رحلة الدم: هكذا سالت دماء المسلمين ولم تجف بعد (2-2)
تحدثنا في المقال الأول عن الأحداث التاريخية التي تدور حولها الرواية. في هذا المقال سنقيّم الرواية أدبيًا بعيدًا عن التاريخ. الرواية تعتبر من الناحية الأدبية ممتازة، تستحق خمس نجوم عن جدارة، أجاد عيسى رسم شخصياتها وأمسك خيوطها الدرامية ببراعة ونجح في رسم صورة حية للأحداث يتفاعل معاها القارئ.
يبدأ الكاتب روايته بـ «هي لله» فهل هي لله فعلا؟ القارئ وحده هو من يستطيع أن يحكم!
اختيار مشهدي البداية والنهاية كان موفقًا جدًا من الكاتب، المشهدان يكملان بعضهما البعض بطريقة بارعة، جاءت البداية بمشهد مقتل الإمام علي على يد ابن الملجم الذي يترصده وهو ذاهب لصلاة الفجر وينادي أهل الكوفة ليوقظهم للصلاة فيباغت عليًا بسيف مسموم ويقتله. أما مشهد النهاية جاء وعبد الرحمن بن الملجم يبايع علي للخلافة فكان كالآتي:
«رفع بن أبي طالب عينيه نحوه، فرأى ابن الملجم هذه النظرة من علي. هل رآها غيره؟ هل لاحظها أحدهم؟ هل فهمها واحد منهم؟ هل سمعوا ما سمعه من علي أم أنه تخيله أو توهمه؟ أكان علي وقد رماه بتلك النظرة التي فلقته يردد ويتمتم ويدمدم: إنا لله وإنا إليه راجعون».
بعد مشهد البداية يعود الكاتب عشرين عامًا للوراء لفتح مصر ويتتبع سيرة ابن الملجم وبداياته التي جعلها الكاتب مع فتح مصر، فهي كانت بداية خروج ابن الملجم من قوقعته واشتراكه في الأحداث الجسام. تستمر تلك الفترة ما يقارب مئتين صفحة، وعلى الرغم من أن البعض قد يمل من هذه الصفحات فرتم الرواية فيها بطيء نوعًا ما – وهو ما يتوافق مع فترة عمر بن الخطاب التي لم تشهد اضطرابات وكانت فترة استقرار وتوسع للإمبراطورية الإسلامية الناشئة – يختلف تمامًا عن الرتم فيما يليها من صفحات، كما أن ارتباط أحداثها بالأحداث التالية ثانوي.
لكن عيسى يستغل هذا الجزء في بناء شخصياته المشاركة في أحداث الفتنة التالية – وخاصة شخصيات الخارجين على عثمان من أهل مصر أو للدقة من المسلمين القاطنين في مصر– فيرسم عيسى تلك الشخصيات بتأنٍّ ويقوم بوصف خلفياتهم ودوافعهم التي تحركهم وكيف يفكرون.
إذا كان هذا الجزء هو الأرض التي بذر فيها عيسى شخصياته فلا نستغرب أفعالها فيما بعد. أجاد عيسى رسم شخصيات هذا الجزء وخاصة شخصية المقوقس حاكم مصر، صالح القبطي أحد كبار مستشارين عمرو بن العاص، البطريرك بينامين، أبومريم أحد رجال البطريرك بينامين، وبالطبع عمرو بن العاص داهية العرب الذي سيطر على مصر بالسياسة وليس بالقتال. شخصية عمرو بن العاص جاءت مميزة للغاية، سياسي بارع، قائد محنك داهية، وحاكم ذكي، يمكنك أن تقع في حبه بسهولة.
لم يقدم إذًا عيسى شخصيات مسطحة أخيارًا أو أشرارًا، لكن قدم شخصيات رمادية بدرجاته المختلفة. فالمقوقس الذي يسوم الأقباط العذاب له مشاهد درامية رائعة يحدث فيها نفسه ويتساءل لماذا يكرهه الأقباط هكذا، يلعن فيها هرقل وقواده والمصريين. هناك أيضًا مشاهد درامية مميزة بين عمرو بن العاص وابن الملجم، وصالح القبطي وابن العديس وابن الملجم، وهي التي يرسم فيها عيسى شخصية ابن الملجم الجامدة التي لا تفقه القرآن الذي تقرؤه، لكنه يسارع بالتكفير والتجرؤ على صحابة الرسول. لا يفهم أفعال عمرو بن العاص الذكية، مندفع أحمق، هكذا بنى الكاتب شخصية ابن الملجم وهي الشخصية التي أرادها معبرة عن التكفيريين في كل عصر.
ينتهي الجزء السابق بمقتل عمر بن الخطاب، ومع نهايته ستتسارع الأحداث وتصبح أكثر إثارة، حتى أن القارئ مع الصفحة الأخيرة سيتمنى لو أن الرواية امتدت لأكثر من ألف صفحة وليس سبعمائة فقط، وسيتمنى لو أن عيسى لم يتوقف عند بيعة علي، وبالتأكيد سينتظر على أحر من جمر الأجزاء الكاملة من سلسلة القتلة الأوائل. ويمكننا القول إن البداية الحقيقية للرواية كانت بعد هذا الجزء وكل ما سبق كان تمهيدًا، فمن تلك النقطة يببدأ عيسى اشتباكه مع بداية أحداث الفتنة.
لن أسرد الأحداث التي حدثت فسطور المقال لن تكفي، كما أن محاولة تلخيص أحداث الرواية فيه إفساد لها، لكنني سأكتفي بوصف بعض الشخصيات، وعرض بعض المشاهد التي نسجها عيسى بإتقان فجعل الرواية تستحق خمس نجوم.
يمكن تقسيم الشخصيات التي وردت في الجزء الثاني من الرواية لثلاثة أقسام:
القسم الأول هو الخليفة عثمان بن عفان ومناصروه وعماله على الولايات. رسم عيسى شخصية الخليفة بطريقة ممتازة، سيدفعك للغضب من عثمان في البداية لكنه سيجعلك تبكي عليه مع مرور الأحداث، سيدمي قلبك على الخليفة الذي شعر بخذلان أصحابه له واستغل أقاربه طيبة قلبه فأزكوا نيران الفتنة عليه. الخليفة الذي يرفق بربيبه محمد بن أبي حذيفة ويرسل له الأموال فيبث الآخر سمومه ويؤلب الناس عليه طمعًا في إمارة لم يعطها له عثمان. ومن المشاهد المؤثرة لعثمان عندما يمنعه الخارجون عليه من الماء فيتحدث معهم مذكرًا إياهم بفضائله فيقول:
«أنشدكم بالله أن تجيبوني، هل تعرفون أننا كنا في عهد رسول الله نشتري الماء من بئر رومة اليهودي؟، وكان يبيعنا الماء بغلاء سعره وبأمره وهواه، فعز على فقرائنا ومهاجرينا ثمنه. فقال النبي: من يشتري بئر رومة يوسع بها على المسلمين وله بها الجنة؟، فاشتريتها بمالي بعشرين ألفًا سبيلاً لله يشرب منها المسلمون الرائح والغادي ويسقي الفقير والغني؟.
ثم صمت عثمان وقد تكاثفت الدموع في حبال صوته: وأنتم تمنعون عني الآن شربة ماء منها».
بالإضافة لشخصية ابن عفان، ينجح أيضًا عيسى في رسم بطانة الحكم المحيطة بالخليفة، فهناك مروان بن الحكم يتصرف بحماقة تؤجج النيران، ونائلة زوجة الخليفة الحكيمة كانت خير ناصح له، وهناك أيضًا معاوية بن أبي سفيان الذي لم يظهر إلا في بضعة صفحات لكنها كانت كافية لعيسى ليبين دهاءه وذكاءه السياسي فيها، وعبد الله بن أبي السرح حاكم مصر الذي كان مهّد للتخطيط لعزل عثمان.
القسم الثاني من شخصيات الرواية هم الخارجون عن عثمان، وهم يختلفون فيما بينهم، منهم الذي يعرف أن خلافه مع الخليفة سياسي مثل ابن العديس ومالك الأشتر الذين يعترفون لعثمان بفضله في المشهد التالي وهم يحصارونه:
«تنهد ابن عديس وكان السؤال قد أعياه: نصبر يا أشتر، لعله يرجع عن ظلمه لنا ولنفسه فيخلع قميص الحكم.
أطرق الأشتر: وهل تنتظر منه أوبة أو رجعة؟
عاد ابن عديس وهو يتعطش لرية رأي من مالك الأشتر: بل أنتظر من الله الفرج للكرب، فهذا عثمان من نحاصره وليس عييا من بني أمية.
وافقه مالك الأشتر: بل عثمان صاحب النبي وصاحب اليد والفضل».
ومنهم الذي انجرف في كراهية عثمان واستمع للمحرضين مثل محمد بن أبي بكر، وله مشهد عظيم عندما يدخل على عثمان كي يقتله فيحدثه عثمان بلين ويذكره بأبيه ويقول له لا تجعلني أقول لأبيك أن محمدًا هو من قتلني، فيعود ابن أبي بكر لرشده ويهرول خارجًا من حجرة الخليفة. ومنهم الذي ختم الله على قلبه مثل عمرو بن الحمق وابن الملجم و محمد بن أبي حذيفة، وأخيرًا منهم صحابة كبار مثل طلحة، وعمار بن ياسر الذي يرضى بالثورة على عثمان لكنه لا يشارك فيها.
القسم الأخير هم الصحابة الذين لم يرضوا بسياسة عثمان ولكنهم لم يخرجوا عليه مثل الإمام علي والذي أجاد عيسى كتابته، فهو الزاهد في الحكم، لا يرضى عن أفعال عثمان فيكون خير الناصح لصاحبه، ثم يتبرأ من قتلته في مشهد عظيم للغاية عندما يذهب لخليفة رسول الله بالماء بعد أن منعه المحاصرون له منه، لكن الخارجين على عثمان يمنعون عليًّا من إمداده بالماء فيتبرأ علي منهم في المشهد التالي:
«لكن صخبهم تآكل وصمتهم ارتفع حين رأوا عليًّا يفلت ذراعيه من أكف من حوله ويمسك بعمامته فيخلعها عن رأسه ثم يرفعها عاليًا بذراعه ثم يرميها بأقوى ما يملك من عزيمة فوق سور دار عثمان وهو يناديه:
يا عثمان اشهد أنني جئت وحاولت وأنني بريء منهم.
كان عثمان يسمعه في الداخل وهو يبكي، ومروان يشكك بلسانه وبإيماءاته وبإشاحاته فيما فعله علي وقاله، بينما نائلة مبهوتة وقد رأت النهاية تبدأ حين كرر علي صيحته المستبرئة:
يا عثمان، أنا بريء منهم».
الرواية مليئة بشخصيات ثرية أخرى غير السابق ذكرها، ولكن لا يسعني المقال للكتابة عنها كلها. أيضًا الرواية مليئة بمشاهد درامية أخرى محبوكة بطريقة مميزة، فمثلاً هناك مشهد ذهاب علي لأحجار الزيت واعتزاله للناس الذين ينادون به خليفة بعد مقتل عثمان، فهو الآن زاهد كل الزهد في تلك الخلافة، وعند أحجار الزيت يتذكر علي ما حدث في البيعات السابقة وأن الناس اختاروا أبا بكر مرة وعثمان مرة ثانية فيناجي نفسه قائلا:
«لكنهم قد اختاروا غيره من قبل، فلماذا هذه المرة؟ ولكن أليست هذه المرة الخطرة الأخطر حين يشتد الشد والجذب وينشف الضلع في القلب؟، ألا يكون الأمر في حاجة إلى من يفلق الصبح بين الحق والباطل، بين الخير والشر، بين الحلال والحرام؟ ومن له ذو الفقار غيرك يا علي؟».
أخيرًا رغم جودة الرواية إلا أن هناك بعض المآخذ التي يمكن أن نأخذها على الكاتب. نذكر منها حديث السيدة عائشة مع نائلة زوجة الخليفة عن مباشرة النبي لها وهو الحديث الذي تشعر أنه مقحم على النص إقحامًا، كأن عيسى تعمّد أن يضعه استفزازًا لخصومه من الإسلاميين. أيضًا لم يوفّق الكاتب في وصف مشهد دفن عثمان بعد مقتله وجاء خاليًا من المنطق المحكم عكس أجزاء الرواية الأخرى، فكيف يتم دفن عثمان سرًا دون أن يصلي عليه كبار الصحابة مثل علي الذي تبرأ من قتلته وجعل ولديه الحسن والحسين في حراسته؟ كيف لم يصلي عليه حراسه من أبناء الصحابة الحسن والحسين وعبد الله بن الزبير ومحمد بن طلحة؟! لا يستقيم هذا مع المنطق. شخصية حبي رغم أن عيسى نجح في دمجها في أحداث الرواية إلا أن التفاصيل الجنسية بتلك الشخصية كانت زائدة عن الحد في رأيي وكان من الممكن أن يقلل منها عيسى.
قد تكره عيسي وتختلف تمامًا مع مواقفه السياسية وتتهمه بأنه خائن لمبادئه، لكنك لا تستطيع أن تنكر أنه روائي وقاص من طراز رفيع، متمكن من لغته وأدواته، يستطيع صياغة الأحداث التاريخية في نسيج روائي جميل محكم البناء، وبالتأكيد روايته الأخيرة تستحق القراءة. ولا يسعنا في النهاية سوى أن نقول: رحم الله عثمان وعلي وصحابة رسول الله.