل تحديد تاريخ دقيق لحياة هوميروس صعوبات كبيرة، حيث لا يوجد سجل وثائقي معروف لحياة الرجل. التقارير غير المباشرة من هيرودوت وآخرين تؤرخ له بشكل عام ما بين 750 و700 قبل الميلاد.
لما اكتسح الإغريق اليونان بلاد الطرواديين عاثوا في مدائنهم، وسبوا نساءهم، وحاصروا إليون عاصمة بلادهم عشر سنوات، وكان في جملة السبايا فتاتان جميلتان تدعيان «خريسييس» و«بريسييس».
أجمع زعماء الجيش على تمليك الأولى منهما لأغاممنون ملك ملوكهم، والثانية لأخيل بطل الإغريق. هنا حمل خريس والد خريسييس الكثير من المتاع إلى معسكر الإغريق ليفتدي ابنته. وبذلك الحدث افتتح هوميروس أناشيده.
أيضًا، كان هسيود شاعرًا يونانيًّا عاش في وقت مبكر جدًّا من التاريخ، وتقدم لنا قصائده التعليمية سردًا منهجيًّا للأساطير اليونانية وأساطير الخلق والآلهة، بالإضافة إلى نظرة ثاقبة للحياة اليومية للمزارعين اليونانيين في ذلك الوقت.
كما أسهم هسيود فيما يُسمى بالشعر التربوي أو الشعر الأخلاقي، ويُعتقد أنه عاصَر هوميروس أو خلفه على أقصى تقدير.
أما سافو فهي من الشاعرات المؤسسات للشعر الغنائي في اليونان القديمة. على الرغم من ضياع الجزء الأكبر من شعرها، إلا أنها كانت مشهورة وحظيت بإعجاب كبير عبر العصور القديمة كواحدة من أعظم الشعراء الغنائيين، وقد استمرت سمعتها الهائلة من خلال الأجزاء الباقية.
من شعر سافو الذي ترجمته الشاعرة الكلاسيكية آن كارسون في كتاب «شظايا سافو»:
شعر القرون الوسطى
كانت القرون الوسطى فترة حروب وعدم استقرار في أوروبا، وهو ما أثر في شكل الشعر وحياة الشعراء، فكثر شعر التمجيد في المحاربين الذين ينقذون شعوبهم. أيضًا، شهد هذا العصر ظهور الشعراء المتجولين أو الشعراء الذين غنوا لجمال الله وقوته. فقاموا بنشر رسائلهم من خلال كتابة الأغاني أثناء تنقلهم من مكان إلى آخر، بحثًا عن النبلاء الذين يمكنهم دعمهم ماليًّا.
غالبًا ما كُتبت القصائد عن الطبيعة والحب والدين والمزيد من الموضوعات المجردة التي تتناول ألغاز الحياة الكبيرة مثل الموت والحرب. بالإضافة إلى ذلك، أصبحت القصائد وسيلة للناس للتواصل عن بُعد، لذلك إذا قُبِض على شخص من قبل العدو أو اختبأ في مكان ما، فقد يترك القصائد على الجدران أو الأشجار. كما كان الفنانون يكتبون الشعر في لوحاتهم لتكريم الموضوعات التي كانوا يصورونها.
كان ذلك هو شكل الشعر الشائع حتى حوالي 1100 بعد الميلاد، عندما أصبح من غير المقبول أن يكتب الشعر خارج الأطر الدينية، لأن السلطات الحاكمة اعتقدت أن الإسهاب في التعبير عن المشاعر قد يؤدي إلى مشاكل عقلية مثل الاكتئاب والهستيريا.
عصر النهضة (العصر الذهبي للأدب)
تميزت هذه الفترة، والتي استمرت من القرن الرابع عشر إلى بداية القرن السابع عشر، بالتركيز على الفنون. يعتبر بعض الناس الشعر الذي قيل خلال هذه الفترة الزمنية من بين أعظم الشعر الذي أُنشئ على الإطلاق، بينما يحتفل به البعض الآخر باعتباره انتقالًا بين الأساليب الشعرية في العصور الوسطى والعصر الحديث.
تأثر هذا الشعر بشكل كبير بالأسلوب الكلاسيكي للرومان واليونانيين القدماء، ولكنه استدعى أيضًا قضايا ومعتقدات الشعب الأوروبي خلال هذه الفترة الزمنية.
ومن السمات الجذابة الأخرى لشعراء عصر النهضة مدى تركيزهم على الشعر الغنائي؛ فيصور العديد من الشعراء مشاعرهم حول موضوع معين عن طريق الغناء، والتي سيجري تأديتها بعد ذلك للجمهور خلال التجمعات الاجتماعية مثل الحفلات.
كان شعراء البلاط أيضًا عاملًا رئيسيًّا خلال عصر النهضة؛ استأجر الملوك والملكات الشعراء لتخليد تاريخ عائلاتهم أدبًا، أو للترفيه عن الحكَّام بالأغاني والقصائد. أدى ذلك إلى ظهور العديد من القصائد السياسية.
كانت السوناتات أيضًا واحدة من أكثر الأشكال شعبية في ذلك الوقت، لا سيما في إنجلترا. استخدم الإنجليز مصطلح «سونيت» للإشارة إلى أي قصيدة قصيرة من تلك الفترة، والتي تتكوَّن من 14 سطرًا التزمت بنمط القافية.
بالطبع، كان ويليام شكسبير أحد أشهر شعراء عصر النهضة، فكتب عشرات السوناتات بالإضافة إلى مسرحياته العديدة.
العصر الرومانسي
نشأت حركة الشعر الرومانسي في أواخر القرن الثامن عشر واستمرت حتى عام 1850. وتميزت بالتركيز على الذاتية والعاطفة والعفوية والعالم الطبيعي. اعتُبر شعراء هذه الحقبة أكثر سهولة ممن قبلهم؛ لأنهم كتبوا عن الحياة اليومية بدلًا من الموضوعات التي لا تمسُّ اهتمامات معظم القراء.
مال الرومانسيون إلى التركيز على المشاعر والعاطفة بدلًا من المنطق أو العقل. كان ويليام وردزورث أحد أشهر شعراء هذه الحقبة، وزميله صموئيل تايلور كوليردج. قادهم ذلك إلى إنشاء ما يُعرف الآن باسم القصص الغنائية، والتي تعتمد على الوصف الحسي والسرد والتمثيل لما يكتبونه.
قام الشعراء الإنجليز مثل ويليام وردزورث، وصموئيل تيلور كوليردج، وجون كيتس، وبيرسي بيش شيلي، وويليام بليك، ولورد بايرون، بإنتاج أعمال تعبر عن مشاعر عفوية وجدت أوجه تشابه مع حياتهم العاطفية.
في قصيدته «مقاطع مكتوبة في الكآبة، بالقرب من نابولي»، يقول بيش شيلي:
شعر الحداثيين الغربيين
بدأ هذا النوع من الشعر في الظهور عام 1850م تقريبًا، واستمرَّ حتى الآن، ومن رواده والت ويتمان، الذي تأثر بما وصلت إليه أوروبا من ديمقراطية وحرية بعد قرون من الحروب والجهل، فكتب شعرًا حرًّا بدون مقياس أو قافية.
أيضًا، كتب الحداثيون شعرًا يهتم بعلم النفس، واعتمدوا أساليب جديدة في تقديم أشعارهم للجمهور، كما في حالة ألين جينسبيرج (1926-1997)، الذي نشر قصيدته «عواء» ملحقة برسوم لوليام بليك.