الخبز والدم: هل تعود عقارب الساعة إلى يناير 1977؟
كلمات بسيطة خاطبت بها ماري أنطوانيت زوجة لويس السادس عشر الفقراء الذين تجمعوا للاحتجاج على غلاء الخبز. لم تعرف ماري أن كلماتها هذه ستكون نقطة النهاية للملكية في فرنسا، وأنها بيدها فتحت الباب على مصراعيه أمام الثورة الفرنسية، وانتهى بها الأمر وزوجها معلقين على المقصلة في ميدان الكونكورد.
هكذا كان الرغيف الوقود الأقوى للتغيير، وبعيدًا عن الحالة الفرنسية، فانتفاضات الخبز التي شهدتها المنطقة العربية في السبعينات والثمانينيات كانت خير دليل على ذلك. فمن مصر إلى تونس والمغرب والجزائر والأردن، انطلقت المظاهرات واختلفت السياقات، ولكن ظل رغيف الخبز العامل المشترك والمحفز الأساسي نحو الاحتجاج.
مصر: انتفاضة 1977
في الـ 18 يناير/كانون ثاني 1977 انطلقت انتفاضة شعبية عقب اتخاذ الرئيس الراحل أنور السادات قرارًا برفع الدعم عن مجموعة من السلع الأساسية، ومنها الخبز والسكر والشاي والأرز والبنزين. جاء ذلك القرار في إطار خطط الرئاسة لإعادة هيكلة الاقتصاد وتحويله إلى النظام الرأسمالي، تنفيذًا لتوصيات البنك الدولي بترشيد الإنفاق العام وخفض الدعم.
قطاعات عريضة من الشعب خرجت في مظاهرات حاشدة تهتف ضد الجوع والفقر وتطالب بسقوط النظام والحكومة. وفي اليوم التالي، ازدادت حدة المظاهرات لينزل الجيش إلى الشوارع لقمعها، وتعلن السلطات حالة الطوارئ. شنت الحكومة كذلك حملة اعتقالات في صفوف المتظاهرين تم على إثرها القبض والتحقيق مع قرابة 1270 شخصًا بتهم التجمهر ومحاولة قلب نظام الحكم.
ووصف الرئيس السادات الانتفاضة بأنها «انتفاضة حرامية»، واتهم الشيوعيين بمحاولة قلب نظام الحكم والتآمر ضده. وكما هو المعتاد، خرجت الصحف الحكومية بعناوين عريضة متحدثة عن مؤامرة شيوعية لإحراق البلد وقلب نظام الحكم. إلا أن القضاء انتصر للمتظاهرين، فأكد أن ما حدث كان انتفاضة شعبية وليس انتفاضة حرامية، وقضى ببراءة جميع المتهمين متحديًا الرئيس آنذاك.
أخيرًا، أمام استمرار الانتفاضة، قرر السادات إلغاء القرارات الاقتصادية. ويمكن الدفع أن هناك عدة عوامل تضافرت لتقف وراء نجاح هذه الانتفاضة، لعل أبرزها: ازدهار الحركة الطلابية، وما تمتعت به الحركة العمالية من قوة وفعالية على أرض الواقع، فقد كان العمال قوة لا يستهان بها. ومن الأمثلة التي تؤكد ذلك، إضراب عمال أحد المصانع الحربية في حلوان عام 1976، حينما احتلوا المصنع وطالبوا بإقالة المدير، وصرف نصف نصيبهم من الأرباح وإعفاء العلاوات النقدية من الضرائب، ما اضطر وزير العمل حين ذاك لتلبية مطالبهم.
كذلك لعبت القيادات المحيطة بالسادات دورًا هامًا في دفعه للتراجع عن رفع الأسعار، مخافة تفاقم التداعيات على المستوى الشعبي. إذ كشفت مذكرات عبد المنعم القيسوني، نائب رئيس الوزراء للشئون الاقتصادية والمالية حينئذ، أن أجهزة الدولة السيادية حذرت من أن أي إجراء تتخذه السلطة يمس السلع الغذائية الأساسية للشعب سيؤدي إلى ثورة شعبية عارمة.
تونس: السيناريو المصري يتكرر
انفجرت انتفاضة الخبز التونسية عقب قرار حكومي في أواخر ديسمبر/كانون الأول 1983 بإلغاء الدعم عن العجين ومشتقاته، ما يعني رفع أسعار الخبز ومضاعفتها.
عمت الاحتجاجات مدن الجنوب التونسي، منها قبلي ودوز وسوق الأحد والحامة. ومع دخول مشروع الزيادة في الأسعار حيز التنفيذ في الأول من يناير/كانون الثاني 1984، امتدت الحركة الاحتجاجية إلى مناطق الشمال والوسط الغربي وبقية مناطق الجنوب، ما استدعى دخول الجيش لهذه المناطق بعد أن سجل عجز قوات النظام العام في الحد من توسع الانتفاضة.
في الـ 3 من يناير/كانون الثاني 1984 بلغت الانتفاضة ذروتها بوصولها إلى العاصمة التونسية. وأصبح العنف سيد الموقف فأحرقت المحلات والسيارات والمؤسسات والحافلات في شوارع العاصمة وضواحيها وفي كثير من المدن. وما حدث بنظيرتها المصرية تكرر مرة أخرى، إذ قام نظام بورقيبة بقمع المظاهرات، وأعلنت السلطات حالة الطوارئ، وأطلقت على الانتفاضة صفة «المجرمين والمخربين»، كما شنت حملة اعتقالات في صفوف المتظاهرين.
إلا أن ذلك لم يُثنِ المحتجين عن مواصلة الانتفاضة إلى أن اضطر الرئيس بورقيبة إلى التراجع وخرج يوم 6 يناير/كانون الثاني 1984 مُعلنًا إعادة أسعار الخبز إلى ما كانت عليه قبل الاحتجاجات، واعدًا بإعادة النظر في الميزانية الجديدة في فترة لا تتجاوز ثلاثة أشهر، مع الأخذ بعين الاعتبار الظروف الاقتصادية المنهارة وعدم تحميل المواطن أعباء هذا التدهور.
والجدير بالذكر في هذا الإطار أن تجانس المجتمع التونسي كان من أبرز عوامل نجاح هذه الانتفاضة. فالصراع فيه لا يتحول بسهولة إلى صراع طائفي أو عشائري. ولا تتحول فيه الصراعات الطبقية والسياسية إلى صراعات على مستوى الهويات الجزئية. هذا بالطبع إلى جانب ابتعاد الجيش عن السياسة منذ الاستقلال. فبالرغم من مشاركته في منع المظاهرات، إلا أنه لم يكتسب على عكس الجيوش في الجزائر ومصر وسوريا خبرة في الدفاع عن النظام ومؤسسة الحكم في مواجهة الانتفاضات الشعبية أو في ضبط البلاد في أوقات الاضطرابات.
المغرب: حينما قوبل الاحتجاج بالرصاص
انتقلت انتفاضة الخبز إلى المغرب في الـ 19 من يناير/كانون الثاني 1984، حينما خرج تلاميذ المدارس في مظاهرات غاضبة بمدن الشمال المغربية، وانضم إليهم أعداد كبيرة من العمال والفلاحين والموظفين؛ احتجاجًا على قرارات الحكومة برفع الدعم عن الخبز تنفيذًا لاتفاق أبرمه المغرب آنذاك مع البنك الدولي.
فقد تميز الوضع العام بالمغرب بداية الثمانينات بارتفاع نسبة البطالة، وتدهور الأوضاع الاقتصادية، بسبب الإنفاق الضخم على حرب الصحراء وانخفاض عائدات الفوسفات، فضلاً عن صعود المديونية إلى قرابة المليار دولار. ولسد العجز اتجهت الحكومة إلى الاقتراض من المؤسسات المالية الدولية، وتطبيق سياسة التقويم الهيكلي والتي كان من تداعياتها ارتفاع كلفة المعيشة وتطبيق رسوم إضافية على التعليم ورفع الدعم عن الخبز.
بالرغم من هذا، فالعوامل الاقتصادية لم تكن وحدها الدافع الأساسي وراء اندلاع الانتفاضة ونجاحها، فقد امتزجت بها العوامل السياسية. إذ سادت تلك الفترة حالة من القمع والاعتقالات السياسية ومصادرة الحريات الأساسية للمواطن وهو ما كان باعثًا على السخط الشعبي واستمراره.
وأمام هذه الأوضاع أمرت السلطات الجيش بالتدخل من أجل وضع حد للاضطرابات، غير أن النتيجة جاءت معاكسة لما كانت ترغب فيه، إذ ساهم القمع في توسعها. وبالنهاية قرر الملك الحسن الثاني التراجع، ووجّه خطابًا للشعب، طالب من خلاله الحكومة بوقف جميع المشاريع الرامية إلى رفع أسعار المواد الغذائية.
الجزائر: أكياس الدقيق الفارغة بدلاً من الأعلام
في الـ 5 من أكتوبر/تشرين الأول 1988 انتفض الجزائريون رافعين أكياس الدقيق الفارغة عوضًا عن أعلام بلادهم، احتجاجًا على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وغلاء الأسعار، نتيجة تدني أسعار النفط التي شهدها العالم عام 1986.
عمت المظاهرات المدن الجزائرية الكبرى وهاجم المتظاهرون المقرات الحكومية والأمنية، وبعد يومين من التظاهرات أعلن الرئيس الجزائري الراحل الشاذلي بن جديد فرض حظر التجول ليلاً في العاصمة وضواحيها.
تسبب ذلك بمقتل 120 شخصًا وتوقيف 15 ألفًا آخرين، ومع ذلك استمرت التظاهرات وزادت وتيرتها ما أجبر الرئيس بالنهاية على الظهور في 10 أكتوبر/تشرين الأول على شاشات التلفزيون متعهدًا بالتراجع عن رفع الأسعار وتنفيذ إصلاحات سياسية واجتماعية.
ولم تتوقف مكاسب هذه الانتفاضة تحديدًا عند هذا الحد، فقد شكلت الدافع الرئيس لدخول الجزائر عهد التعددية والانفتاح السياسي. فكانت بمثابة الربيع الجزائري الذي جاء متقدمًا بعقود على الربيع العربي. إذ نجح الشارع من خلالها في الإطاحة بحكم الحزب الواحد، وفرض تحولات وإصلاحات سياسية أتاحت مناخًا نسبيًا من التعددية السياسية والإعلامية في البلاد.
ففي ذلك المناخ الدامي، وقّعت 18 شخصية سياسية جزائرية، بينها عبد العزيز بوتفليقة، بيانًا طالبت فيه الرئيس «الشاذلي بن جديد» باستدراك الوضع وإطلاق إصلاحات سياسية تعزز الحريات العامة. وبعد فشل بن جديد في قمع المظاهرات، أعلن عن إصلاحات سياسية وتغيير في الحكومة والحزب الحاكم، وطرح لاحقًا دستورًا يُنهي حكم الحزب الواحد ويتيح التعددية السياسية والحريات، بعد استفتاء شعبي في 23 فبراير/ شباط 1989.
ودخلت بعد ذلك الجزائر مرحلة فوران سياسي طبعه انبثاق عدد كبير من الأحزاب السياسية، وصعود التيار الإسلامي بشكل لافت عبر «الجبهة الإسلامية للإنقاذ»، والتيار الديمقراطي عبر حزب «جبهة القوى الاشتراكية» و«التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية». كذلك انتشرت الصحافة الحرة، والنقابات المستقلة، وتقلص هامش الرقابة على الكتب وحرية التعبير.
وبالرغم من ذلك، فقد ظل هذا المسار مفتقدًا إلى إطار سياسي ومؤسسات قوية تحميه من التدافع العنيف من جهة، ومن التفاف المؤسسة السياسية والأمنية على الربيع الديمقراطي من جهة أخرى.
الأردن: «معان» مدينة الانتفاضات
اندلعت انتفاضة الخبز بالأردن مرتين؛ الأولى في مدينة «معان» عام 1989، والثانية بنفس المدينة في 1996.
جاءت الانتفاضة الأولى عقب اللجوء إلى صندوق النقد الدولي بعد تدهور الأوضاع الاقتصادية بالدولة وعجزها عن سداد ديونها؛ حيث نص الاتفاق مع الصندوق على منح البلاد قرضًا بقيمة 275 مليون دولار، وإعادة جدولة جزء من الديون الخارجية مقابل البدء ببرنامج التصحيح الاقتصادي. بالفعل بدأ الأردن بتنفيذ البرنامج وقرر رفع أسعار المحروقات والسلع والمواد الغذائية وعلى رأسها الخبز بين 15% إلى 50%.
سرعان ما ثار غضب وسخط الشارع، فاندلعت المظاهرات العارمة، وتحولت بعد ذلك إلى أعمال عنف حطم خلالها المتظاهرون كل ما له علاقة بمؤسسات الدولة. كما تطور الأمر تدريجيًا إلى المطالبة بالحريات العامة وإسقاط الحكومة، بعد أن انتقلت التظاهرات إلى مرحلة الاشتباك المسلح مع رجال الأمن. ولم تهدأ تلك الأحداث إلا باستقالة الحكومة برئاسة «زيد الرفاعي».
وفي 1996، تكرر الأمر مرة أخرى، رفضًا لقرار الحكومة رفع الدعم عن الخبز، ولم يحدّ من فعاليته الدعم النقدي الذي صُرف للمواطنين لتعويضهم عن ارتفاع الأسعار، فتواصلت الاحتجاجات إلى أن تراجعت الأسعار بما حقق حالة من الرضا الشعبي، رغم عدم عودتها إلى سابق عهدها.
وهكذا على مدار أكثر من عشرين عامًا حافظت أسعار الخبز على موقعٍ لها في خانة «الخطوط الحمراء» التي يُحرم الاقتراب منها. فحرصت الحكومات المتعاقبة على إبقاء الخبز في منأى عن إملاءات صندوق النقد الدولي. إلا أنه في أواخر يناير/كانون الثاني الماضي 2018، رفعت حكومة «هاني الملقى» الدعم، وطُبِّقت أسعار جديدة للخبز بزيادات متفاوتة وصلت إلى 100% في بعض الحالات. صحيح أنها صرفت في المقابل دعمًا نقديًا للمواطنين ذوي الدخل المنخفض، إلا أن ذلك لم يمنع من اندلاع التظاهرات المطالبة بإسقاط الحكومة والبرلمان.
لماذا فقد الخبز قدرته على الاحتجاج؟
في سيناريو مماثل، اندلع بداية العام الجاري عدد من الاحتجاجات والهبات الجماهيرية في كل من تونس والسودان وإيران. قادها في تونس أعضاء حركة «فاش نستناو» (ماذا ننتظر؟) على خلفية إجراءات التقشف وغلاء الأسعار وزيادة الضرائب. وحرّكها في السودان طلاب المدارس والجامعات ومحدودي الدخل على خلفية ارتفاع أسعار الخبز والسلع الاستهلاكية الأخرى. بينما دفعها بإيران قطاعات عريضة من الشعب تنديدًا بارتفاع الأسعار وتزايد معدلات الفقر ونسب التضخم. وبالرغم من التشابه بين الهبات الحالية ونظيرتها السابقة في الثمانينات، إلا أنها لم تأتِ بجدوى هذه المرة، وهو الأمر الذي أثار التساؤلات، وفتح الباب للمقارنة بين أحداث اليوم وانتفاضات الأمس.
يمكن القول إن هناك عددًا من العوامل هي التي حرمت الحركات الشعبية الأخيرة من التطور لتصبح انتفاضات شعبية قادرة على التأثير في سياسات الحكومات.
لعل أبرز هذه العوامل هي الخبرة غير المُحفِّزة، فمنذ عام 2011 وهناك تخوف من سياقات الفوضى الإقليمية، وتكرار سيناريو الفوضى في ليبيا واليمن وسوريا والعراق، بعد تحول الحراك الثوري هناك إلى صراعات مسلحة بين قوى داخلية تدعمها أطراف إقليمية وقوى دولية. هذا فضلاً عن عدم وجود مؤشرات راهنة على تسوية هذه الصراعات، واتجاهها لمزيد من التعقيد. فالمفاضلة بين الأوضاع الحالية والأوضاع المتوقعة فيما بعد تصب في صالح الأولى.
هذا فضلاً عن زيادة قوة القبضة الأمنية وتدخل الجيش في تحديد المسارات المحتملة للاحتجاجات. وقد ظهر هذا جليًا في تجاوز إيران أزمة الاحتجاجات بدعم من الجيش وقوات الحرس الثوري و«الباسيج»، كما اتضح بتونس من خلال تأمين الجيش المقار السيادية والمنشآت الحساسة والمرافق العمومية بعد اندلاع الاحتجاجات الأخيرة.
ولا يمكن بالطبع إنكار دور السياق الدولي والإقليمي الرافض لذلك الحراك، والذي وظفته الأنظمة السياسية لصالحها كما حدث في إيران. فقد نجح النظام الإيراني، بشكل نسبي، في استغلال موقف إدارة دونالد ترامب الضاغط على طهران من أجل الترويج لمزاعم حول وجود مؤامرة خارجية تقودها قوى دولية، وحشد قسم من أنصاره لرفض التدخل الأمريكي في شئون إيران الداخلية.