مسلسل «Breaking Bad»: الأستاذ وتلميذه من ينتصر العقل أم العاطفة؟
تقوم العاطفة بدور كبير في صنع قرارات الإنسان، وفي صراعها مع العقل بقوانينه الأقرب إلى المنطق، تبزغ كوامن اللاوعي في محاولة لصد سيطرة العقل، ومجابهة تلك القوانين التي تحاول أن تُنحّي كل ما هو عاطفي من أجل إثبات سلامة منطقه.
لا يمكن للمنطق والعقل أن يغيبا تمامًا؛ فقد تتغلب العاطفة حينًا، وينحني العقل مرة، لكن يُتوَّج بالانتصار في نهاية المطاف؛ لأنه دقيق وبعيد عن مثالية العاطفة، والنتائج الرخوة التي لا يعول عليها.
في مسلسل Breaking Bad تجلٍ لذلك الصراع جُسِّد من خلال الشخصيتين المحوريَّتين والتر وايت وجيسي بينكمان؛ الأول معلم كيمياء في مدرسة ثانوية، والثاني كان تلميذًا له، لكنه فشل، وصار مدمنًا، يلتقيانِ بعد الحدث الذي زلزل كيان والتر وايت، وتأكده من إصابته بسرطان الرئة، سنوات عمره معدودة، يفكر في تأمين مستقبل أسرته، من هذه النقطة.
يجتمع المعلم بتلميذه السابق مصادفة عندما يكون والتر مع صهره هانك قُرب وكر لبيع المخدرات، لا يوضح المسلسل الأسباب التي دعت والتر لاختيار جيسي ليكون مساعده، سوى مقابلته مصادفة، ربما الوحيد الذي يعرفه والتر في عالم المخدرات، ورغم التحذير الدائم لوالتر من خطورة العمل مع جيسي لأنه مدمن إلا أنه يصر دومًا على أن يكون هو مساعده.
ربما والتر هو الوحيد الذي يشعر بالجزء الخيِّر في نفْس جيسي، قد يكون جيسي نفسه يشعر بأبوَّة وحنوٍّ افتقدهما بعدما أبعداه والداه عن حياتهما بسبب إدمانه، لكن التفسير الأقرب للصواب كون والتر يريد لعقليته العلمية مكملًا عاطفيًا لا يوجد إلا في شخصية جيسي، فضلًا عن كون جيسي مَعبرًا لتوزيع الناتج من مخدر الميثامفيتامين.
أخطاء جيسي وعقلانية والتر وايت
يقف جيسي بينكمان ووالتر وايت على طرفي نقيض؛ جيسي معادل موضوعي للعاطفة أمَّا والتر فيمثل العلم بصرامته ودقته، بعيدًا عن الحكاية الرئيسية القائمة على تصنيع الميث، قريبًا من الشخصيتين المحوريتين في المسلسل يُمكن فهم الخيط الذي يجمع بينهما، فهما يبدوانِ متناقضين إلا أنَّ كلَّ واحدٍ قادرٌ على إكمال نقص الآخر.
جيسي خطّاء، لا يتعلم من أخطائه، يحزن لموت صديقه موزع الميث، يدخل في حالة العزلة بعد موت حبيبته الأولى جاين، يخاف على الطفل من أبويه المدمنين (المرأة التي قتلت زوجها بماكينة ATM) يأخذ الطفل خارج المنزل ويبلغ الشرطة عنهم، أيضًا يلوم زميلته في مركز تأهيل المتعافين من الإدمان، لتعاطيها المخدرات وهي مسؤولة عن طفل يتطلب رعاية واهتمامًا خاصين.
مواقف كثيرة تدل على أن الجانب العاطفي متغلب عليه دومًا، لذلك هو أقرب لقلوب المشاهدين حتى من والتر وايت نفسه، جيسي متردد، يأخذ قرارًا ثم يتراجع عنه، يتوقف عن التعاطي بعد موت جاين جراء تعاطيها جرعة مخدرات زائدة، يذهب لمركز تأهيل المتعافين من الإدمان، يستمر مدة طويلة، لكنه يسقط في فخ الميث مرة أخرى، ليس فقط تعاطيه، بل صنعه مع والتر بعدما وقع الأخير في حبائل جاس فرينج، يتورطان معًا ليسيرا على الشوك، ويصير موتهما محقق خاصة بعد تطور لعبة المطاردة بين جاس ووالتر.
يشعر جيسي أن كل ما حدث له من مآسٍ يستحقها؛ لأنه يسير في طريق ضال، عدد مرات بكائه كثيرة في كل مواسم المسلسل، في حين أن دموع والتر كانت قليلة جدًا، أغلبها التماع عينيه لا أكثر.
جريمة القتل الأولى
حتى نهاية الموسم الثالث لا نجد جيسي يتورط في جريمة قتل واحدة، كل الذين سقطوا كانوا على يد والتر بدءًا بكريزي إيت والتخلص من جاس فرينج في نهاية الموسم الرابع، لكن اللحظة الوحيدة التي تطلبت تدخل جيسي لإنهاء حياة جال بويتيكر وقت أن كان والتر مهددًا بالموت هو وجيسي، لم يكن أمام جيسي سوى قتل بديلهما في معمل تصنيع الميث الذي أعده جاس، لو لم ينحِّ جيسي عاطفته، يسمح فقط لدموعه بالهطول، وهو يوجِّه مسدسه في وجه جال لتنطلق الرصاصة الأولى من يد مرتعشة، لكن العقل في هذه اللحظة لا يمكن أن يدع للعاطفة مجالًا كي تترك الموت يخطف روحها، أطاع جيسي والتر ونفذ الجريمة، هزم المنطقُ الدموع.
كان موت جاين وقتل جايل، وقتل الطفل في الموسم الخامس على يد تود عوامل مهمة في تغيير حياة جيسي، وتحولاتها، كما ذكرتْ؛ موت جاين جعل جيسي يعيد التفكير في المخدرات ، فموت الطفل الذي كان أحد أسبابه الخوف من انكشاف أمرهم جعله ينظر لملايين الدولارات التي جناها من تصنيع الميث على أنها أموال ملوثة بالدماء؛ لذلك يقرر بعدها الانقلاب على والتر بقتله أو تسليمه للشرطة بعد تأكده أنه وضع السم لابن حبيبته بروك.
قتل جال بويتيكر جعله يدخل في حالة من العبث، يحوِّل منزله لحانة من العربدة والسكر والتعاطي والجنس، جامعًا المشردين والمدمنين، تظل الموسيقى الصاخبة بلا توقف، خلفية لعالم بائس يغوص فيه جيسي، لا تخفت الموسيقى إلا لنرى دموعه، وفي اللحظة التي يأتي فيها والتر ليسأله هل تركب بصماته في الشقة وهو يقتل، يدخل في حالة من البكاء، ويرفض مجرد تذكر تلك الحادثة.
والتر وجه العِلم القاسي
(426) Breaking Bad – Letting Jane Die (S2E12) | Rotten Tomatoes TV – YouTube
والتر وايت يقتل بدمٍ باردٍ، لا يكبح طموحه الندم، رغم اليقين في البداية أنَّ قدراته الجسدية والنفسية لا تؤهله أبدًا للقيام بفعل القتل، في مشهد تركه للفتاة جاين وهي تموت، كان يُمكنه إنقاذها، لكنه يفضل إزاحتها من حياة جيسي ليكمل معه رحلة تصنيع الميث، يذرف دمعتين، ثم يكمل ولا يتراجع، يتغلب على عاطفته، شخصية والتر برجماتية تضع المنفعة فوق العاطفة، حتى لو كانت تلك المنفعة خاصة به، وبأسرته، قد يشعر المشاهد أن خوفه على عائلته نابع من الواجب، وليس العاطفة.
تتضح ملامح تلك الشخصية في قدرتها العجيبة على الخروج مآزق كثيرة، ولولا تفكيره السريع، وحدسه، وحسن توقعه، لانتهى من أول اختبار له مع القدر، لكنه دقيق مثل الأمور العلمية بالضبط، كل شيء محسوب وبدقة، والمهم بسرعة، تجلَّى ذلك في أكثر من مشهد، عندما كانوا في الشاحنة الكبيرة هو وجيسي، استطاع إبعاد هانك “صهره، الضابط في إدارة مكافحة المخدرات” بحيلة لم تخطر على بال أحد، في حين أنَّ جيسي – الذي تسبب في المشكلة من الأساس بسبب رعونته، وعدم تقديره لخطورة الأمور- بدا خائفًا ومرتبكًا، في تخلص والتر من جاس استطاع أن يتلاعب بالجميع بما فيهم جيسي، داس على عواطفه، دس سم زنبقة الوادي للطفل الصغير بروك، ليعيد جيسي إلى صفه، ويستدرج جاس فرينج ويقتله.
امبراطور الميث
(426) Breaking Bad – I Did It for Me Scene (S5E16) | Rotten Tomatoes TV – YouTube
قبل تحول والتر وايت إلى هايزنبيرج كان أمله في النجاة معدومًا، ففي المستشفى الذي يجري فيه فحوصات للتأكد من عدم انتشار السرطان في بقية أعضاء جسده تُعطيه الموظفة تميمة أو ميدالية مكتوب عليها عبارة الأمل هو أفضل علاج Hope is the best medicine، يلقي بها وهو خارج في صندوق القمامة، في دلالة واضحة على فقدانه للأمل، وفي أثناء إقامته في غرفة لتلقي جرعات الكيماوي هناك لوحة على الجدار فيها أب على قارب صغير يودع ابنه وزوجته ومعهم كلب، تبدو هذه اللوحة معبرة عن حياة والتر البائس حينها، لكن لن يطول بؤسه عندما تترسخ أقدامه في الصناعة ويصبح أمهر من يطبخ الميث باعتراف الجميع؛ متعاطين ومدمنين وتجار وموزعين داخل أمريكا وخارجها، هنا يطفو الشر المطمور في نفس والتر، الشر الكامن في أي علم، يمكن أن يقلب وجه العملة، ليكشف عن وجهه القبيح، فيمارس القتل بدمٍ بارد بلا ذرة ندم ولا قطرة دموع، من تلك اللحظة لن يشعر والتر بالندم، لن ترتعش يداه أو تختلج شفتاه، بل تزداد نظرته حدة، سيُعلنها صراحة بعد تغلبه على جاس فرينج الذي لا يُقهر (I Won) انتصر على ألدِّ أعدائه، بل انتصر في هذه المرة على الموت الذي كان أقرب إليه حين كان مريضًا بالسرطان.
ثمة مشهد يطلق فيه والتر ضحكات أشبه بالعواء وهو في قبو منزله عندما يكتشف أن أمواله كلها التي قتل العشرات من أجلها، وصنع أطنانًا من الميث لم يتبق منها شيئًا، أخذتها سكايلر زوجته وأعطتها لتيد غريمه الذي خانت والتر معه، تبتعد الكاميرا بينما والتر مستقٍ، لا تدري هل يتحول الضحك إلى بكاء أم البكاء إلى ضحك، كان في أشد الاحتياج إلى المال في هذه اللحظة ليغير هويته، وينجو من القتل على يد جاس، لكن عقل والتر لن يتوقف، يقشر جلده، يترك العاطفة والبكاء والنحيب والندم وضياع الفرص لجيسي، يستعيد عقل وروح هايزنبرج، يتعاظم الشر بداخله حد وضع خُطة يجذب بها جيسي إلى ملعبه مرة أخرى، خطة شيطانية، كانت ستودي بحياة الطفل بروك ابن حبيبة جيسي الثانية، موت الطفل لا يهم، الشيطان لا يملك تلك المشاعر التي تكبح جماح شره.
في حوار والتر مع جيسي لإقناعه بالعودة للتصنيع يحاول جيسي أن يخبره أنه جنى من المال الكثير، وهذا هدفه من الأساس، يخبره والتر أن طموحه لا يتوقف عند المال بل بناء امبراطورية، حتى لو كانت هذه الإمبراطورية على حساب البشر بقتلهم أو بصنع المخدرات التي ستقتلهم، يبدو وجه والتر – في تصوري- معادلًا لوجه أمريكا نفسها، امبراطورية كبيرة، لا تتورع عن الشر، والتمادي فيه، لا تفكر في أي وازع أخلاقي، حتى الدين نفسه يُنحيِّه والتر عندما يقول لجيسي إنهم سيذهبون إلى الجحيم – إن كان هذا ما يؤمنون به- وهو لا يريد أن يذهب إلى الجحيم مهزومًا.
في النهاية كان وراء اختيار والتر للاسم الحركي هايزنبرج، وهو العالم الألماني فيرنر هايزنبرج مكتشف مبدأ عدم اليقين، وهو المبدأ الأساسي في ميكانيكا الكم، العالم قريب الشبه ببراين كرانستون، الحائز على نوبل عام 1932م، لم يكن اختيار والتر له محض صدفة، بل بتخطيط منه، هذا العالم الذي أصيب أيضًا بالسرطان، ومات بسببه عام 1976م.
مبدأ العالم هايزنبرج يتماشى مع مبدأ والتر نفسه، لا يقين في أي شيء، حتى أسرته التي كان يؤمن بها، ويعمل من أجلها، دمرها الأخير بيده، خابت كل حساباته من أجل تأمين مستقبلهم، يعود له السرطان، يدنو الموت، ولكنه موت مُكلل بانتصارات عظيمة، تؤكد أن صرامة العلم تجعله صلبًا لا يُكسر بسهولة.