بين لولا وبولسنارو: البرازيل وشبح الحكم العسكري
ذكرى كئيبة كان البرازيليون يحاولون نسيانها. لكن رئيسهم الحالي، جايير بولسونارو، قال إنه سيحتفل بها وامتدحها. منذ تلك اللحظة قرر البرازيليون بشكل جمعي غير منسق أن يشعلوا في ذكرى ذلك اليوم الاحتجاجات والمظاهرات، ويجعلوا منها حدثًا لا يُنسى. فربما لم يكن بولسونارو قد رأى المسيرات التي تخرج سابقًا كل عام لتؤكد كره الشعب للانقلاب الذي أعدم مئات البرازيليين وعذَّب الآلاف وحل البرلمان.
حقبة مظلمة دخلتها البرازيل ولم تخرج منها إلا بعد عشرين عامًا كاملة. وجاء الرئيس المنتخب ليقول للبرازيليين إن خطأ الانقلاب الوحيد أنه لم يقتل ما يكفي من اليساريين. أعلن بولسنارو أنه يؤيد الحكم الديكتاتوري الذي امتد من عام 1964 حتى عام 1985. ما قاله بولسونارو عكس وجهة نظر قادة هذا الانقلاب الذين التقوا مع بولسونارو، العسكري المتقاعد، على مبدأ أن مشاكل البرازيل لن تُحل بالديموقراطية، بل يلزمها حكم الخونتا العسكرية.
الخونتا هو نظام حكم يقوده مجموعة من ضباط الجيش. وخونتا كلمة متنازع حول أصلها، إسباني أو برتغالي، لكنها في كل الأحوال تعني المجلس. وتعارف التاريخ أن الخونتا تحكم في فترة ما بين سقوط رئيس وفي انتظار انتخاب رئيس جديد. ويمكنها في تلك الفترة أن تتصرف في الحكم كما تشاء. كأن تشكل حكومة مدنية وتعين رئيسًا للوزراء. لكن حتى هذه الحكومة لا يكون لها أي سلطة حقيقية سوى تنفيذ أوامر القيادة العليا. وقد تطول المدة التي تحكم فيها الخونتا، خصوصًا إذا كانت هي من دبر شغور منصب الرئيس لتحل هي محله كما حدث في البرازيل.
عام 1961 أعلن الرئيس جانيو كوادروس استقالته من الرئاسة. استقال في نفس العام الذي تولى فيه الرئاسة. كانت تلك مناورة سياسية من الرجل. يستقيل فتخرج الجموع الغاضبة تطالبه بالعودة للمنصب فيعود ولديه ظهير شعبي قوي، ويرى أعداؤه أن الرجل مدعوم من قبل الشعب. لكن حسابات كوادروس لم تكن في محلها؛ إذ لم يطالبه أحد بالعودة، بل أصبح منصبه شاغرًا بطريقة دستورية وشرعية تمامًا.
التضخم والعزلة السياسية
طبقًا للدستور، على نائب الرئيس أن يتولى المنصب. جواو جولار، هو نائب الرئيس المنتخب، وضحية الانقلاب بعد 3 سنوات. لكن لم يستطع جولار تولي الحكم مباشرة، فقد كان في رحلة إلى الصين. تلك الرحلة أكدت ما يُقال عن أنه شيوعي. روَّج اليمينيون تلك الجملة حوله، رغم كون الرجل قوميًّا لكنه معتدل. دخلت النخبة السياسية في البلاد في حالة احتقان أفضت بعد مفاوضات مريرة امتدت لمدة شهر مع جناح جولار وجناح تانكريدو نيفيس إلى أن يبقى جولار الرئيس لكن دون صلاحيات. ولضمان حدوث ذلك سيُعين نيفيس رئيسًا للوزراء، وتتحول البلاد من النظام الرئاسي للنظام البرلماني.
بعد عامين من الاتفاق أتت مرحلة الاستفتاء الشعبي على الدستور. رفض الشعب النظام البرلماني، ووافقوا على العودة للنظام الرئاسي. ترتب على ذلك عودة جولار رئيسًا للبلاد. فتسلم الرجل الرئاسة بكامل صلاحياته مرة أخرى. لكن المشاكل السياسية ظهرت من العدم، خصوصًا أن حكمه كان في فترة الحرب الباردة. وقاد جولار البرازيل لما يشبه العزلة السياسية. فقد انتقد بقسوة غزو الولايات المتحدة الأمريكية لخليج الخنازير. وانتقد فيديل كاسترو، الزعيم الكوبي، بسبب أزمة الصواريخ الكوبية.
تزعزع استقرار حكمه، خصوصًا أن الرجل كانت خطته ترتكز على توزيع أرباح الشركات العامة على الجميع بصورة اشتراكية كي يحصل الجميع على حياة أفضل. لكن الجناح اليميني المتطرف في المعارضة السياسية والمؤسسة العسكرية اعتبروا تلك الخطوة تهديدًا اشتراكيًّا للدولة، لذلك نظموا مظاهرات حاشدة ضد الحكومة. تلك المظاهرات حملت اسم مسيرة «العائلة مع الله من أجل الحرية».
انضم عموم الناس لتلك المظاهرات لا لأنهم يخافون التهديد الاشتراكي، لكن لأن التضخم بدأ يأكل كل ما لديهم. مع تدهور الاقتصاد لجأ الرجل لصندوق النقد الدولي، لكنه فشل في تنفيذ توصيات صندوق النقد، ولم يجذب مناخ البرازيل المستثمرين الأجانب. ارتفع التضخم لمستويات غير مسبوقة، ودخلت البلاد حالة من الصراعات الاجتماعية بين الشعب ونفسه. وعد جولار أنه سيلقي خطابًا في 13 مارس/ آذار 1964 يحمل في طياته حل هذه المشاكل.
إهانة الجيش
أتى الخطاب المرتقب. صرَّح جولار فيه بأنه سيقوم بتأميم محطات تكرير النفط الخاصة ببلاده. بجانب العديد من الإصلاحات الأخرى. عوضًا عن تهدئتها، ألقت تلك التصريحات الحطب في آتون مسيرات «العائلة مع الله». واستمرت تلك التظاهرات 6 أيام دون أن تهدأ أو يتدخل جولار لقمعها. وكانت القوات المسلحة تشعل نار تلك المظاهرات لكن دون أن تظهر في الواجهة.
بدأ الجيش يتدخل في 25 مارس/آذار عام 1964، تجمع قرابة 2000 بحَّار من البحرية البرازيلية، مطالبين بتحسين أوضاعهم الاجتماعية. وفي الوقت نفسه يعلنون دعمهم الكامل لجولار في إصلاحاته. وزير البحرية، سيلفيو موتا، أمر باعتقال البحارة الذين يقودون هذا التجمع، وأرسل لهم كتيبة من قوات البحرية لقمعهم. انضمت الكتيبة المرسلة إلى التجمع الأصلي.
تدخل جولار وأمر بعدم المساس بتجمع البحارة، وأقال موتا من منصب وزير البحرية. لكن في اليوم التالي، تدخل وزير العمل للوصول إلى تسوية مع هؤلاء الضباط والبحارة بخصوص أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية التي يطالبون بتحسينها. نجحت التسوية وانفض التجمع وخرج الضباط والبحارة. لكن بمجرد خروجهم من مقر تجمعهم، اعتُقلوا جميعًا بتهمة العصيان العسكري.
تدخل جولار مرة أخرى وأصدر عفوًا رئاسيًّا عن جميع البحارة المعتقلين. تلك النقطة رأتها المؤسسة العسكرية إهانة لها. وتفجر الخلاف العلني بين المؤسستين. بعد قرار العفو بأيام قليلة، وقبل الانقلاب بيوم توجه جولار إلى إحدى الكتائب العسكرية كي يلقي فيها خطابًا. طلب في هذا الخطاب الدعم من المؤسسة العسكرية في تنفيذ إصلاحاته التي ينشدها.
أمريكا تخطط سرًّا
بعد ذلك الخطاب طفت على السطح مخاوف الولايات المتحدة من جولار. كشفت الوثائق المفرج عنها أن الولايات المتحدة شعرت بالقلق من جولار منذ يوليو/ تموز 1962؛ إذ عقد جون كينيدي، الرئيس الأمريكي آنذاك، اجتماعًا مغلقًا مع مستشاريه يخبرهم فيه عن مخاوفه من أن يقود جولار البرازيل لنظام حكم شيوعي. وانتهى هذا الاجتماع إلى ضرورة دعم القوات العسكرية البرازيلية لتعارض جولار. مع إرسال موفد متقن للغة البرتغالية يكون هو حلقة الوصل بين الولايات المتحدة وجيش البرازيل.
في 11 ديسمبر/ كانون الأول 1962 اجتمعت اللجنة التنفيذية لمجلس الأمن الوطني الأمريكي لتضع البدائل المتاحة لجولار. التيار الأول رأى عدم فعل شيء، والاكتفاء بمشاهدة ما يحدث. فالأوضاع أكبر من جولار وسوف تجرفه عاجلًا أو آجلًا. السيناريو الثاني كان دعم العناصر المعادية لجولار لتنفذ انقلابًا. أما الاختيار الثالث فكان محاولة استمالة جولار نفسه لتغيير ميوله وتوجهاته الفكرية والسياسية.
لكن كان الأيسر والأضمن في النهاية هو دعم المنظومة العسكرية لتنفذ انقلابًا على جولار وسياساته. وبدأ التحضير لهذا قبل الانقلاب بعامين كاملين. خوسيه سارني كان هو القائد الذي اختارت الولايات المتحدة وضعه على سدة الحكم، فأعلن قيام الجمهورية البرازيلية السادسة. ذلك الإعلان كشف للجميع أن وعد المؤسسة بتدخل عسكري سريع قد تبخر، فخضعت البرازيل لحكومات عسكرية متعاقبة طول 21 عامًا.
النظام الديكتاتوري جعل البرازيل جنة للغرب وجحيمًا لسكانها. فقد قدَّم النظام تسهيلات مهولة للشركات الأجنبية مثل الإعفاءات الضريبية والقروض المدعومة من الحكومة والاستحواذ على أراضي الدولة أو الشركات المحلية. وحين يتقاعد ضباط الخونتا العسكرية كانوا ينضمون إلى مجالس إدارة تلك الشركات مثل شركة فيات لصناعة السيارات.
وفي مقابل تلك المزايا كانت الشركات متعددة الجنسيات تُبلغ الجيش عن العمال المعارضين لها، والعمال الناشطين في المطالبة بحقوق العمال. أعدت الشركات قوائم بأسماء وعناوين العمال الذين تصفهم بالمخرِّبين، كي يسهل على الحكومة اعتقالهم والتخلص منهم. أسفرت تلك القوائم عن اعتقال عشرات الآلاف من الأشخاص. من بينهم ديلما روسيف، رئيس البرازيل السابقة.
وفي عام 2013 أُعلن عن 300 ألف ملف لمواطنين خضعوا للتحقيق من قبل الأمن البرازيلي في فترة الانقلاب. كان بيليه، نجم الكرة الشهير، واحدًا من هؤلاء. واستمرت السلطة في مراقبة نشاطاته الشخصية والاقتصادية والرياضية لفترة طويلة.
حنين لسنوات سوداء
قد يكون الانقلاب العسكري البرازيلي أمرًا من الماضي. وقد يكون بولسوناور هو المفتون به كونه كان عسكريًّا أو يميل للحكم الديكتاتوري. لكن ما يعيد هذا الانقلاب للأذهان هو أجواء ما يشابه الحنين التي تسري في أنحاء البرازيل أحيانًا. فالعديد من أفراد الشعب غير المؤدلجين يتحدثون بأريحية عن فترة الانقلاب العسكري. كما فعلت بضع سيدات عجوزات في مظاهرات في العام الماضي بحمل لافتة تقول لماذا لم يقتلوهم جميعًا عام 1964؟ ووجهن رسالة إلى ديلما قائلات: من المؤسف أنهم لم يعدموا ديلما.
الطبقة السياسية في البرازيل تعاني من فضائح فساد متعددة وضخمة؛ لذا يظهر العديد من تقارير الشارع البرازيلي رغبة دفينة لدى الناس في عودة الحكم الديكتاتوري؛ لأنه في رأيهم أنقذ البلاد من إرهاب أسوأ. ووفقًا لاستطلاع جرى عام 2014 يقول فيه 51% من البرازيليين إن الشوارع كانت أكثر أمانًا في فترة الانقلاب.
يخشى البرازيليون من تدخل الجيش في السياسة؛ لأن صورة رجال الجيش الأقوياء لم تنكسر كما حدث في الأرجنتين مثلًا. فحتى حين انتهى الانقلاب عام 1985 تفاوض العسكريون على الخروج بعفو واسع النطاق. هذا العفو ضمن ألا يدفع أي من العسكريين المشاركين في الانقلاب ثمن القتل والتعذيب والترويع الذي فرضوه على البلاد طوال عشرين عامًا. وبما أنه لم تتم إدانة أي من الضباط بأي جريمة. فلم يشعر 62% من الشعب عام 2018 بأن الجيش قد ارتكب أي جرائم. وأعلنوا أنهم يثقون به، ولن يعارضوا عودته للسلطة مرة أخرى.
هذه الانطباعات هي التي تُرجمت في وصول بولسونارو للرئاسة الفترة الماضية. ويخشى الجميع أن تُعاد ترجمة تلك الانطباعات مرة أخرى في الانتخابات الراهنة التي دخل فيها لولا دا سيلفا مع بولسونارو في جولة إعادة. فمن سيختاره البرازيليون لا يمثل نفسه فحسب، بل يمثل التوجه العام الذي يفضله الشعب. الديمقراطية اليسارية أم الدكتاتورية اليمينية. كما يعيش البرازيلون قلقًا من ألا يعترف بولسونارو بنتائج الانتخابات إذا أسفرت عن هزيمته. فالرجل دائم التلويح بتدخل الجيش لصالحه في أي شيء وضد أي قرار. خصوصًا أنه أحاط نفسه بالعديد من الجنرالات في مناصب وزارية مهمة. فكل يوم ينام فيه البرازيليون لا يعرفون ما نظام الحكم الذي سيجدونه يحكمهم في الصباح.