استنزاف الكتب وكرنفالية الطقس: هل من سبيل لقراءة جادة؟
إن الجاهل بجدوى فعل القراءة يعمل على مراكمة الكتب التي قرأها، والتباهي بعدد هذه الكتب. وقديمًا وقعتُ أنا نفسي في هذا الفخ، فقرأت قراءة رجل غِر، أحمق، جاهل كلًا من: هيجل، ونيتشه، وفرويد، وهيرمان هيسه، ونيكوس كازندزاكي، وماركس، وما وقع تحت يدي من كتب: فالتر بنيامين، وثيودرو أدورنو، وماكس هوركهايمر وغيرهم، وكنت أركّز على قراءة كل ما كتبه هذا المؤلف أو ذاك وكل ما كُتب عنه.
لكني أدركت، وبعد سنوات طوال، أن هذا كان عملًا جاهلًا، فعملت على إعادة ما قرأت ولكن بعين جديدة، وروحية أخرى، فقرأت نيتشه مثلًا، في خمس سنوات، حوالي مرتين، وكلما شعرت بنأمة فتور، أو سَدة كتابة، أو رغبة في الانتحار هرعت إلى قراءة كتب هذا الفيلسوف الفارق والخارق.
ناهيك مثلًا عن رواية «ذئب السهوب» لـ هيرمان هيسه، والتي، عندما قرأتها أول مرة، ظللت عالقًا في الطبقة الأولى من النص، وسحر اللغة، ولذتها، أما مؤخرًا فقد قرأتها مرة ثانية وأنا أذرف الدموع الغزار؛ ليس على نفسي فحسب، بل لأن «هاري هالر» (بطل الرواية) هو التجلي الأمثل لمأساة كل المثقفين، وهو كذلك التجلي الأمثل لمأساة إنسان العصر الحديث، الذي لم يستطع ملاعبة الذئب والإنسان بداخله، فوقع فريسة صراع هذين الكائنين بداخله «الذئب والحمل».
أضعُ تحت الوسادة، وأصطحب معي في الحل والترحال كتاب فالتر بنيامين «شارع ذو اتجاه واحد»، فهذا الرجل -بالإضافة إلى أدورنو- هو عزائي الوحيد، وعزاء كل رجل مزّقته الأفكار، فلم يعد يقوى على كتابة المؤلفات الطوال، بل يستفرغ إلهامه على أقرب ورقة ويمضي، هكذا هي العقول الكبيرة تنتج قليلًا.
كيف لك مثلًا أن تقرأ «إميل سيوران» مرة واحدة وعلى عَجل؟ هذا محال مع رجل ينزف فكره كما تنز جرة الخمر نبيذها قطرة قطرة وعلى مَهَل. إن لم تدع هذه الكتابة تتسرب إلى أعماق روحك، وإن لم تغص أنت إلى طبقاتها الداخلية والدفينة فلن ينفعك «سيوران» في شيء أبدًا.
هل يمكنك أن تقيم لقاءً عابرًا مع شاعر مثل «شارل بودلير» أو «محمود درويش»؟ إن لم تدمن قصائد هؤلاء الرجال فلا تظن نفسك قد تعرّفت في يوم عليهم.
عندما أعيد قراءة «تقرير إلى غريكو» لـ نيكوس كازندزاكي أو «الإرهاب المقدس» لـ تيري إيجلتون، أو «سيد هارتا» لـ هيرمان هيسه، أخجل من نفسي كثيرًا؛ فكم كنت تافهًا وسطحيًا حينما علقت في الطبقة الأولى من هذه النصوص العظمية، والتي على الإنسانية أن تفخر بها، ولم أستطع تشرّب الكلمات، وخلطها بدم فؤادي.
مؤخرًا، وبعد قضم الكثير من الصحف، وآلاف الورق، أدركت أن المهم ليس ما نقرأ بل كيف نقرأ، وماذا نفعل بهذا الذي نقرأه، «قل لي ماذا تقرأ أقل لك من أنت»، وتعلمت، كذلك، أن استنزاف الكتب أهم من مراكمة القراءات، والتباهي بعدد الكتب التي التهمناها على عجل.
فالنصوص التي أكتبها على حواف الكتب، والشذرات التي أنثرها على هوامش هذا الكتاب أو ذاك أهم من الكتاب نفسه، فهذه التأملات الخاطفة، وهذه المعرفة اللا قصدية -كما كان يسميها «فالتر بنيامين»- هي ما يمثّلني تمامًا، أما غير ذلك فلا علاقة لي به، وفي هذه اللحظة فحسب أشعر أني أستنزف الكتاب، أعصره، وأُعين الكاتب نفسه على إدراك ما لم يدركه، تلك هي مهمة القارئ الجيد الذي كان يطمح «نيتشه» إلى الحصول عليه.
عندما تنشر نصًا من نصوصك فأنت تكتب شهادة وفاة نفسك؛ فتأويل هذا النص لم يعد ملكًا لك وحدك، بل سيكون تأويلك واحدًا من بين تأويلات شتى سيتعرض لها هذا النص ذاته، وسيكون له تأويلات مختلفة بعدد القراء، ومن الخطأ السطو على ملكة التأويل لدى القراء بعرض تأويلك الشخصي لنصك، وما كنت تقصده بكتابتك. وعلى كل حال، فإن القراءة بمثابة تعبئة البندقية بالذخيرة قبل إطلاق الرصاص لاستهداف فريسة ما.
يتعامل الكُتَّاب الماهرون -وليس «عُمّال الكتاب» وفقًا لتسمية نيتشه لهم- مع الكتابة على أنها صيد، ومع الكلمات على أنها فرائس، بل إن معرفتهم كلها جسدية، يشعرون بها أولًا قبل أن تكتبها أناملهم، هذا الضرب من الكُتّاب قليل لكنه موجود على أي حال، وإذا كنت محظوظًا وعثرت على كتابة واحد منهم فستتعرف عليه بعد أول سطر أو سطرين.
كلنا يبحث عن الإلهام، وإذا لم يُلهمك كتاب ما، فمن الأفضل ألا تهدر وقتك معه؛ فثمة قائمة كبيرة من الكتب الهامة، والتي تقول شيئًا جديدًا في انتظارك.
وحده الكتاب الجيد هو الذي ينقلك إلى قارة فكرية لم تطأها قدمك من قبل، هو الذي يُحفِّزك على السؤال، لا الذي يجيبك عنه؛ فإجابات أسئلتك يجب أن تحصل عليها بنفسك لا بمعونة أحد من الكتاب أو المؤلفين، فكل واحد من هؤلاء تحدث عما جرّب فقط، وكلهم، وفقًا لرأي نيتشه ومن بعده أمبرتو إيكو لم يكتب سوى نفسه، ولكن بطريق مضمرة وهو ما سماه نيتشه بـ «التاريخ السري للفلسفة»، وبالتالي إجابات أسئلتك متروكة لك وحدك، وعبئها واقع على كاهلك أنت وحدك، ولن يعينك أحد في حمل هذا العبء.
كرنفالية الطقس أو الكتابة الموسمية
لدى علماء الاجتماع تحديدات كثيرة لفكرة «كرنفالية الطقس» التي يمكن ملاحظتها في وقائع كثيرة، مثل: المبالغة في التعبد في شهر رمضان، أو -وهو المقصود هنا- الإسراف في الكتابة أو الحرص على أن نلحق بموسم النشر، ونتمكن من عرض كتبنا في هذا المعرض أو ذاك.
لكن هل تظن أن كتابةً «سُلقت» على عَجل كهذه الكتابة يمكنها أن تجدي نفعًا؟ لا نعارض بطبيعة الحال فكرة المعَارِض، وإنما أن يُهان فعل الكتابة بهذا القدر وتلك الدرجة فهو أمر يدعو للرثاء حقًا.
وهل كل هؤلاء الكُتَّاب والروائيين أعياهم الإلهام، وأضناهم شيطان الشعر ووحي الكتابة حتى ينزفوا أنفسهم على كل هذا الورق، أم أن الأمر لا يعدو كونه حرصًا على المشاركة في الصلاة في قُداس جماعي عام؟ لا نطالب، طبعًا، إلا باحترام فعل الكتابة، وباحترام أقلامنا ومن يقرؤوننا.
ترشيحات الكتب أو التجربة خير مُعلّم
القراءة، كأي شيء شخصي آخر، ذوق، مسألة ذاتية، ونِتاج تركيبة اجتماعية وثقافية معينة، ومن ثَمَّ ليس من المنطقي أن أرشح لك قائمة بالكتب التي أراها أنا مناسبة؛ فكونها مناسبة لي لا يعني أنها كذلك بالنسبة لك.
فإن كنت مثلًا في انتظار الحصول على كتاب «في اليقين» لـ لودفيج فتجنشتاين، أو كتاب «تمارين في الإعجاب» لـ إميل سيوران، وإن كنت أتطلع بشغف شديد للحصول على كتاب «الجماليات» للمفكر الفرنسي وعالم الاجتماع الشهير «إدغار موران» فليس معنى هذا أنك سترغب في اقتناء هذه الكتب أو قراءتها.
التجربة في القراءة، كما في أي فعل آخر، هي المعيار الوحيد الذي يمكن الركون إليه، وتكوين الآراء، وبناء الأفكار، ومن ثَمَّ فلا مناص من أن تجرّب بنفسك الكثير من الكتب؛ حتى تتمكن في النهاية من معرفة وتحديد ما هو نافع لك حقًا.
لا تظن أن الكتب لا تُخيِّب الظن؛ فالصواب على عكس ذلك تمامًا، فقد تضرب لكتاب أكباد المطي، ثم تكتشف بعد قراءة بعضه أو كله أنه لا يستحق حتى قيمة الحبر الذي كُتب به، ولا الوقت الذي أُهدر في قراءته. لكن للكتاب السيئ ميزة واحدة ووحيدة: أن تعرف أنه كذلك.
ولو كان بيدنا أن ننصح القارئ الذي ما انفك يتلمس طريقه في هذا الصدد بشيء سنقول: جرّب الكثير من الكتب، وستستمر هذه المرحلة طويلًا؛ حتى تصل في النهاية إلى بناء ذوقك الخاص، وملَكَتك الخاصة، وبعدها ستمتلك عين خبير، وستعرف ما هو الكتاب الذي يستحق أن تقتنيه، وما هو ذاك الذي يجب عليك أن تطوح به خلف ظهرك وبلا أدنى ندم.