سياسة الجسد: مسرح القهر والهوية والتجاوز
في حين يبدو التنظير أو التحليل نشاطا فكريا يتناول الواقع، نجد الجسد حاضرا بقوة في هذا الواقع بأكثر من شكل، أحيانا يكون الجسد مسرحا للقهر، وأحيانا معبرا نشطا عن الهوية، وأحيانا وسيلة للتعبير ولتجاوز الفرد إيمانه المجرد النظري بفكرة أو تجربة للالتحام معها جسديا كما قصد نيتشه، لا يتحول الجسد لأي من تلك الصور إلا في سياق حاكم له يجبره على ذلك.
السلطة والجسد
في هذا السياق يكون الجسد مسرحا للقهر الذي تمارسه الدولة، حيث تلجأ الدولة للتعذيب والقهر في فترات ضعف النظام السياسي، حيث قلة الشرعية وغياب آليات التحكم الداخلية تضطر النظام للجوء للإرهاب والتعذيب.
تواجه السلطة أفكار معارضة مدموغة بهوية فرد معارض/ ثائر، فتلجأ للنيل من الجسد لكسر إرادة الفرد وتحطيم رمزيته ليتحول لحطام إنسان، وبهذا يكون الجسد سجنا لأفكار صاحبه، وقاهرا لإرادته اللانهائية بمستويات تحمل الألم المحدودة.
كذلك تشكل تلك الآلية إرهابا علنيا وضمنيا لكل من يجاهر بتلك الأفكار، ويختلف التعذيب عن القتل في أن الأخير يؤطر صاحبه كأيقونة شهيد تضفي فاعلية وقدسية على أفكاره التي مات لأجلها، أما التعذيب – حسب تعبير بسمة عبدالعزيز في ذاكرة القهر – «فيكسر إرادته ويعيد إرساله مرة أخرى للمجتمع، وهو يعاني من آثار مفجعة تبعث الخوف الشديد للآخرين من التعرض لتلك التجربة».
لا يعد الجسد مسرحا للقهر السلطوي بالتعذيب فقط، بل بالانتهاك، مثل التحرش الذي استعملته السلطة كآلية إرهاب للأنثى وكشوف العذرية، وهذا يصل بالأنثى لحد الهلع من المشاركة في الشأن العام خوفا من الانتهاك لجسدها، وما يستتبعه من استهجان مجتمعي ونبذ حتى لو ضحية، ومثال ما تناقلته وسائل التواصل خلال دخول قوات الأسد لحلب عن طلب البعض لفتوى بقتل النساء خوفا من اغتصاب المنتصرين لهم.
فيما سبق دلالة قوية على دور السلطة في القضاء على معارضيها باستهداف أجسادهم، وإثارة الخوف في العوام من توابع الانخراط في الشأن العام؛ خاصة الأنثى المرهونة مكانتها بعفة جسدها.
لا يعد الجسد الحي وحده مسرحا للقهر بل كذلك الجسد الميت؛ فيزخر التاريخ الإسلامي بقصص التمثيل الجسدي للنيل من كرامة رموز لم يستسلموا بأفكارهم أحياء، وأقوى أمثلة التمثيل الجسدي كان حمزة بن عبد المطلب والحسين بن علي وعبد الله بن الزبير، ومن أقوى دلالات القهر الجسدي ما ذكرته مارينا نعمت في سيرتها الذاتية سجينة طهران عن انتهاك الحرس الإيراني للعذراوات قبل إعدامهن بعد ثورة الخميني 1978، باعتبار أن العذراوات يدخلن الجنة وهذا شرف لا تستحقه المعارضات.
المجتمع والجسد
هبة رؤوف عزت
أحيانا يفرض المجتمع على الجسد شروطا معينة لقبول صاحبه كعضو في المجتمع يحترم أعرافه وقوانينه، فنجد الملبس معبرا بشدة عن هوية الفرد وعن موقف ضمني من المجتمع، إما بالتماهي مع أعرافه أو التمرد عليها.
وفي مقابل ما يقصده الاقتباس من ميل بعض المتدينين للتدليل على هويتهم ومعتقدهم واختزاله في هوس بإخفاء مفاتن الجسد، نجد ميلا قويا لدي الجانب الآخر لإبراز الجسد باعتباره رمزا للتمرد على المجتمع وأعرافه، وأمثلة ذلك كثيرة، مثل شخصية «علياء المهدي» التي نشرت صورا عارية لها في أكتوبر/تشرين الأول 2011 على مدونتها وتظاهرت عارية في ديسمبر/كانون الأول 2012 أمام السفارة المصرية بالسويد احتجاجا على الدستور، وكمثال آخر مظاهرة الفساتين التي نظمتها سيدات بفساتين قصيرة في وسط البلد ديسمبر/كانون الأول الماضي لمواجهة ظاهرة التحرش والعنف ضد المرأة.
من ضمن ما يفرضه المجتمع على الجسد ليكون مقبولا اجتماعيا نجد الختان، حيث هو ممارسة سلطة مجتمعية على عضو حميمي للمرأة بدعاوى دينية وعرفية حول تحجيم شهوة المرأة الجامحة وكبحها، ولا نجد ذلك في الثقافة الريفية أو الشعبية وحسب، إنما في تصريحات برلمانية مثيرة للجدل طرحها نواب للشعب مثل البرلماني أحمد الطحاوي الذي رأى أن ترك الأنثى بلا ختان خطأ، وتبعها تصريحات النائب إلهامي عجينة حول وجوب الختان لكبح شهوة الأنثى لمعاناة المصريين الرجال من الضعف الجنسي.
وتعكس الإحصائيات تجذر فكرة الختان ووجوبها في المجتمع، رغم تجريم الختان وحملات الدولة المستمرة ضده على مدى سنوات، حيث – حسب تقارير اليونسيف – نسبة 91 % بالقرى وفي المدن 85% تعرضت لتلك الممارسة من النساء بأعمار 15-49.
في هذا السياق يكون الجسد مجالا للتعبير عن الهوية الثائرة على المجتمع أو الراغبة في الاندماج بالمجتمع وقبول أعرافه، ويكفي تاريخ العنصرية العرقية في الولايات المتحدة أو جنوب أفريقيا للدلالة على الجسد ولون البشرة كمعيار للهوية والمساحات المتاحة للفرد بالمجتمع.
الجسد وسيلة للتجاوز
أحيانا لايكون تجاوز الواقع بالأفكار أو الرؤى بل بتجربة يلتحم فيها الجسد نفسه كما ذكرت مقولة نيتشه، فنجد وجهة نظر «إلياس كانيتي» عن الحشد الجسدي في المظاهرات والثورات كمعبر إيجابي عن تجاوز الفرد لواقعه.
لذا تستهدف السلطة حالة الحشد بتقويضها خلال المظاهرات التي تلت الثورة باستهداف الجسد، مثل قناصة العيون في أحداث محمد محمود، واستخدم الاحتلال الصهيوني سياسة كسر العظام في الانتفاضة لتقويض الحشود.
نجد أحيانا سبل تجاوز الفرد لواقعه بقتل الجسد احتجاجا مثل حرق البوعزيزي لجسده الذي كان كأثر الفراشة مفجرا الثورة بتونس ثم البلاد العربية، وأحيانا يكون قتل الجسد بتفخيخه كغاية سياسية أو تضحية طقسية بالنفس في سبيل رب أو أيديولوجيا مثل العمليات الإرهابية، ونري ذلك بحادث تفجير مركز شرطة دمشق ديسمبر/كانون الأول الماضي بتفخيخ أب لجسد طفلتيه، حيث تحول الجسد لمادة استعمالية للأب ولمادة للتجاوز لأطفال لا تعي معنيي التجاوز والشهادة والموت.
ندرك أن الجسد ليس تابعا هامشيا للفكر كما عبر ديكارت، بل مساحة حرب دوما بين السلطة التي تقوض الأفكار باستهدافه والمجتمع الذي يفرض على الجسد معايير لقبول الفرد ويقاتل الفرد به أحيانا لإبراز هويته، وأخيرا الجسد كوسيلة لتجاوز الوضع الراهن.