إنهم كانوا يمرون فوقنا.
الرئيس السوفيتي، نيكيتا خروتشوف. [1]

في قاعدة إنجرليك الجوية قرب قرية تركية تحمل الاسم نفسه، وفي الرابع من يوليو/تموز 1956 أقلعت طائرة تجسس أمريكية بطريقة تُشبه الإطلاق المنجنيقي من حاملات الطائرات.

بجناحيها النحيفين والعريضين أقلعت الـ U2 صوب الحدود السوفيتية، وذلك بعد انتظار أربعة أيام لزوال الغيوم من سماء الاتحاد السوفيتي. كانت الـ U2 الطائرة الأحدث في ترسانة الأسلحة الأمريكية وتخدم في جهاز الاستخبارات المركزية CIA ولا تتبع سلاح الجو الأمريكي، لذا كانت مُهمتها جمع المعلومات الاستخباراتية فقط.

كان الأمريكان مُطمئنين، فالطائرة تُحلق على ارتفاع شاهق، والروس لا يمتلكون تكنولوجيا إسقاطها، ولا يُمكن أن تنالها صواريخ السوفييت، بل إن الرادارات السوفيتية غير قادرة على التقاطها من الأساس. لكن الروس كانوا قادرين على تتبع الطائرة منذ اللحظة الأولى ولم يقولوا ذلك علنًا. كانوا خائفين من أن يقولوا للعالم إنهم رصدوا طائرة تجسس أمريكية تتنزه فوق أراضيهم ولا يستطيعون إيذاءها ولا فعل شيء.

طائرة U2 الأمريكية، وتم التقاط الصورة عام 1957.

تم وضع جميع السيناريوهات في الحسبان، كانت أسرار الـ U2 أهم من أي شيء حتى الحياة. إذا شعر الطيار بفشل المهمة، فعليه الضغط على زر لتفجير الكاميرات وأدوات التجسس عن طريق وحدة تفجير قربها، وذلك لحرمان العدو من العثور على هذا الكنز.

بعد الضغط على زر التفجير يكون أمام الطيار 70 ثانية للخروج من الطائرة والقفز بالمظلة، وبالطبع سيجد السوفيت في انتظاره على الأرض، وعلى أي حال ستحصل الاستخبارات السوفيتية منه على المعلومات التي تريدها، لذا كان كل طيار مُزوَّد بدولار فضي، تعويذة للحظ، ومخفيًا بداخله إبره مطلية بمادة «الكورار»، وهي عبارة عن دواء يقتل عن طريق استرخاء العضلات، وكل ما على الطيار فعله أن ينتحر بغرس الإبرة في أي مكان بجسده، وكان قرار الانتحار اختياريًّا.

ولإبقاء معلوماتهم ضمن الحدود، لم يتم إخبار الطيارين أبدًا بالهدف من طلعاتهم الجوية، ونادرًا ما شاهدوا الأفلام التي تلتقطها كاميرات التجسس بالطائرة.

الاختناق

قريبًا من الستينيات بدأت طلعات الـ U2 بالتقلص وذلك بسبب ما يُعرف بـ «الاختناق»، وهو توفر كميات كبيرة من المعلومات لدى جهاز الاستخبارات تفوق قدرة أفراده وبرامجه على التحليل. [2]

كان هناك كميات كبيرة من الأفلام التي التقطتها الـ U2، واعتقد الرئيس «أيزنهاور» أنه من الأفضل حل الأعمال المُتراكمة قبل عمل طلعات جوية جديدة. والسبب الآخر الأهم هو الخوف من التحسينات التي أدخلها السوفيت على الدفاعات الجوية.

وبحلول العام 1958 بدأ المخططون الأمريكان بتحديد مسار الطائرات الـ U2 بعيدًا عن مواقع الجيل الجديد من صواريخ أرض-جو السوفيتية، وحيث إن تقديرات الاستخبارات الأمريكية تقول إن صواريخ السوفيت يصل مداها إلى 60.000 قدم فقط كأقصى ارتفاع، فإن الـ U2 ما زال لديها الفرصة لتُحلِّق في أمان على ارتفاع 68.000 قدم.

في منتصف أبريل/نيسان من عام 1960 ذهب «ريتشارد بيزل»، والذي كان مسئولًا عن برنامج الطائرة U2 في الـ CIA، إلى الرئيس «أيزنهاور» يطلب القيام بطلعة طيران للطائرة U2 فوق الأراضي السوفيتية. وكان وزير الخارجية «هيرتز» حاضرًا حينما قدم «بيزل» إلى «أيزنهاور» مسار الطائرة فوق الأراضي السوفيتية، وقد شعر بالقلق خصوصًا أن «مؤتمر باريس» كان يقترب. في النهاية أعطى «بيزل» فترة أسبوعين لإدارة الطلعة، لكن خلال هذين الأسبوعين كانت الغيوم تُغطي الاتحاد السوفيتي، وتم تمديد المهمة أسبوعًا آخر.

الطلعة الأخيرة؟

تم اختيار الطيار «فرانسيس كاري بورز» للطلعة، وطار إلى بيشاور في باكستان، وفي النهاية أصبح الجو صافيًا وتم تنظيم الطلعة يوم 1 مايو/أيار 1960، وهو يوافق عيد العمال؛ أكبر العطلات الرسمية في الاتحاد السوفيتي.

في تمام الساعة الخامسة وعشرين دقيقة من صباح يوم واحد مايو/أيار تسلق «بورز» مقصورة الطائرة وهي المَهمَّة الثامنة والعشرون له، ثم أقلع في الساعة السادسة وعشرون دقيقة.

في البداية وجد أن الطيار الآلي لا يعمل بشكل ملائم، وعليه أن يطير أغلب الوقت بشكل يدوي، ليست مهمة صعبة، ولكنه سيكون مشغولًا بعض الوقت أكثر من المعتاد.

بعد حوالي ساعة دخل «بورز» حدود الاتحاد السوفيتي، على الفور التقطته الرادارات السوفيتية وتم إنذار الوحدات المضادة للطائرات على طول مسار الـ U2 بأن هناك طائرة استباحت الحدود السوفيتية.

بالقرب من منطقة سفيردلوفسك كان «بورز» مسرورًا لأنه قطع نصف مسافة الرحلة تقريبًا، وفي منتصف الاستدارة بزاوية 90 درجة وعلى بعد 30 كم من سفيردلوفسك، وجد «بورز» مطارًا لم يكن ظاهرًا على خريطته. سجل «بورز» موقع المطار وتأكد من صلاحية عمل الكاميرات ومعدات التجسس. وفجأة، وبدون سابق إنذار ضُربت الطائرة. يقول «بورز»:

أستطيع تذكر المشاعر وسماع وتحسس الانفجار… ونظرت حالًا إلى لوحة القيادة… وأينما نظرت كانت بلون برتقالي.

وبدأت الطائرة بالسقوط، مُقدمتها إلى أعلى وبشكل سريع جدًّا. وقعت معركة دراميَّة بين «بورز» وكرسي القذف، لكن في النهاية سقط بالمظلة ورمي قطعة النقود بعيدًا، وسرعان ما تمت إحاطته بمجموعة من الفلاحين السوفيت، وبعد دقائق وصل أفراد من الوحدة السوفيتية التي أسقطت الطائرة، ونُقل «بورز» إلى السجن.

ما كانت هوليود لتترك هذه القصة المثيرة، وفي العام 2015 أصبحت جزءًا من فيلم «جسر الجواسيس» «Bridge Of Spies».

لم يعلن السوفيت أن الطيار على قيد الحياة، فقط قالوا إنهم أسقطوا طائرة فوق أراضيهم. اعتقدت الولايات المتحدة أن «بورز» قد انتحر وقبل أن يموت فجَّر الكاميرات وأدوات التجسس، ثم إنه ليس هناك احتمال لنجاة طيار تُضرب طيارته بصاروخ وتتحطم على ارتفاع حوالي 70.000 قدم، وخرجت الولايات المتحدة للقول إنها طائرة اختبار الجو تابعة إلى اللجنة الاستشارية الوطنية للطيران، وانحرفت بالخطأ فوق المجال السوفيتي وتم إسقاطها بدون سابق إنذار.

بعد الإعلان الأمريكي أخرج الرئيس السوفيتي «خروتشوف» الورقة الرابحة… أخرج الطيار حيًّا، وكذلك حطام الطائرة ومعدات التجسس التالفة، والتي أمكن تمييزها، مما كشف كذب الأمريكان أمام العالم.

توقع الكثيرون إلغاء «مؤتمر باريس»، لكن السوفيت حضروا، وخطب «خروتشوف» طويلًا وختم حديثه بالقول: «إنهم كانوا يمرون فوقنا». وعلَّق الرئيس الفرنسي ديجول بأن السوفيت كانوا يمرون أيضًا فوق سمائه بواسطة الأقمار الصناعية السوفيتية، ورد خروتشوف بأنها أقمار صناعية بريئة. [3]

تبادل الأسرى

في عام 1962، استعدت أمريكا لاستعادة «بورز» عن طريق مبادلته بالجاسوس الروسي المحتجز «رودولف أبيل»، يُظهر فيلم «جسر الجواسيس» المفاوضات العثيرة التي قادها المحام الأمريكي «دونوفان». مفاوضات مؤلمة مع أطراف مُترددة تُعيد تقييم الموقف كل ساعة تقريبًا، فما فائدة الاستبدال إن كان كل رجل أخرج ما بجوفه أثناء الاستجواب، لذا سيظل الروس ينظرون إلى رجلهم «أبيل» (رغم بطولاته) بعين الريبة وسيظل موضع شك، ربما قال كل شيء في أول ليلة في السجن، وربما وقع الاسوأ؛ جنَّده الأمريكان للعمل لصالحهم، فالاستخبارات وظيفتها الشك.

عملية التبادل على جسر جلينيكي، أحد مشاهد فيلم Bridge Of Spies (إنتاج عام 2015).

في تبادل أسرى كلاسيكي، وقعت عملية التبادل عند الفجر على جسر جلينيكي (جسر الجواسيس) الممتد بين شرق وغرب برلين، كان القناصة في كل مكان على الجانبين. تقدم «بورز» ناحية برلين الغريبة، وتقدم «أبيل» ناحية برلين الشرقية. في الطريق؛ يسأل دونوفان: «ما الذي تعتقد أنه سيحدث عندما تعود إلى وطنك؟» يرد أبيل بهدوء كعادته: «أعتقد»، يصمت قليلًا، ثم يُكمل: «أعتقد أنني سأتناول الفودكا». في إشارة إلى أنَّه سيكون موضع شك من قومه. مُجددًا يسأل دونوفان كما كان يفعل: «ألست قلقًا؟» يرد أبيل كعادته: «هل هذا يساعد؟».

لحظة التقاء وافتراق الشرق عن الغرب فوق جسر جلينيكي ببرلين، أحد مشاهد فيلم Bridge Of Spies (إنتاج عام 2015).

يقول الرئيس الأمريكي أيزنهاور مستهزئًا: «إنَّ الاستخبارات المركزية وعدتنا أن الروس لن يتمكنوا من القبض على طيار الـ U2 حيًّا… وبعد ذلك يعطونه المظلة». [4]

هكذا هي الحرب، وهكذا هم الساسة ورجال الاستخبارات.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. براهام يوست، “تكنولوجيا التجسس: نظرة شاملة إلى وسائل التجسس الحديثة”، ترجمة: على جواد حسين، الدار العربية للموسوعات، الطبعة الأولى، 1999، ص 54.
  2. جوناثان بلوش وباتريك فيتزجيرالد، “الاستخبارات البريطانية وعملياتها السرية في أوروبا وأفريقيا والشرق الأوسط”، ترجمة: عفيف الرزاز، نسخة إلكترونية، ص 23.
  3. براهام يوست، “تكنولوجيا التجسس: نظرة شاملة إلى وسائل التجسس الحديثة”، مرجع سلق ذكره، ص 58.
  4. المرجع السابق، ص 55.