من «حدائق الأحزان» إلى الفردوس: قراءة في كتاب مصطفى اللباد
صباح الأحد، الأول من سبتمبر/ أيلول، نزلت الفاجعة بالأوساط الفكرية والبحثية في مصر والعالم العربي، حين وصلها خبر الرحيل المؤلم للدكتور «مصطفى اللباد»، في منتصف العقد الخامس من عمره، بعد صِراع مع المرض الخبيث استمر ثلاثة أعوام.
لم يكُن اللباد مجرد باحثٍ استثنائي يمتاز بعمق تحليلاته وتفتح عقله، بل زاد على ذلك ثقافة واسعة وطاقة إبداعية وحِسًّا إنسانيًا عميقًا، زكَّاها لديه انتماؤه لعائلة فنية من الطراز الأول، فوالده هو الرسام العظيم محيي الدين اللباد، وشقيقه الأصغر الفنان والمخرج أحمد اللباد. حمل مصطفى هذا الحس الفني إلى المجال البحثي، واختار مجالًا كان حينها محدود الإنتاج على أهميته؛ دول الجوار العربي، إيران وتركيا.
حصل اللباد على درجة الدكتوراه في الاقتصاد السياسي للشرق الأوسط من جامعة هومبولت في ألمانيا، وشغل منصب مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والإستراتيجية بالقاهرة، ورئيس تحرير مجلة شرق نامه المتخصصة في الشؤون الإيرانية والتركية وآسيا الوسطى، التي أسسها بنفسه. وقد أبدى اللباد أسفه في مواطن عدة على ضعف المعرفة المتبادلة بين العرب وإيران، بالمقارنة بمعرفة العرب بالغرب. ففي حين أن الغرب ذاتٌ حضاريةٌ أخرى من المهم والضروري التعرف إليها، فإننا «عندما نكتب عن إيران ونتعرف عليها، فإن ذلك من قبيل معرفة الـذات الحـضارية الواحـدة متعددة الأشكال».
أحزان الشيعة ومصدق
قدراته التحليلية الممتازة وأسلوبه الأدبي الممتع اجتمعا في عمله الأهم والأبرز، الصادر عام 2005 عن دار الشروق؛ كتاب «حدائق الأحزان: إيران وولاية الفقيه». يتناول الكتاب نظرية «ولاية الفقيه»، التي ثبتتها الثورة الإسلامية في عام 1979 محل الشاه، وهيمنت على الواقع السياسي الإيراني حتى يومنا هذا، رغم التغيرات الحادة – وفي بعض الأحيان العنيفة – التي شهدتها المنطقة العربية في الفترة نفسها.
يشرح اللباد في المقدمة أن اختياره للعنوان جاء لإعجابه بحدائق إيران، عمارةً وتصميمًا، وكونها جزءًا أصيلًا من الحياة اليومية للإيرانيين. أما عن «الأحزان»، فلأن الحزن الدائم «ركن أساسي في وجدان المسلمين الشيعة عمومًا، والإيرانيين خصوصًا»، فقد تشكل الوجدان الشيعي بواقعة استشهاد الإمام الحسين بن علي في كربلاء، حزنًا على مقتله ورغبة في الثأر من أي سلطة دنيوية غاصبة لحكم الأئمة المنفرد بالشرعية.
غير أن هذا السبب العام يضم في داخله واقعة أكثر خصوصية وتأثيرًا، إذ توجه اللباد لزيارة منزل رئيس الوزراء الإيراني الراحل محمد مصدق، زعيم الحركة الوطنية الذي أطاح به انقلابٌ محكم – أُعد في واشنطن – على حكومته المنتخبة ديمقراطيًا، عام 1953. يقول اللباد: «تبدو حديقة البيت مهجورة، وفي وسطها تقف سيارة مصدق من طراز إنجليزي يعود إلى بداية الخمسينيات. هنا إذن تقع «حديقة الأحزان» التي أمضى فيها مصدق إقامته الجبرية التي امتدت لـ 14 عامًا، بـين عـام 1953 حين تم الانقلاب عليه، وحتى عام 1976 حين لقي ربه وحيدًا بين جدران البيت».
الفقهاء والدولة.. مد وجزر
يبدأ الفصل الأول بتأصيلٍ تاريخي للعلاقة بين الفقهاء والدولة في إيران. ويذهب اللباد إلى أن الحياة السياسية في إيران ترتبط منذ آلاف السنين برجال الدين، منذ الدولة الإشكانية التي ظهرت في منتصف القرن الثالث قبل الميلاد، التي ضمت مجلس الحكماء (رجال الدين الزرادشتيين). واتبعتها الدولة الساسانية مستمرة على النهج ذاته، إذ كانت كافة القرارات المهمة تُتَّخذ بموافقة مجلس الحكماء ومجلس شورى العائلة المالكة.
ورغم دخول الإسلام إلى إيران في القرن السابع الميلادي، وما تلاه من امتزاج الهوية الإيرانية بالهوية الإسلامية الشيعية في ما بعد، بقيت عناصر كثيرة في بنية المجتمع على حالها، ومن بينها علاقة الدولة برجال الدين، التي ظلت طوال تاريخ إيران «كالبحر في حالة مد وجزر».
يعتقد المسلمون الشيعة أن سلطة آل البيت تتدرج من الإمام علي بن أبي طالب إلى الإمام الثاني عشر، المهدي المنتظر، محمد بن حسن العسكري. ويؤمنون بأن المهدي المنتظر له غيبتان؛ غيبة صغرى بدأت باختفاء الإمام وانتهت بوفاة آخر وكلائه، وغيبة كبرى بدأت بوفاة وكيله الرابع، وهي ممتدة حتى ظهور المهدي في آخر الزمان، ليملأ الأرض عدلاً. وفي غياب المهدي ووفاة وكلائه، انتقلت زعامة المذهب الشيعي إلى يد الفقهاء، ليختصوا بـ «المرجعية الدينية»، أي الإفتاء في أمور الدين والدنيا كافة، باعتبارهم وكلاء الأئمة. وعلى رأس الفقهاء يأتي «المراجع»، وهم الأعلام الذين يُرجع إليهم في كل الأمور، ورثة الأسرار والعلم من آل بيت النبي.
وتكللت جهود الفقهاء بإعلان مذهب الشيعة المذهب الرسمي لإيران مع قيام الدولة الصفوية في عام 1501، لتكتسب دولة الشيعة الاثنا عشرية (نسبة إلى الأئمة الاثني عشر) صفة الاستقرار الزماني والمكاني، وتصبح المؤسسة الدينية «دولة داخل الدولة»، بعدما كانت دولة موازية، وتضاعف أعداد الشيعة في إيران بعدما كانت أعدادهم محدودة نسبيًا.
وبعد انهيار الدولة الصفوية، انتهت مرحلة التصالح الدائم بين المؤسسة الدينية والدولة، وأدى استقلال الفقهاء إلى دخولهم في أحيانٍ كثيرة في صدامات مع الأفشاريين والزنديين، بل وناصبوا العداء للقاجاريين نظرًا لما يصفه اللباد من مفاسدهم وعجزهم عن توفير الأمن وميلهم إلى فرض ضرائب مجحفة.
وقد أفسح فساد القاجاريين ومنحهم العديد من الامتيازات للأجانب المجال أمام الثورة الدستورية في 1906، التي انحاز فيها الفقهاء إلى طبقة تجار البازار ومعهم الحركة الوطنية الإيرانية، بهدف فرض الدستور على الحاكم وتقييد صلاحياته وإقرار حقوق الشعب. وقد انتزع الفقهاء عددًا من المكاسب، من بينها نص الدستور على «أن تطابق نصوصه والقوانين المتفرعة عنه أحكام الشريعة الإسلامية»، إلى جانب تحالفها مع الدولة الصفوية لترسيخ مشروعيتها.
جذور ولاية الفقيه
كان أول من تحدث عن «نيابة الفقهاء العامة» للإمام المهدي المنتظر عند الشيعة هو محمد بن مكي الجزيني العاملي في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، الذي رأى توسيع نطاق عمل الفقهاء بصورة محدودة، وهو أيضًا من صاغ تعبير «نائب الإمام»، وعليه يمكن قبول السلطة السياسية القائمة، لكن بشروط.
لكن التطور الأهم الذي وسع صلاحيات فقهاء الشيعة جاء بعدها بأربعة قرون، على يد الشيخ نراقي كاشاني في القرن التاسع عشر، وهو أقدم من استخدم مصطلح «ولاية الفقيه». رأى نراقي أن غيبة الإمام تقتضي أن ينوب عنه الفقيه في كافة أمور الدين والدنيا، جاعلًا ولاية الفقيه الأساس في شؤون الحكم، ما لم يتوافر نصٌ شرعي يستثني أمرًا دنيويًا من سلطة الفقيه.
وبعد أقل من قرنٍ ونصف القرن، جاء الإمام الخميني ليصوغ نظريته، «ولاية الفقيه المطلقة»، التي تبلورت بدافعٍ أساسي من الصدام العنيف الذي وقع في عام 1963 بين الدولة والمؤسسة الدينية، حين حاول الشاه محمد رضا بهلوي تنفيذ «الثورة البيضاء»، وكان من بين خطواتها انتزاع أراضي الأوقاف من المؤسسة الدينية لإدخالها في برنامج الإصلاح الزراعي. انتهت الانتفاضة ضد الشاه بمقتل الآلاف، وإجراءات مصالحة لطبقة ملاك الأراضي وللمؤسسة الدينية، غير أن الإمام الخُميني انتهى به المطاف منفيًا إلى العراق.
في كتابه «الحكومة الإسلامية»، وضع الخميني أساس نظرية ولاية الفقيه المطلقة، التي يمتد بها نفوذ الفقيه ومشروعية حكمه من السلطة التشريعية إلى التنفيذية كذلك. فوفقًا للخميني، «وجود القانون المدون لا يكفي لإصلاح المجتمع، فلكي يـصبح القانون أساسًا لإصلاح البشرية وإسعادها، فإنه يحتاج إلى سلطة تنفيذية»، ومن ثمَّ فإن إقامة حكومة إسلامية ضرورة ترقى إلى مرتبة الفرض؛ أما انتظار عودة الإمام وتحريم إقامة الحكومة حتى ذلك الحين تعني ترك الإسلام وتنفيذ أحكامه منذ الغيبة الصغرى وحتى ظهور المهدي.
تستند نظرية الخميني إلى أربعة أركان: أولها أن الولاية دائمة، وشاملة، وعامة. وثانيها أن تنصيب الولي يختص به الفقهاء، ولا يمكن اختياره برغبة مباشرة من العامة. وثالثها إطلاق سلطة الولي في كافة شؤون الدين والدنيا، إذ إن له من الصلاحية ما كان للرسول وللإمام علي. ورابعها أن يكون الولي فقيهًا، ليتمكن من إرشاد وهداية المجتمع، والتصدي لكافة الأمور السياسية والاقتصادية والعسكرية وغيرها.
ويضع اللباد نظرية ولاية الفقيه في مقارنة مع الأسس النظرية لتيارات الإسلام السياسي، السنية منها والشيعية. فالاتفاق على أن الإسلام شاملٌ يغطي كافة جوانب الدين والدنيا، ووجوب إقامة الحكومة الإسلامية لتحقيق الحاكمية، غير أن الاختلاف يبدأ عند الاستدلال على وجوب حكم الإسلام في الأرض، إذ إن نظرية الخميني، بطبيعة الحال، قائمة بالكامل على أدلة شيعية، تعتبر ولاية الفقيه استمرارًا لحق النبي في قيادة الأمة، ومن بعده علي بن أبي طالب، والأئمة ونوابهم. ومن هنا تخرج بوجوب أن يترأس الولي الفقيه بنفسه شؤون الحكم، وتختلف في ذلك مع الإسلام السياسي السني.
لم يستغرق الخُميني وقتًا طويلًا كسابقيه في تطوير نظريته، بل وتحويلها إلى واقعٍ عملي يحكم الدولة الإيرانية. فبعد نجاح الانتفاضة ضد الشاه، عاد الخُميني في 1979 ليُعلن إزالة الشاه من الحُكم، ويضع محله ما هو أكبر من مجرد حكومة ثورية، إذ حلت نظرية ولاية الفقيه محل النظام العلماني الحداثي للشاه بإعلان قيام «الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتأسس منصب الولي الفقيه، أو المرشد الأعلى للثورة الإسلامية، ليشغله الخميني ومن بعد آية الله خامنئي، وتلتحم المؤسسة الدينية بالدولة الإيرانية، في ما يُعرف في أدبيات الشيعة بـ «القيامة الكُبرى».