من لوثر كينج إلى ترامب: التاريخ الدموي لـ«الكو كلوكس كلان»
تُعد جماعة الكو كلوكس كلان (KKK)، التي انبثقت عن الحرب الأهلية الأمريكية، واحدة من أشهر الجماعات العنصرية في التاريخ. دمر هذا الكيان المتطرف عددًا لا يُحصى من الأفراد والمجتمعات خلال أحقاب مختلفة من التاريخ الأمريكي. اشتُهروا بسعيهم وراء تفوق الجنس الأبيض، ومعاداة السامية، واضطهاد المهاجرين، وفوق كل هذا نشر الأيديولوجيات السامة بين مختلف طبقات الشعب.
ولادة من رحم الحرب الأهلية
أجابت الحرب الأهلية على أحد أهم الأسئلة التي طُرحت منذ بداية سعي الولايات المتحدة الأمريكية للحصول على استقلالها منذ عام 1776 حتى عام 1783. كان هذا السؤال يتمحور حول ما إذا كان البشر متساوين في الحقوق فعلًا أم أن هذا الحق يندرج تحت وهم الشعارات الرنانة التي لا يمكن تحقيقها على أرض الواقع.
انتهت الحرب الأهلية، التي راح ضحيتها ما يقارب 620 ألف بشري، ولحسن الحظ أن جهود هؤلاء الضحايا الذين سعوا للتغيير لم تذهب سُدى وبعد معاناة الأمريكيين والأفارقة ذوي البشرة السوداء واضطهاد البيض لهم في كل مكان، تحققت أهداف الحرب.
انتهت الحرب الأهلية في عام 1865 بعد أن دامت 4 سنوات، وها قد حصل السود أخيرًا على حقوقهم بعد جهود مضنية من الرئيس الأمريكي أبراهام لينكولن وغيره ممن سعوا إلى تحقيق المساواة والسلام بين مختلف الأعراق والأجناس، ولكن نتائج الحرب الأهلية لم تُرض الجميع.
لم تعجب نتائج هذه الحرب العظيمة مجموعة من المحاربين القدامى بولاية تينيسي، ولهذا سارعوا بإنشاء منظمة سرية هدفها التمسك بالعادات العنصرية في الجنوب. هذه المنظمة هي جماعة الكو كلوكس كلان (KKK)، التي سُرعان ما اشتُهرت جرّاء ممارسة أعضائها لأعمال العنف والترهيب، خصوصًا في فترة إعادة الإعمار (1866- 1877). حظيت المنظمة بدعم عديد من الجنوبيين المنكوبين من الحرب التي انتهت للتو، ومن هنا بدأت حكاية أكثر جماعة مكروهة في التاريخ الأمريكي.
من ناد اجتماعي إلى جماعة متطرفة
ظهرت منظمة الكو كلوكس كلان KKK في البداية على أنها نادٍ اجتماعي في مدينة بولاسكي بولاية تينيسي عام 1865. لم يكن هذا النادي هو الوحيد، بل إن الجماعة اختارت عدة مُدن أخرى في الجنوب لتفتتح بها فروعًا مختلفة. وفي صيف عام 1867، انضمت هذه الأفرع المحلية لتُكون منظمة سُميت «إمبراطورية الجنوب الخفية» وتم اختيار الجنرال «نيثان بيدفورد فوريست» ليكون أول قائد لهذه المنظمة.
لا أحد يعرف سبب التسمية الرئيسي، ولكن وفقًا لعدد من الروايات، فأول كلمتين من اسم الجماعة مشتقتان من اللفظة اليونانية «Kyklos» ، التي تعني الدائرة أو الطوق، أما عن الكلمة الثالثة -كلمة عشيرة أو «Klan» -، فيُعتقد أنها مُشتقة من مصطلح «العشيرة الأسكتلندية «clan» التي تتسم بالقرابة وترابط الأواصر.
أما كتابة كلمة «عشيرة» «Klan» بحرف الـ«K» بدلًا من الـ«C» مُستَلهم من كلمة فُرسان «Knights» للدلالة على صفات الفروسية والشرف.
أيديولوجية التأسيس
ترى جماعة الكو كلوكس كلان أن العرق الأبيض المعتنق للمذهب البروتستانتي هو العرق الأسمى وأن ذوي البشرة السوداء -وغيرهم من الأعراق الأخرى غير المنتمية للعرق الأسمى- يجب أن تخضع للبيض ولمكانتهم المرموقة.
لم تسلم الأعراق المختلفة من شرور الجماعة المتمثلة في مختلف أشكال العنف والإرهاب؛ فالسود واليهود وحتى الكاثوليك تعرضوا للتنكيل والتعذيب والقتل، وكل هذا كان في سبيل إرضاء أيديولوجياتهم التي ترى في المختلفين عنهم تهديدًا حقيقيًا للبيض وأنهم لا يستحقون الحصول على حقوقهم.
شرارة البداية
منذ عام 1867 فصاعدًا، بدأ السود يشاركون في الحياة السياسية بشكل غير مسبوق، بل ووصل الأمر إلى فوزهم بالانتخابات في الولايات الجنوبية وظفرهم بمقاعد في الكونغرس الأمريكي. انطلاقًا من هذه النقطة، كرَّست جماعة الكو كلوكس كلان جهودها لإعادة الوضع إلى ما هو عليه قبل بداية فترة الإصلاح وانضم إليها منظمات أخرى مثل منظمة «فرسان الكاميليا البيضاء» Knights of the White Camelia التي تأسست في نفس العام، ومنظمة «الأخوة البيضاء العظيمة» Great White Brotherhood.
وفي عام واحدٍ فقط -من سنة 1867 إلى 1868- تعرض ما لا يقل عن 10% من المُشرعين السود للعنف، وقتل منهم 7 ضحايا. لم تتوقف سلسلة العنف عند هذا الحد، بل تطاولت جماعة الكو كلوكس كلان على المؤسسات التي يوجد بها عدد كبير من ذوي البشرة السوداء مثل المدارس والكنائس لأنها كانت دليلًا على توغل السود في الحياة العامة، وهي الظاهرة التي جاهدوا لمنعها بأي شكل.
الزي والتكتيك
اشتهرت الجماعة بردائها الأبيض وأقنعتها المخيفة المدببة التي تغطي الرأس كله عدا العينين. يدب هذا الزي -الذي يصور أعضاء الجماعة على أنهم أشباح– الرعب في قلوب الضحايا ويميز المنتسبين إلى المنظمة عن غيرهم.
مارست الجماعة مختلف أساليب العنف مثل الضرب المبرح، وإتلاف الممتلكات وحرقها، والاغتصاب والقتل، وكان أفراد الكو كلوكس كلان يركزون على المناطق الجنوبية التي يقل وجود السود فيها، ولعل أحد أشهر الحوادث التي أبرزت تكتيك الجماعة كانت عندما هجم 500 رجل مقنع من أفراد العصابة على سجن مقاطعة يونيون بولاية كارولينا الجنوبية وأعدموا 8 سجناء من ذوي البشرة السوداء.
مصدر التمويل وشروط الانضمام
جمعت الكو كلوكس كلان ملايين الدولارات من أجل تنفيذ ممارساتها الإجرامية والترويج لأيديولوجياتهم بشكل مكثف. تعددت مصادر تمويل الجماعة، ولكن المصدر الرئيسي للتمويل كان أعضاء التنظيم أنفسهم الذين أُجبروا على شراء الملابس والأقنعة ودفع رسوم العضوية التي استمرت في الزيادة، ناهيك عن دعم بعض السياسيين المنتسبين للحزب الجمهوري الجمهوري والسياسيين المتعاطفين معهم منذ البداية.
يجدر بالذكر أن الكثيرين ممن انتُسبوا إلى الكو كلوكس كلان كانوا مواطنين أثرياء، فالجماعة لم تقتصر على فئة معينة وسواء كنت من صغار المزارعين أو كبار المحاميين والأطباء، يُوجد مكان للجميع بشرط أن يستوفي شروط الانضمام، وأهمها: أن تكون مسيحيًا تؤمن بتفوق العرق الأبيض البروتستانتي، وأن تكون وفيًا للجماعة وعلى أتم الاستعداد لتنفيذ ما سيُطلب منك، وأخيرًا تُشارك في الأنشطة الدورية المختلفة للجماعة.
عَثَرات في وجه الكلان
تحت ظل حكم الرئيس الأمريكي يوليسيس جرانت، أصدر الكونغرس في عام 1870 قانونًا لحماية الأفارقة السود وحقوقهم من شر الكو كلوكس كلان. اعتبر القانون أن التعدي على الحقوق المدنية أو حتى محاولة التعدي عليها جريمة فيدرالية، كما أعطى الرئيس الأمريكي الضوء الأخضر للقوات العسكرية لكي تتدخل إن لزم الأمر.
وفي عام 1871، عزز الكونغرس القانون الجديد بمزيد من القوانين التي تضمن حماية الأفارقة السود بشكل أكبر؛ فأصبح من حق الرئيس أن يوقف أمر ضبط وإحضار المتهمين وهذا سمح للسلطات الفيدرالية باعتقال واحتجاز المشتبه بهم من أفراد الجماعة دون أمر قضائي، إضافة إلى أن مرتكبي الجرائم ضد السود أصبحوا يحاكمون أمام محاكمات عسكرية.
الكو كلوكس كلان: ما بين الصعود والهبوط
بعدما حجّمت القوانين الجديدة من نشاطات الجماعة، خمدت وتوارت عن الأنظار لفترة كبيرة، ولكنها سرعان ما عادت في بدايات القرن العشرين فيما سُمي بجماعة الكو كلوكس كلان الثانية Second Ku Klux Klan (1915-1944) عندما نشطت هجرات الأمريكيين الأفارقة من المناطق العشوائية بالجنوب إلى الشمال والغرب الأوسط الأمريكي.
تم تكوين الجماعة الجديدة في مدينة أتلانتا بولاية جورجيا في عام 1915، وهذه النسخة من «الكلان» كانت أكثر عُنفًا وذات رؤية عنصرية أشمل؛ فبدلًا من ممارسة العنف ضد الأمريكيين السود فقط، هاجمت الجماعة اليهود والكاثوليك والأقليات الأخرى.
وصلت الجماعة إلى أوجها (من ناحية عدد الأعضاء) في العشرينيات؛ إذ إن عدد أعضائها بلغ 4 ملايين فرد موزعين على الولايات الأمريكية المختلفة.
ومع بداية ثلاثينيات القرن العشرين، بدأت الهجمات المضادة من الرأي العام والحكومة الأمريكية تنهال على الجماعة ليخفت نشاطها مرة أخرى وينشغل الجميع بالأوضاع السياسية والحرب العالمية الثانية التي اندلعت في عام 1939.
الفرسان البيض
عادت الكو كلوكس كلان مرة أخرى مع بداية حركة الحقوق المدنية في ستينيات القرن العشرين، وهذه المرة تحت مُسمَّى «فُرسان الكو كلوكس كلان البيض» White Knights of the Ku Klux Klan، وكانت المنظمة في تلك الفترة هي أنشط جماعة عنصرية في الولايات المتحدة وتسببت كالعادة في سلسلة كبيرة من جرائم العنف والتخويف.
أشهر محطات تلك الفترة كانت اغتيال مارتن لوثر كينج جونيور -ويُعتقد أن حادثة الاغتيال كانت بسبب مؤامرة دبّرتها الجماعة- في مدينة ممفيس بولاية تينيسي عام 1968، إضافة إلى هجوم «الكلان» على كنيسة في مدينة برمنغهام بولاية ألاباما وقتل 4 فتيات صغيرات ليهيج الرأي العام مرة أخرى وتكبح القوانين نشاط الجماعة حتى ثمانينيات نفس القرن.
وفي العصر الحالي، لم تعد تظهر إلا على نطاقٍ محدود، مثلما فعلت خلال الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي ترشّح فيها الرئيس السابق دونالد ترامب وتبنى سياسات معادية تجاه المهاجرين، وهذا ما يتوافق مع أيديولوجيات المنظمة التي دعمت ترشح ترامب للرئاسة في صحيفتهم الرسمية، كما أنها جندت الكثيرين عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي.
كما أن انتشار فيروس كورونا كان أحد العوامل التي أثرت على تضاءل أحجامهم ونشاطهم منذ عام 2021؛ فالوباء حد من استقطابهم لأعضاء جددٍ، كما أنه حال بينهم وبين الاجتماعات الدورية التي كانوا يعقدونها، ومنذ ذلك الحين، ورهبة الكو كلوكس كلان تختفي تدريجيًا حتى كاد ينقطع ذِكرها.