من بورقيبة إلى قيس: هكذا حافظت تونس على علاقتها بإسرائيل
الزمان: مارس/أذار 1965.
المكان: مخيم أريحا الفلسطيني.
المشهد: الرئيس التونسي «الحبيب بورقيبة» يُلقي خطابًا أمام الفلسطينيين يدعو فيه إلى قبول قرار التقسيم الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947، والذي لم يعطِ الشعب الفلسطيني إلا 49% فقط من أراضيهم.
خطاب «بورقيبة» الذي تبنى فيه سياسة لا تستند -في نظره- إلى العواطف في حل القضية الفلسطينية، تسبَّب في موجة غضب واسعة وصلت إلى حد اتهامه بالعمالة، إلا أن دعوته وُصفت بعد سنوات طويلة بالحكمة وحسن التقدير.
ورغم مرور أكثر من 55 عامًا على خطاب الرئيس التونسي الراحل، ما زالت التساؤلات تتردد حول طبيعة العلاقة بين تونس وإسرائيل.
وقد ورد اسم تونس إلى جانب سلطنة عمان في تقرير لصحيفة نيويورك تايمز، في ديسمبر/كانون الأول 2020، حيث وُصفتا على لسان مسئولين، بالدولتين المرشحتين لتكونا التاليتين في قطار التطبيع، رغم تأكيد رئيس الوزراء التونسي «هشام المشيشي»، قبل ذلك بأيام، أن بلاده لن تقدم على هذه الخطوة.
لكن ماذا عن الصلات التاريخية بين البلدين؟ هل استفادت تونس من علاقتها غير الرسمية بإسرائيل؟ وكيف وظَّفت «تل أبيب» علاقتها بتونس لخدمة مصالحها؟
البداية
أولى مراحل الاتصالات بين مسئولي تونس وإسرائيل تعود إلى الفترة بين عامي 1951 و1953، فيما قبل استقلال تونس، إذ يقول الباحث «ميشيل لاسكير» في دراسة له، إن البداية كانت في ولاية نيويورك الأمريكية، حينما تواصل مسئولون تونسيون مع البعثة الإسرائيلية لدى الأمم المتحدة، وكان «بورقيبة» واحدًا من مبعوثي الحزب الدستوري الجديد الذين التقوا المسئولين الإسرائيليين.
وسعى «الباهي الأدغم»، السياسي الذي سيحجز لنفسه مكانًا بارزًا بعد الاستقلال، في لقائه مع الدبلوماسي الإسرائيلي «جيدوين رافاييل»، إلى الحصول على دعم لمشروع قرار ينص على استقلال بلاده، مؤكدًا أن الحزب لن يدعم أحداث العنف التي تعرَّض لها اليهود في تونس آنذاك.
غير أن الأمور لم تسر كما خطط لها الجانب التونسي، ما دفع السياسي «صلاح بن يوسف»، الذي سيصبح فيما بعد الخصم الأكبر لـ «بورقيبة» للتواصل مع الإسرائيليين، ليُعرِب عن خيبته من عدم دعم تل أبيب لجهود استقلال بلاده، مُشيرًا إلى أن تونس ستقف إلى صف العرب لاحقًا لأنهم -ببساطة- الوحيدون الذين قاموا بذلك.
في ذلك الوقت، كان «بورقيبة» على يقين من ضرورة الحصول على دعم اليهود الأمريكيين لتأمين وصول مساعدات «واشنطن» إلى بلاده.
تونس بعد الاستقلال
في 20 مارس/أذار 1956، حصلت تونس على استقلالها، لتنتهي حالة الانقسام داخل إسرائيل الخائفة من رد فعل فرنسا بشأن قنواتها المفتوحة بينهم وبين ممثلي تونس.
وتواصلت الاجتماعات غير الرسمية بين مسئولي الطرفين حتى العدوان الثلاثي على مصر، قبل أن يتفقا أن تكون العاصمة الفرنسية باريس مركزًا لتنسيق المشروعات المشتركة بينهما بإشراف وزير الصناعة والتجارة الإسرائيلي «بنحاس سابير».
ذكر لاسكير في دراسته كذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية حثَّت، في مايو/أيار 1965، «تل أبيب» على لعب دور الوسيط لإقناع كل من فرنسا وألمانيا بمنح الدولة العربية مساعدات قيمتها 20 مليون دولار، على أن تُبرم إسرائيل في الوقت نفسه صفقات لشراء النبيذ التونسي.
علاقات رسمية
العلاقات الرسمية بين تونس وإسرائيل بدأت عام 1996، بعد 3 أعوام من توقيع اتفاقية أوسلو، حيث اتفقتا على فتح مكتبين لرعاية المصالح، إلا أن تونس تراجعت عن قراراها عام 2000، وأعلنت قطع العلاقات مع تل أبيب تضامنًا مع الانتفاضة الفلسطينية.
غير أن الصلات بين البلدين لم تنقطع بهذا الإجراء، إذ استمرت العلاقات غير الرسمية حتى الإطاحة بنظام الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، وفقًا لمجلة «فورين بوليسي».
المتحدث باسم وزارة الخارجية الإسرائيلية «ياجال بالمور» كشف، عام 2014، أن مسئولي إسرائيل أبقوا على «علاقة عمل طيبة» مع الدبلوماسيين التونسيين بقنصلية رام الله بعد قرار قطع العلاقات، وهو الأمر الذي لم يبقَ على حاله في أعقاب يناير/كانون الثاني 2011.
تونس ملعب الموساد
عهد «بورقيبة» و«بن علي»، الذي هرب من بلاده في 15 يناير/كانون الثاني عام 2011، لم يشهد اتصالات وعلاقات اقتصادية مع إسرائيل فحسب، بل شهد ما هو أخطر: عمليات نفَّذتها إسرائيل على الأراضي التونسية، وفي مناطق مكتظة بالسكان.
ففي ثمانينيات القرن الماضي، استضافت تونس أعضاء منظمة التحرير الفلسطينية بعد مغادرتهم لبنان، وهو أمر غالبًا ما يُذكر كأحد أدلة دعم السلطات التونسية للقضية، إلَّا أن جانبًا آخر من الرواية أورده المؤرخ كينيث بيركنز، في كتاب A History of Modern Tunisia، قائلًا بأن الأمر تم تحت ضغط كبير من واشنطن.
ونجحت تل أبيب، في الأول من أكتوبر/تشرين الأول 1985، في شن غارات جوية على مقر قيادة المنظمة في مدينة حمام الشط التونسية، لتُدمِّر المقر وعددًا من المباني المجاورة، ما أسقط أكثر من 80 شهيدًا بين فلسطينيين وتونسيين، في الوقت الذي نجا فيه ياسر عرفات من الموت بعد قرار تأجيل أحد الاجتماعات.
العملية الثانية تلت مجزرة حمام الشط بثلاثة أعوام، ووقعت في قلب العاصمة التونسية، حين نفَّذ عملاء الموساد عملية اغتيال خليل الوزير «أبو جهاد»، وهو الرجل الثاني في المنظمة الفلسطينية، وحمَّلته إسرائيل مسئولية العديد من الهجمات التي تعرضت لها، في هجوم مسلح على الفيلا التي كان يُقيم بها، وهو الأمر الذي لم تعترف به تل أبيب إلا في عام 2012.
إسرائيل وثورة الياسمين
اندلاع ثورة الياسمين، وتعاقب الرؤساء على حكم تونس، لم يمنع -على ما يبدو- الموساد من أن يرتع في تونس، ليأتي اغتيال «محمد الزواري»، مهندس الطيران التونسي، وأحد أفراد حركة حماس، ليُعيد الأنشطة الإسرائيلية في بلدان المغرب إلى المشهد مجددًا.
«الزواري» الذي أُطلق عليه الرصاص داخل سيارته أمام بيته في ولاية صفاقس في ديسمبر/كانون الأول 2016، كان أحد المسئولين عن تطوير السلاح الجوي للحركة، والتي اتهمت تل أبيب بالوقوف وراء العملية.
العلاقات التجارية كذلك لم تنقطع بين البلدين بعد الثورة، إذ بلغت قيمة الصادرات التونسية إلى إسرائيل ذروتها في عام 2018، بما يزيد عن 17 مليون دولار، فيما تخطت الواردات في عام 2012 حاجز الـ 14 مليون دولار. كل هذا مع الأخذ في الاعتبار أن التطبيع في تونس ليس جريمة يعاقب عليها القانون.
قيس سعيد وإسرائيل
تولى «قيس سعيد» مقاليد الحكم في 2019، وهو منْ وصف التطبيع خلال حملته الانتخابية بـ «الخيانة العظمي»، إلَّا أن سياساته شهدت أيضًا عددًا من التناقضات، ففي الوقت الذي شن فيه هجومًا واسعًا على صفقة القرن التي أعلنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، اتخذت إدارته قرارًا صادمًا حينما انتقلت المعركة إلى أروقة الأمم المتحدة. فما أن بدأ المندوب التونسي لدى الأمم المتحدة «منصف البعتي» في قيادة المفاوضات الدبلوماسية لدعم مشروع قرار فلسطيني لاعتبار الخطة الأمريكية انتهاكًا للقانون الدولي، لنتفاجأ بقرار عزله في 7 فبراير/شباط 2020، لأنه لم يُنسِّق المواقف الرسمية مع سلطات بلاده، وذلك بحسب الرواية الرسمية.
مجلة فورين بوليسي الأمريكية نقلت، عن مصادر دبلوماسية لم تُسمِّها، أن الرئيس التونسي اتخذ قراراه بناءً على شكوى من الولايات المتحدة، ما دفعه للإطاحة بـ «البعتي»، وإيقاف مساعيه.