حقول الدم: الدين وتاريخ العنف
رغم الاتهامات التي يوجهها الكثيرون اليوم وعلى رأسهم تيار الإلحاد الجديد ورموزه البارزون كسام هاريس ودانيال دينيت و بيل مار وريتشارد دوكينز إلى الدين عموماً بوصفه العامل الأساسي بحسبهم في الصراعات الدموية عبر التاريخ، إلا أنه وللمفارقة مع ذلك الطرح، فإن في ظل أفول الدين وانحسار هيمنته على الحياة فى القرن الماضي، لم يزدد الوضع إلا سوءاً، حيث كان القرن العشرين بحربيه العالميتين ولأسباب غير دينية تماماً، هو القرن الأكثر دموية في تاريخ البشرية برمته.
ورغم عدم موضوعية تلك النظرة التعميمية المخلة التي تلصق العنف بفكرة الدين، ظلت رغم ذلك السردية العلمانية السائدة في ثقافتنا الراهنة اليوم تنظر إلى الدين كمصدر أساسي للعنف بتأثيرات تاريخية مستمرة من حرب الثلاثين عاماً في أوروبا، التي كرست ورسخت تلك النظرة والعلاقة بين الدين والعنف.
تحاول كارين أرمسترونج في كتابها الأخير «حقول الدم: الدين وتاريخ العنف»، الذي نشرته الشبكة العربية للأبحاث والنشر وترجمه إلى العربية أسامة غاوجي، إلى تقويض مرتكزات أسطورة العنف الديني، عبر الكشف عن الدوافع التاريخية المركبة والسياقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تقف خلف حالات العنف التي تم إسباغ الصفة الدينية عليها كالحملات الصليبية، وحروب أوروبا في العصر الوسيط وصولاً إلى ممارسات التنظيمات الجهادية في العالم الإسلامي اليوم، وذلك عبر رحلة من التقفي الجينالوجي لظاهرة العنف في المجتمعات الإنسانية القديمة، مرورًا بالحروب الدينية في القرون الوسطى، وصولاً إلى تحليل مظاهر وأسباب العنف في الأزمنة الحديثة.
حرب الثلاثين عاماً
فى معرض تناولها لحرب الثلاثين عاماً التي دارت في القرنين الـ16 والـ17 م في مطلع الحقبة الحديثة في أوروبا، تقول كارين أرمسترونج، إن الحروب الطائفية بين الكاثوليك والبروتستانت التي شهدتها أوروبا ذلك الوقت، والتي تسببت فى مقتل ما يقرب من 35 في المائة من ساكنة وسط أوروبا، وشكلت الأساس لاحقاً لظهور ما تسميه بأسطورة العنف الديني المعاصر، بأن ما من شك في أن المشاركين في ذلك الصراع الكاثوليكي البروتستانتي الذي شهدته أوروبا في تلك الآونة، خبروا هذه الحروب كصراع حياة أو موت ديني، ولكن ذلك الصراع إذا نظرنا إليه اليوم بأثر رجعى بحسب أرمسترونج سنجده من زاوية أخرى، هو صراع بين أمراء ألمانيا وملوك أوروبا، الذين كانوا يقاتلون إمبراطور روما المقدس شارل الخامس وطموحه، لتأسيس هيمنة عبر أوروبا على غار الإمبراطورية العثمانية.
تقول أرمسترونج أيضاً في هذا الإطار، إنه وإذا كانت الحروب الدينية الأوروبية آنذاك مدفوعة بالأساس بالتعصب الطائفي، فلا يجب أن نتوقع رؤية البروتستانتيين والكاثوليك وهم يقاتلون على نفس الجبهة على سبيل المثال، ولكن هذا هو ما حدث بالفعل على أرض الواقع في الحروب الدينية الفرنسية وحرب الثلاثين عاماً، حيث تخطى المقاتلون حدود الطائفية في كثير من الأحيان، لدرجة أنه أصبح من المستحيل الحديث عن مجتمعات كاثوليكية أو بروتستانتية خالصة آنذاك.
و تقول أمسترونج بالنهاية، إن هذه الحروب لم تكن كلها دائماً عن الدين أو كلها عن السياسة، فقد كان الناس يحاربون كما تذكر لرؤى مختلفة، بل ربما حتى لم يكن بإمكانهم في بعض الأحيان أن يفرقوا بين العوامل الدينية والدنيوية فى هذه الصراعات، من خلال الفكر والثقافة السائدة فى ذلك الوقت.
و ما تذكرنا به كارين أرمسترونج هنا، من وقائع تاريخية منسية خلال تلك الحرب لم يتوقف المؤرخون لتلك الفترة أمامها كثيراً، يثير في الحقيقة العديد من التأملات الهامة، فتذكيرها لنا نحن الذي نعيش في القرن الواحد والعشرين بتلك الحقائق، والذي تقولب التاريخ في أذهاننا عبر مقولات متصلبة عن تلك الحرب، يشي ربما بالحقيقة الغائمة فى تلك الفترة لذلك الصراع، ويلقي بضوء كاشف يخترق حقيقة تلك الحرب وحقيقة ذلك الصراع من أوله إلى آخره، حيث انتهت حرب الثلاثين عامًا بصلح ويستفاليا الذي مثل الأساس القانوني لنشوء الدولة القومية الحديثة.
ولعل هذه كانت خاتمة كاشفة نوعاً ما للأبعاد المتوارية لتلك الحروب الدينية سالفة الذكر، حيث كانت تلك الحروب فى صميمها الذي كان من الصعب استيعابه في الثقافة السائدة في تلك الآونة، هي حروب ذات بعد قومي غائر يصعب كشفه آنذاك، حيث لم تكن القومية بمفهومها المعاصر قد تشكلت بعد في الواقع الأوروبي، أو حتى في الأفق النظري للنخب الأوروبية في ظل وضع الباباوية والكنيسة الكاثوليكية الراسخ وقتئذ، وطبيعة الاجتماع الديني القائم في أوروبا قبل حرب الثلاثين عاماً.
وقد كانت تلك الصراعات بحد ذاتها فى ذلك الوقت، تمثل إرهاصاً لتشكل القومية بمفهومها الحديث كما عُرفت لاحقاً، أو لنقل كانت بالأحرى مخاضاً لولادتها، ولعل قراءة ذلك الصراع الأوروبي التاريخي الآن في ضوء ذلك التحليل، ربما تبدو أفضل كثيراً من قراءتها كمجرد حرب مذهبية بين الكاثوليك والبروتستانت، كما اعتاد أن يتعامل معها المؤرخون.
المنابع الحقيقية للعنف المعاصر
لا يزال يعتبر الكثيرون اليوم، أن نفي الارتباط بين ظواهر العنف المعاصر الذي يتجلى اليوم أكثر مما يتجلى فى تجربة تنظيم الدولة الإسلامية اليوم والدين بمفهومه التقليدي، هو نوع من الهروب من مواجهة الواقع، ودفن للرؤوس فى الرمال، وفي الحقيقة فإنه ينبغي علينا في إطار تناول هذه القضية لا أن نفرق بين الدين والتدين فحسب، بل نتأمل في حقيقة أنماط التدين ومدى علاقتها بالأديان التي تدعي الانتساب إليها.
و قد قامت كارين أرمسترونج في هذا الصدد في كتابها الأخير بدراسة العديد من التجارب التاريخية المماثلة لظاهرة داعش الراهنة على نطاق تاريخي وعالمي واسع وعن حقيقة صلتها بالأديان، وخلصت أرمسترونج من خلال ذلك إلى أن أسباب العنف الديني في معظم التجارب البشرية، القديمة فضلاً عن الحديثة، كانت دوافعه بالأساس قومية واجتماعية أكثر من أي شيء آخر، حيث إن فكرة العنف الديني الخالص والمجرد، هي أسطورة أقرب منها إلى الحقيقة كما تذكر.
و من اللافت في هذا الإطار أن أرمسترونج قد عزت مظاهر العنف المعاصر في العالم الإسلامي، في المقابل، إلى «الحداثة الغربية»، التي تستخدمها كمفهوم محوري أثناء تحليلها لذلك الارتباط بين ظاهرة الإرهاب و العنف في العالم الإسلامي. التي رأت أن أهم أسبابه هو أن عملية إدخال تلك المنطقة إلى عصر الحداثة قد تم بشكل أكثر عنفًا.
ولعل من يريدون أن يتبنوا الخطاب السطحي للحركات الجهادية كتنظيم الدولة الإسلامية، ويعتبروا أن أي تناول غير ذلك يعد محاولة لا جدوى منها للهروب من تحمل المسئولية، هم في الحقيقة يتبنون بالنهاية نفس المحاججة التي يتبناها بعض اللادينيين اليوم، في محاولة اعتبار الأديان، هي سبب مشاكل البشرية منذ بدء التاريخ، حيث يكمن الحل من وجهة نظرهم في التخلص منها برمتها، فهؤلاء كذلك مثلهم لا يقبلون، الأفكار الداعية للفصل بين الدين وبعض أنماط التدين الفارغة من أي محتوى أخلاقي التي تحاول أن تنسب نفسها إليه.
ولا شك في أن المنطق الذي يتبناه هؤلاء، هو منطق شديد الاستعلاء، بأسلوبه القطعي الذي لا يقبل الحوار والمجادلة، وبتعميماته الواسعة المخلة، هذا فضلاً عن كونه منطق شديد السطحية أيضاً، لأنه يرفض النفاذ إلى عمق الظواهر الاجتماعية و الاقتصادية والسياسية في منطقتنا، ويكتفي بترداد تلك الـStereotypes التي تصدرها بعض وسائل الإعلام التي تتحرك في فلك دوائر اليمين الغربي، التي تعانى حتى الآن من مشكلة مزمنة من الإسلاموفوبيا .