يوم 27 مايو/ آيار من العام 1992.

جماعة بوسنيين انتهزوا فرصة هدوء نعمت به المدينة أخيرًا، فهرعوا إلى السوق لشراء احتياجاتهم.

ازدحم السوق عن آخره بالأهالي المُحاصَرين في بيوتهم، التوَّاقين لسدِّ جوعهم وجوع أطفالهم بأي شيءٍ صالح للأكل.

أمام فرن خبز، وقفوا طابورا طويلًا يشمُّون رائحة الدقيق المختمر بشغف طفل يخوض يوم مدرسته الأول.

فجأة داهمتهم قذيفة هاون من عيار 120 ملم، شتَّت جمعهم وسقت العجين بالدم بدلًا من المرق.

قُتل 22 فردًا وأصيب 144 آخرون، وأثخن الخوف ملايين البوسنيين؛ لا أحدَ آمنٌ وإن كان في السوق، الصرب يعتبرونك خطرًا داهمًا عليهم ولو كان أقصى طموحك ابتياع الخبز لأطفالك.

البوسنة
ثقوب الرصاصات تغطي جدارية تحمل عبارة “انقذوا البوسنة”

في اليوم التالي نثر البوسنيون الورد أمام المخبز لعلَّه يُنسيهم آثار الدماء التي لم تشربها الأرض كاملةً بعد، فاجأهم فيدران سمايلوفيتش عازف التشيلو الأول في البلدة، حين وقف فوق الحفرة التي خلَّفها القصف، وغُطيت بالورود، وراح يعزف!

أبدًا لن تغرق سفينتنا

لمدة 22 يومًا متتالية استمر الرجل في العزف داخل سوق المدينة، وهي مغامرة انتحار كبرى، لأنه كان دائمًا في مرمى أهداف قناصة الصرب الذين احتلوا التلال القريبة، وكانوا يتسلَّون بتفجير رءوس المدنيين خلال تجولهم في الشوارع، والغريب أنهم لم يفعلوا ذلك مع فيدران.

أدَّى سمايلوفيتش مهمته في تكريم أهله كما ينبغي، ثم حمل آلته وغادر السوق.

فتحت هذه الخطوة الانتحارية شهيته لنشاط أكثر جنونًا؛ لم يتوقف عن العزف.

علم أنه لو قرَّر العزف أيامًا بعدد ضحايا سراييفو لظل يعزف حتى قيام الساعة، فقرَّر العزف لسراييفو جميعًا؛ أصبح عضوًا دائمًا على كل جنازة أوصلت بوسنيًّا إلى قبره الأخير، وما أكثرها. وبالرغم من أن هذه الجنازات كانت هدفًا مفضَّلًا لقنَّاصي الصرب فإن نغماته لم تتوقف عن توديع الناس.

لم يُصب فيها بسوء وكأن الموسيقى جللته بدرع واقية ضد الرصاص حفظت حياته ادخارًا لمهمته المقدسة في تطبيب جراح البوسنيين النفسية.

لمدة قاربت العامين كان يقف عازف التشيللو بكامل أناقته، يرتدي قميصًا أبيض ومعطفًا أسود ذا ذيل طويل، يقف فوق الأنقاض يعزف للناس كما لو أنه يقف فوق خشبة مسرح.

فيدران سمايلوفيتش

بالتأكيد لم يدُرْ هذا في خلده، لكني لم أجد لهذا التصرف شبهًا أشهر أو أوقع من عازفي التايتانيك، الذين استمروا في عزف موسيقى هادئة لركاب السفينة خلال غرقها. لم يتوقفوا عن السعي إلى بثِّ الطمأنينة في نفوس الركاب حتى ماتوا معهم.

هنا فارق هائل وحيد؛ محاولات إغراق «تايتانيك سراييفو»، استمرت 3 سنوات ونصف، لكنها أبت أن تُدفن تحت الأعماق في النهاية.

أصبح العازِف المقاوِم حديث الساعة في سراييفو، وذات يوم سأله مراسل صحفي: «ألستَ مجنونًا لعزف التشيللو في منطقة حرب؟» فأجاب: «لماذا لا تسأل عن المجانين الصرب الذين يقصفون سراييفو بهذا الشكل؟!»

كيف تفجر هذا الجنون؟

خلال الفترة من 1945م وحتى 1992م كانت جمهورية البوسنة والهرسك واحدة من الكيانات الفيدرالية الستة التي شكَّلت جمهورية يوغوسلافيا الاشتراكية.

بعد تفكك يوغوسلافيا أعلنت جمهورية البوسنة استقلالها، اعترفت الأمم المتحدة بها كدولة مستقلة، لكن جمهورية يوغوسلافية أخرى هي صربيا رفضت هذا الاعتراف، وسعت لضمِّ البوسنة لأرضها لإقامة ما سُمِّي «صربيا الكبرى».

شنَّت القوات الصربية هجومًا ضاريًا على الأراضي البوسنية، عجز عن التصدي لها الجيش البوسني ضعيف التسليح.

طوال 3 سنوات ونصف شهدت الأرض البوسنية جميع أشكال الإجرام الممكنة؛ قصف عشوائي للمدن، عمليات تطهير عرقي بحق المسلمين، اغتصاب جماعي بحق النساء.

لا تسعفنا الأرقام لتبيان لحجم المأساة المُفزعة؛ 100 ألف قتيل، 2.2 مليون نازح، 12 ألف امرأة مغتصبة.

وفقًا للتقديرات سقطت 27 قذيفة على كل فدان من أرض البوسنة، وتعرضت العاصمة سراييفو لأطول حصار في تاريخ العصر الحديث، حصار أطول زمنيًّا بثلاث مرات من حصار ستالينجراد الروسية على أيدي الألمان في الحرب العالمية الثانية، حصار ذاقه 5 ملايين بوسني عاشوا بين جنبات المدينة لحظة إطباق الصرب عليها.

لا كهرباء، لا مياه، لا تدفئة من البرد الشديد، لا مدارس، لا مستشفيات … لكن لم تنقطع الموسيقى.

الرباعية الوترية: سنُحاربكم بالنغمات

«الرباعية الوترية» (String Quartet) هو مصطلح موسيقي عتيق يُشير إلى أي فرقة موسيقية تضم بين جنباتها 4 أعضاء يعزفون على الآلات الوترية، وهي: الكمان، والفيولا، والتشللو، والكونترباص. غالبًا ما يُستخدم في تقديم نوع موسيقى يُدعى «موسيقى الحجرة»، ذات التوزيع البسيط الذي يصلح لإطراب السامعين في البيوت.

ظل هذا المصطلح حبيس العلوم الموسيقية لمئات السنين، حتى أخرجه من بين دِفاف الكتب 4 موسيقيين من أهل سراييفو؛ المدينة المحاصَرة من كل شيء، لكن أهلها لم ينقطعوا أبدًا عن التطلع إلى الحياة ما استطاعوا إليها سبيلًا.

الأربعة الأفراد هم عازفا كمان، مومير فلاسيتش وكامينكو أوستوجيتش، وعازفة الفيولا ديجانا إيهاس، وعازف تشيللو نعرفه جيدًا؛ نعم … هو فيدران سمايلوفيتش، الذي قرَّر الكفِّ عن العمل وحده، وانضمَّ إلى رباعي الجنون الوتري.

شكَّلوا فيما بينهم فرقة موسيقية وترية رباعية، هدفت إلى محاولة تسكين جراح المدينة الدامية بالموسيقى. هل مجرد مصادفة أن 6 من أصل 8 هم أعضاء «فرقة تايتانيك» ماتوا وهم يعزفون على آلات وترية، أم أن هذا النوع من الآلات الموسيقية كُتب عليه الشقاء وتوديع الموتى شرقًا وغربًا؟

جوار الأماكن المتهدمة، في قلب الأنقاض، فيما تبقى من مسارح وفي أي قاعة بقي لها سقف وحدٌّ أدنى من النوافذ قدَّموا عروضًا مجانية يحاربون بها شبح الموت الذي خيَّم على نفوس أهلها.

206 حفلات موسيقية أقاموها في خط القتال الأمامي طوال سنوات الحصار، تحدّوا فيها طلقات الرصاص بنغمات الموسيقى.

تقول ديجانا إيهاس عضو الفرقة وعازفة الفيولا: كنا نسعى إلى أن يشعر الناس بأنهم لا يزالون بشرًا، أدرنا أن نجعلهم يدركون أن المباني قد تتدمَّر أما الروح فلا.

ديجانا إيهاس عضوة الفرقة وعازفة الفيول

لم يكن رهانهم في غير محلِّه، فالمدينة متعددة الثقافات والمشارب التي تتعانق فيها الأديرة بجانب المساجد والمعابد اليهودية حتى لُقِّبت بـ «قدس أوروبا»، كانت مركزًا فنيًّا مبهرًا، امتلأت بالمعارض والمتاحف والمسارح ودار أوبرا، دائمًا ما كانت مكتظة بالناس.

احتلت الموسيقى جزءًا حيويًّا من ثقافة البوسنيين في عالم ما قبل الحرب، وكان استدعاؤها في وقت الحصار علامة فارقة أن بإمكانهم الصمود والعيش كما يشاءون ولو انطبقت بيوتهم عاليها على سافلها.

الفكرة نبعت من عازف الكمان خلال لحظات جنونية تساقطت فيها القذائف الصربية على كنيسة نالت منها الكثير. فجأة سأل زملاءه: لِمَ لا نذهب هناك ونعزف للناس؟

لم يُعارضه أحد، وذهبوا جميعًا، وبينما كانت القنابل تدقُّ الشوارع شقَّت موسيقى الآلات الوترية صمت الخوف والرعب، وسرعان ما وجدوا أنفسهم مُحاصرين بالناس، وبعد نصف ساعة من العزف المتواصل قرَّروا الاستراحة قليلًا، فسألهم الجمهور بشغف: متى ستعودون للعزف؟

تحكي إيهاس: عندها شعرت أن هذا أكثر من موسيقى، أصبح لديَّ مسئولية تجاه بلدي لفِعل شيءٍ ما، وستكون الموسيقى هي هذه الأداة.

بعدها انطلقت سلسلة عروضهم في أكثر الأماكن دمارًا حتى تجاوز عددها الـ 200.

فرقة “الرباعية الوترية” البوسنية

لم يمر الأمر بدون منغصات وهدايا صربية دموية؛ خلال إحدى الحفلات أصيبوا بقذيفة هاون مباشرة، اهتزوا جميعًا وسقطت نوتة الموسيقى أرضًا، لكنهم سريعًا ما نهضوا وعادوا للعزف مُجددًا.

قُتل مومير فلاسيتش عازف الكمان بقنبلة في أكتوبر 1992م، وبعده عازف الكمان الثاني كامينكو أوستوجيتش. غادَر فيدران سمايلوفيتش البوسنة في ديسمبر 1993م، مسافرًا إلى أيرلندا الشمالية، مكتفيًا بسنتين فقط من تحدّي الحصار، حيث عاش في شقة متواضعة يمارس ألحانًا لم تُحقق نجاحًا كبيرًا؛ وكأنه وُلد خصيصًا ليُلطِّف حياة البوسنيين المحاصرين فقط.

يعتبر فيدران أنه مارَس «المقاومة الثقافية» ضد السلطة الصربية، وأكَّد أن الحياة الطبيعية ستجد طريقها دائمًا مهما كان حجم الفوضى.

استُبدل بالموسيقيين الغائبين آخرون، لكن الخطر كان محدقًا. هنا تدخلت عائلة إيهاس، ألحَّت عليها بالتوقف عن العزف والهرب من البلدة فرفضت.

ليلة انتصار الموسيقى

انتهت الحرب رسميًّا عقب توقيع اتفاقية دايتون في نهاية 1995م.

وبرغم بنود الاتفاق المُجحفة بحقِّ المسلمين فإنها نجحت في إنهاء القتال والقتل، وهذا أهم شيء. لذا كان لا بد من الاحتفال في حفل ضخم، تتصاعد فيه نغمات الموسيقى صادحة في الأجواء تخرج ألسنتها لتلال القنَّاصة ولحفائر القنابل ولبقايا القذائف، برغم كل هذا الدم انتصرت الموسيقى ورغبة البوسنيين في الحياة، وبقيت دولتهم رغم أنف رصاص الصرب ومجازرهم.

عام 1997م لم يكن السلام قد حلَّ بعد، لا تزال التوترات موجودة، ورصاص القناصة متحفزًا، واتفاقية السلام الهشة تُنفَّذ على الأرض ببطء. رغم ذلك وافقت فرقة روك الأيرلندية «U2» على الحضور، بعدما تعهَّدوا سابقًا بأن يُحيوا أول حفلٍ يُقام في المدينة عقب عودة مياه الحياة لمجاريها.

أعضاء الفرقة في سراييفو

وبتنسيق مع قوات الأمم المتحدة، وقوات حفظ السلام، وصلت الفرقة في شاحنات مصفحة إلى سراييفو، حيث أحيت الفرقة أول حفل موسيقي يشهده ملعب كوسوفو عقب انتهاء الحرب، في ذات المكان الذي تم استخدامه كمشرحة لإيواء الجثث، ثم دفنها على جانبي الملعب.

في الحفل قدَّمت الفرقة العديد من الأغاني، أبرزها أغنية «ملكة جمال سراييفو« (Miss Sarajevo)، والتي توثِّق حكاية الفتاة البوسنية إينيلا نوجيتش، التي خاضت مسابقة ملكة جمال سراييفو، ورفعت أمام الحضور لافتة كُتب عليها بالإنجليزية «لا تدعوهم يقتلوننا»، أثار هذا المشهد ضجة دولية ضاعف من الضغط الدولي لإنهاء الحصار.

ملكة جمال البوسنة
ملكة جمال البوسنة

قال عازف الجيتار في الفرقة: حقيقة أننا نستطيع أن نأتي إلى هنا، ونقيم حفلًا موسيقيًّا كالذي أقمناه في باريس ونيويورك ولندن، هو أكبر دليل لشعب سراييفو على أن الأمور تعود إلى طبيعتها، إذا كان عليَّ قضاء 20 عامًا في الفرقة لمجرد عزف هذا العرض، فسأفعل ذلك.

ولأول مرة من انهيار يوغوسلافيا تجاوَر الأعداء الألداء في مكان واحد، تجاوز عدد الحضور الـ 45 ألف متفرج، شمل أهل البوسنة والكروات وحتى الصرب الذين تسللوا عبر الحدود للمشاهدة، وفي صبيحة اليوم التالي صدرت صحيفة محلية بعنوان «اليوم، انتهى حصار سراييفو».