قيود قابلة للكسر
ما من قيد يكبلُ حرية الإنسان إلا وهو قابل للكسر؛ مهما اشتد هذا القيد، ومهما استحكمت حلقاته، ومهما طال الزمن. هذا ما تقوله خبرات الشعوب في كل بقاع الأرض، وهو ما تُثبته أيضاً تجارب الأمم في كل عصر؛ بل قل هذا ما تقوله وتثبته تجارب وخبرات الأفراد، وهو ما يعرفه كل إنسان؛ سواء مارس الظلم والاستبداد وأسهم في تكبيل أخيه الإنسان بالقيود والأغلال، أو كان ضحية للظلم والاستبداد الذي مارسه عليه أخوه الإنسان. ولم يثبت على مر العصور والأزمان لدى الشعوب والأمم جميعها أن قيداً واحداً استعصى على الكسر عندما توافرت لضحيته الإرادة في أن يكسره، وفي اللحظة التي انقشع فيها عن عينيه ضباب الوهم الذي كان يصور له أن قيده من فولاذ، أو أنه أبدي وغير قابل للكسر.
سقطت قيود كثيرة كانت في الماضي تقهر إرادة الإنسان، وكانت تحرمه من نعمة الآدمية، وتضعه في مرتبة أدنى من الحيوان، مثل القيود التي أنتجت نظم الرق والاستعباد، ومثل القيود التي حجبت نور العلم والمعرفة وتركت الإنسان يعيش لفترات طويلة في ظلمات الجهل حتى ظن أنه ليس بخارج منها. ولكن بالإرادة الصلبة وبالعزيمة الماضية استطاع الإنسان أن يكسر كل هذه القيود عندما اكتشف أن إرادته أقوى بكثير منها، وأن قوة الذين قيدوه أضعف بكثير مما كان يتصور، وأن قسماً كبيراً من قوتهم نتاج ضعفه واستكانته واستسلامه لمصيره الذي لم يرده الله له، وأن كل ما في الأمر أن الطغاة والمستبدين والفاسدين والمستغلين فرضوا عليه تلك القيود.
صحيح أن شعوب الإنسانية لم تتخلص بعد من كل القيود التي قهرتها وحرمتها من التقدم والارتقاء إلى مستوى تكريم الله للإنسان المنصوص عليه في قوله تعالى: «ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً». ومن هذه الشعوب شعوب أمتنا في أغلبها، التي لا تزال تعاني من قيود كثيرة؛ أهمها القيود التي يفرضها ثالوث الاستبداد والفساد والجهل: الاستبداد الذي يصادر إرادة المجموع لصالح إرادة فرد واحد؛ سواء كان هذا الفرد رب أسرة، أو صاحب عمل، أو رئيس مصلحة، أو رئيس دولة. والفساد الذي لا يعشش إلا في أوكار الاستبداد ويتغذى على مثالبه ويبادله المنافع والملذات. والجهل الذي يرفد كلاً من الاستبداد والفساد بما يحتاج من صنوف التضليل والاستعلاء والظلم والاستبعاد والإقصاء لكل صاحب كفاءة، ولكل صاحب رأي حر.
صحيح أن هذا التحالف بين أطراف هذا الثالوث اللعين يتعقد ويقوى يوماً بعد يوم؛ فالمستبد بالسلطة ـ ابتداءً من الحاكم الرئيس أو الملك أو الأمير، مروراً بالوزير أو المدير أو رئيس مجلس الإدارة، وصولاً إلى رئيس القسم، ورئيس الحي، وشيخ الحارة، وشيخ القبيلة، ورب الأسرة ـ هذا المستبد يجد أنه لا يمكنه الاستمرار، وأنه لن يكتب له البقاء إذا هو حارب الفساد، أو حاول أن يستأصل شأفته، أو إذا هو شجع العلم وقرب أهله وجعلهم أعوانه ومستشاريه. ويجد أنه لا يمكنه الاستمرار أو البقاء إذا هو حارب الجهل وأقصى الجهلاء بعيداً عنه، وساعدهم على التخلص مما هم فيه.
إن أعظم جريمة يمكن أن يرتكبها ذو سلطةٍ؛ كبيرة كانت أم صغيرة، اجتماعية كانت أو سياسية أو ثقافية أو علمية، هي أن يستبد بها، وأن يحسبها إنما وجدت لأجله من دون الناس، وأن هؤلاء الناس الذين باتوا تحت إمرته ليسوا أكثر من عبيد إحساناته، وأنه مهما قال فعليهم السمع والطاعة. هذا المستبد سرعان ما يمسي في أمس حاجة لحاشية تصور للناس شدة قوته، وترسخ في أذهانهم مطلق إرادته، وتحذرهم من غضبه، وترغبهم في التزلف إليه والانقياد له بيسر وسهولة، وتزجرهم عن أي مقاومة أو مراجعة أو رفع الصوت بنقد يوجه إليه، أو بتنبيهه لتقصير هنا أو ظلم هناك؛ يكون هو قد تسبب فيه أو سكت عنه أو شجع عليه. ولن يجد المستبد أفضل من الفاسدين للقيام بتلك المهمات الرديئة، فهم وحدهم الذين يملكون أيادي قوية وألسنة حداداً، ونفوساً ضعيفة وضمائر ميتة.
والفساد والجهل صنوان لا يفترقان إلا من أجل تجديد اللقاء، وشريكان لا يختلفان إلا بقصد توثيق ما بينهما من رباط. وهكذا يحدث التحالف غير المقدس بين الاستبداد والفساد والجهل، وينحدر المجتمع، وتهوي المؤسسة، أو الجامعة، أو المركز العلمي، أو الأسرة؛ إلى الحضيض، ويرتفع صوت «ديكتاتورية البلهاء» في هذه المستويات كلها، وتتعثر أقدام البلاد -كما يقول جمال حمدان- في العمالقة والعباقرة، بينما يتربع على رأس كل إدارة فيها قزم من الأقزام، يكاد لا يدري أين يجلس، ولا ما الذي عليه أن يفعله، ولا إلى أين يذهب.
عندما يحكِمُ ثالوث الاستبداد والفساد والجهل قبضته على المجتمع كما هو حادث في كثير من بلاد أمتنا الإسلامية؛ في معظم المجالات، وفي أغلب الإدارات العامة منها والخاصة، الحكومية وغير الحكومية، يضمحل شعور قطاعات واسعة من المواطنين بنعمة الحرية، ويضمر شعورهم بالانتماء، وتراهم يذهلون عن كرامتهم الآدمية التي منحها الله لهم؛ فلا يغضبون إذا انتهكت، ويا لهول المرات التي انتكست فيها حريتهم، وتراهم لا يهبون للدفاع عنها، ويقعون أسرى كثير من القيود الحقيقية، لا الوهمية فحسب؛ وقيود الاستبداد والفساد والجهل هي أكثرها خطراً، كما أنهم سرعان ما يقعون أسرى صنف آخر من القيود المصطنعة، وأخطرها قيود الخوف والذل والاستكانة، وهي الأشد فتكاً ودماراً بالفرد وبالجماعة وبالمجتمع.
وصرعى هذه القيود يظنون أنه لا فكاك لهم منها جميعها، وأن لا مخرج لهم من ظلماتها. وإذا ما رسخت هذه المعاني في النفوس، واستقرت في العقول، زاد ثالوث الاستبداد والفساد والجهل ترفاً وسفاهة، وتمادى تجبراً وظلماً، وتوثقت عرى التعاون بين أطرافه على الإثم والعدوان، واستمرأ أعضاء هذا الثالوث أكل أموال الناس بالباطل، واستيسروا هتك حرماتهم وإهدار كراماتهم، والتلذذ بآلامهم، والتحكم في مصائرهم؛ حتى إنه ليُخيَّل إلى أسرى القيود وضحاياها أنهم خُلقوا لها، وأنهم بطبعهم عبيد أو أقل من العبيد في الاستكانة والامتثال لأوامر سادتهم، وأنهم لا حيلة لهم للخروج مما هم فيه، ولا قدرة لديهم على استخلاص حريتهم المسلوبة، أو استرداد كرامتهم المفقودة. فإذا كانت حالهم على هذا النحو؛ فإنهم يبيتون من خوف الخوف في خوف، ومن ذل الذل في ذل، ومن خشية الاستكانة في مهانة. وهم لا يدرون أن كل قيد إنما وجد لينكسر، وأن قوته إنما هي من ضعف ضحيته، وأن كل حلقة من حلقاته مهما استحكمت فإنها لا محالة ستتحطم، وأنه ليس من قيد إلا وهو إلى زوال. ولو أنهم جربوا، لنجحوا كما نجح آخرون.