كتب العلاقات العاطفية: من صفحات فيسبوك إلى صفحات الكتب
عرف العالم لفترة طويلة ولا يزال، عددًا كبيرًا من الكتب والإصدارات تتناول مشكلات الحياة وعلاقة الإنسان بغيره، وكيف يكون ناجحًا مؤثرًا يتجاوز الصعوبات ويحقق ذاته، وغيرها من الأفكار التي جرى التعارف على أنها كتب «تنمية ذاتية أو بشرية».
وكان من أبرز الأسماء في هذا المجال الكاتب الأمريكي «ديل كارنيجي» بكتابه ذائع الصيت «كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس» وغيره من الكتب التي حققت في طبعاتها الإنجليزية وترجمتها العربية أرقامًا كبيرة من المبيعات، بل وربما تكون قد بنت أسطورة كتب التنمية البشرية كلها التي سار فيها بعد ذلك الكثيرون غربيًا وعربيًا، فوجدنا «جون جراي» في «الرجال من المريخ والنساء من الزهرة»، وظهر لدينا كتاب كبار ومدربو تنمية بشرية كبار مثل «إبراهيم الفقي» الذي كان ظاهرة كبيرة جمع حوله الناس وأصدر مئات الكتب والمؤلفات التي تدور كلها في فلك التخلص من المشكلات وتجاوز صعوبات الحياة من خلال إيمان الفرد بنفسه.
شيئًا فشيئًا دخل على خط كتب التنمية البشرية عدد من المنتمين للتيار الإسلامي والدعاة، وكان أحد أهم هذه التجارب كتاب «جدد حياتك» للشيخ «محمد الغزالي» الذي كان كتابه محاولة لتعريب وأسلمة لكتاب «ديل كارنيجي» الشهير «دع القلق وابدأ الحياة» مستعينًا بالأفكار والقواعد الدينية والإسلامية لطرح وجهة نظر تنمية بشرية ذات طابع إسلامي. وسار على هذا النهج بعده الكثير من الكتاب والمحاضرين والدعاة، مثل «مصطفى حسني» وغيره من الدعاة الذين سعوا دومًا للجمع بين الأفكار الإيجابية والتنموية وبين الأفكار الإسلامية المتفقة مع تلك الأفكار في التغيير.
فرز أول سوشال ميديا
مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي والتغيرات السياسية والاجتماعية التي حدثت في المجتمع، وتحوّل صفحة «فيسبوك» إلى وسيلة لعرض المواقف والمشكلات المختلفة، تحولت الكتب أيضًا لكي تكون حصاد وتجميع مثل هذه الكتابات المنثورة هنا وهناك على الصفحة الشخصية للكاتب ما دام يحقق عددًا كبيرًا من المتابعات والمشاهدات، وبالتالي يحقق عددًا كبيرًا من المبيعات، بغض النظر عن المحتوى الذي يكتبه أو يقدمه، وهو في كل الأحوال يتفق مع الأفكار السائدة والمتداولة في القضايا التي يتناولها، والتي أصبح منها بشكل واضح «العلاقات» بين الأشخاص سواء كانت صداقة، أو حب، أو زواج، أو علاقات الأبوة والبنوة.
وجد بعض الأطباء والمعالجين النفسيين الفرصة سانحة لتقديم ما لديهم من خبرات ومعارف في كتب تحقق رواجًا كبيرًا بين شريحة واسعة من القراء وخاصة الشباب، فكان أن أصدر الدكتور محمد طه في 2016 كتابه الأول «الخروج عن النص» الذي حقق نجاحًا كبيرًا، وسرعان ما أعقبه بكتاب «علاقات خطرة»، ثم أخيرًا «لأ بطعم الفلامنكو» الصادر في معرض الكتاب الماضي عن دار تويا.
وأصبح من المعتاد أن نجد كل عامٍ كتابًا أو أكثر عن العلاقات الاجتماعية والعاطفية، فوجدنا ريهام حلمي في العام الماضي تصدر كتابًا سمته «EXPIRED» بعنوان جانبي «من أجل علاقات لا تنتهي صلاحيتها» بعد نجاح كتابها السابق «سكن». وأصدر الدكتور عماد عثمان كتابًا بعنوان «أحببت وغدًا» وفي عنوان جانبي تعريف: «التعافي من العلاقات المؤذية» وغيرها من الكتب والإصدارات.
ورغم تنوع هذه الكتب واختلافها إلا أنه يبدو للمطلع عليها أن المادة العلمية أو المحتوى الذي يقدمونه واحد لا يتغير، فكلهم يتحدثون عن ضرورة تعبير الفرد عن نفسه، وعدم استسلامه لظروف مجتمعه، وضرورة مواجهة العلاقات السلبية، سواء كان رجلاً أو امرأة، شابًا أو عجوزًا. ويسهبون في عرض حكايات ومشكلات تعرضوا لها أو سمعوا عنها أو كتبها الناس لهم، بل الملاحظ أيضًا أنه ربما تتكرر نفس الأفكار في أكثر من كتاب، يشير إلى ذلك صاحب الكتاب نفسه، أنه ذكر تلك الفكرة في كتابه السابق وكأنه يسعى لربط قارئه بكتبه بشكل عام، وتبقى المشكلة في الطريقة التي يقدمون بها هذه الأفكار، واعتمادهم كلهم على العامية التي أصبحت سمة شائعة وغريبة في هذه الكتابات.
العامية بديلاً
كانت أولى ملاحظات القراء على كتاب «الخروج عن النص» وما تلاه من كتب محمد طه، أن الكتاب الموجه في الأساس لتعديل سلوكيات الأفراد داخل المجتمع، ودفعهم إلى اختيار أهدافهم الصحيحة، مكتوب باللهجة العامية، وهو الاختيار الذي دافع عنه كتّاب الموجة الجديدة من كتب التنمية البشرية بدعوى أن كتبهم موجهة للعامة.
في العام الماضي نشرت هبة السواح كتابها «سندريلا سكريت» وهو كما هو ملحوظ منذ عنوانه يستخدم تلك الطريقة العامية في الكتابة ويعتمدها بشكل كامل. لم تخرج أفكار هبة السواح كثيرًا عما طرحه محمد طه وغيره، ورغم أن الكتاب يركز على السيدات من خلال نقض قصة «سندريلا» الشائعة إلا أنها تضع نصائحها لأفراد المجتمع كله، بضرورة مواجهة التحديات والتركيز على أهدافهم الخاصة في الحياة، وعدم الاتكال على الظروف والعقبات التي تواجههم وهكذا.
في كتابه الهام «في صحبة العربية» يتعرض الكاتب «أحمد بيضون» لتلك الإشكالية ويرصد تلك التحولات التي حدثت في استخدامات الكتابة العربية بعد ثورة تكنولوجيا المعلومات فيقول:
وإذا كان متاحًا للعوام أن يستخدموا العامية في كتابتهم على فيس بوك وغيره، فلم يكن جديرًا بالأساتذة الجامعيين والأطباء المتعلمين أن ينحدروا إلى مستوى العوام، بل ويشجعونهم بإصدار كتب تكتب بالعامية بالكامل، وبطريقة لا علاقة لها بالإبداع. بل إن المشكلة لم تعد في الكتابة بالعامية المجردة فحسب، وإنما ظهر من خلال الاطلاع على كتابات هؤلاء الكتّاب أن الأمر يتهور ليصل إلى حد الابتذال، حيث يضيف هؤلاء الكتاب استخدامات العامية المبتذلة مثل «قفشات الأفلام» و«كلمات الأغنيات» على أملٍ في التقرب من القارئ العادي أكثر.
وهم في ذلك يخسرون طائفة أكبر من القراء يتعاملون مع ما يُكتب باحترام، بل ويفترضون فيمن يتناول هذه الأفكار والمواضيع بشكلٍ خاص قدرًا أكبر من الجدية والاهتمام، لا أن يتحول الأمر إلى عرضٍ مسرحي لم يبقَ فيه إلا تصفيق الجمهور بعد كل «قفشة» بل وصل الأمر إلى أن يسمي محمد طه أحد فصول كتابه بنفس الطريقة التي يكتب بها الشباب الإنجليزية على شبكات التواصل الاجتماعي «يو دونت هاف تو بي سو نايس».
النتيجة مزعجة
في مقدمة كتابه «لأ بطعم الفلامنكو» يقول محمد طه بكل بساطة إن التجارب المنشورة والمكتوبة على فيس بوك وغيره من وسائل التواصل الاجتماعي تشكل مصدرًا أساسيًا وهامًا لمعرفة الناس وتغيير وجهات نظرهم في حل مشكلاتهم.
خطورة تلك الفكرة التي ربما لم يلتفت إليها الدكتور الآن، أنها تجعل من فيس بوك وما يعرض عليه من حكايات ومواقف عابرة وعادية، فرصة ثمينة لجعل كتاب تلك المواقف والحكايات من كبار الكتاب، وهو ما يحدث مع بعضهم بالفعل، فكلما كانت حكايتك أكثر غرائبية وكلما طعمتها بعدد من القفشات والطرائف اللازمة للحكاية كلما تحولت إلى «تريند» مما يجعلك بين عشيةٍ وضحاها كاتبًا وصاحب مؤلفات هامة، بل وربما محاضرًا في ندوات تتحدث عن كيف تتجاوز مشكلاتك وتحقق نجاحًا في الحياة.
وهو ما يلاحظه عدد من رواد مواقع التواصل في القصص المختلقة التي يكتبها بعض الأشخاص على فيس بوك بغرض لفت الانتباه وجذب تواصل الناس معهم، وما هي إلا أيام حتى يكتشف الناس أن الحكاية كلها محض اختراع وتأليف.
وهنا سيتساوى من يقدم محتوى علميًا رصينًا يحمل فائدة حقيقية، مع من يردد نفس الأفكار التي يكتبها محمد طه وغيره. ولذا فلا غرابة أن نجد أن أعداد تلك الكتب في تزايد، وإذا نظرنا إلى محتواهم فلا نجد أن هناك فرقًا كبيرًا فيما يتناولونه من قضايا وأفكار ومشكلات، وإنما هي صياغات متعددة لعدد من الأفكار الشائعة.
وهكذا تسعى هذه الكتب والمؤلفات إلى نشر الأفكار الإيجابية، وتقدم الكثير من الأفكار وبعض الحلول للمشكلات المجتمعية الراهنة، ولكن تبقى المشكلة الأكبر قائمة في أسلوب الكتابة وطريقة العرض، وهو ما يحول تلك الكتب إلى مجرد أدوات زينة في حفلٍ كبير ما إن ينتهي وقته حتى تزول آثارها ولا يبقى منها إلا الأسماء والعناوين.