فيلم «Blonde»: مارلين مونرو تُستغل من جديد
عرض فيلم «شقراء» (Blonde) للمخرج أندرو دومينيك لأول مرة في مهرجان فينيسيا هذا العام، قوبل بآراء متضاربة بين الإشادة بتفوقه التقني ونقد للرسائل القاسية التي اختار الفيلم تناولها، «شقراء» هو تناول خيالي غير مبني على الوقائع لحياة الوجه الأشهر في القرن العشرين وربما حتى وقتنا هذا: مارلين مونرو، مبني على رواية نشرت في نهاية التسعينيات لجويس كارول أوتس، يفكك «شقراء» ما وراء الشهرة والجمال، ما وراء الصورة، الشخص القابع تحت الشعر الأشقر اللامع والشفاه الحمراء المرسومة بدقة، لا يقدم دومينيك فيلمه باعتباره سردًا للحقائق بل باعتباره شبه سيرة ذاتية، سيرة ذاتية داخلية متخيلة، لكن الفيلم نفسه ليس هو محط الحديث والجدال، بل ما حوله، تصريحات دومينيك ورغبته في إثارة الجدل واعتبار ذلك نجاحًا، وفخره بأنه «استفز» المشاهدين ومحبي مارلين مونرو، يتبع دومينيك تقليدًا متداولًا بين المخرجين الذكور الذين يتغذون على الاستفزاز سواء كان المحتوى الاستفزازي جيدًا أم لا.
تفكيك الصورة بالصورة
يبدأ فيلم «شقراء» بمشهد أيقوني في تاريخ العالم وفي تاريخ مارلين مونرو الشخصي، مشهد تطاير فستانها العاجي ومحاولاتها البريئة للإمساك به، يصور دومينيك ومدير تصويره شايس ارفين الحدث من وجهة نظر آلاف المصورين المتعطشين لالتقاط صورة للتاريخ، يرجع تاريخ المشهد لفيلم حكة السبع أعوام The Seven Year Itch للمخرج الشهير بيلي وايلدر، يأتي الحدث في النصف الثاني من الفيلم الذي يضع مونرو في دور وضعت فيه عشرات المرات، شقراء حمقاء غير واعية بقدرتها اللانهائية على جذب الرجال، بريئة ومغوية في الوقت ذاته، أصبحت صورة مونرو علامة لم تمت حتى الآن، اختيار تلك الصورة تحديدًا لبدء فيلم «شقراء» يرسي أفكاره واهتماماته المبدئية، وهي بشكل رئيسي الثمن الذي يدفعه الفرد من حياته ليتحول من إنسان إلى أيقونة.
بعد مشهد البداية المحمس يبدأ الفيلم في قص حكايته، رواية مشابهة لحياة مونرو الحقيقية وطفولتها المعذبة، نمضي بعض الوقت في طفولتها عندما كانت لم تزل «نورما جين» ثم يبدأ الفيلم في تعريفنا بها كما نعرفها الآن، شعر بلاتيني أشقر ووجه مثالي، نرى تلك السمات معاد خلقها بواسطة الممثلة الكوبية آنا دي أرماس، تتلبس دي أرماس الشخصية أحيانًا وتصل إلى أقرب شكل ممكن لمونرو يرجع ذلك إلى الاهتمام التقني الضخم بالتفاصيل، بعدسات التصوير الملائمة للفترة الزمنية والمكياج والشعر، لكن في معظم أحداث الفيلم تظهر دي أرماس نسخة جديدة من مارلين، شخص يملك مميزاتها لكن لا يملك روحها، يرجع ذلك الانفصال بشكل رئيسي لدومينيك ومنهجه في تناول حياة النجمة الأشهر في هوليوود وليس لقدرات دي أرماس التمثيلية.
يعمل شقراء على تفكيك صورة مونرو، على إعطاء سياق جوهري لوجودها الصوري في ذكرياتنا، يعمل على ذلك من خلال ضخ الحياة في الصور الفوتوغرافية التي أخذت لها طيلة فترة شهرتها، تصبح اللحظات الخالدة هي نقاط بداية معظم المشاهد، يحلل الفيلم ما وراء الصور، ويعاملها كجزء من حياة تلك النجمة الأسطورية وليست صور ممسرحة للإعلام والصحافة، في حوار مع موقع BFI يسأل المحاور سؤال يتعلق باختيار تغيير أحجام الإطارات على مدار الفيلم، يرد دومينيك دون اهتمام بأنه حدد ذلك بناء على الصور، إذا كانت مرجعيته الفوتوغرافية مقاس 4:3 فإنه سيعيد خلق صورته بنفس الحجم، ربما تفسر تلك البراجماتية خلو شقراء من الروح والتعاطف تجاه بطلته، فهو فيلم يحاول تفكيك أسطورته شكليًا لكنه لا يخرج من إطار الشكل، فيلم يدعي أنه ينقب في الحقيقة وراء الصور لكنه يستخدم الصور بشكلانية بحتة لا تخترق السطح.
يمتد الشكل الفيلمي بعيدًا عن إعادة خلق الصور الأيقونية إلى تفكيك السرد الخطي ووجهات النظر المختلفة، تنتقل المشاهد من صورة إلى أخرى من الأبيض والأسود إلى الألوان ورجوعًا إلى الأبيض والأسود، يعمل ذلك كمدخل لتمييز الفترات الزمنية إضافة لخلقه صيغة جمالية تدخلنا بالفعل في ذاكرة الفترة المكونة من صور أخذت بأشكال مختلفة في فترات مختلفة، ويساعد ذلك التنوع الشكلي في جعل الفيلم أشبه بشذرات من حلم سقط منه كثير بعد الاستيقاظ، مما يساعد في خلق الحالة الكابوسية المرجوة من الفيلم، وهو فيلم كابوسي بالفعل، يحلل المأساة عن طريق اختزالها في مجموعة متنوعة من أحزن لحظات حياة مارلين مونرو، لا يوجد في هذا النهج مجال لإظهار أي تناقض أو تعقيد، بل إن «شقراء» يرفض التعقيد الفكري بشكل قاطع، كل المسببات تؤدي إلى النتائج، التراجيديا تحدث حتمًا بسبب ما حدث في طفولتنا، والبطلة لا تملك أي أهلية على جسدها ولا على سير حياتها بأي شكل، ضحية طفولتها، ضحية وحوش هوليوود، ضحية النظرة الذكورية للجسد الأنثوي الذي تم تسليعه وبيعه، دون القدرة على نطق كلمة أو بث اعتراض أو حتى احتضان صفاتها الجمالية الخاصة.
تحليل الاستغلال بالاستغلال
في اللقاء نفسه مع BFI يطرح المحاور سؤال عن الاتهامات التي صاحبت فيلم شقراء بأنه جعل مارلين مونرو ضحية طيلة ثلاثة ساعات من الأحداث القاسية، تتلقى ضربة بعد ضربة، يخذلها الجميع ويستغلها الجميع، خاصة الرجال في حياتها، تظهر وكأنها مخلوقة فقط لكي تستغل وأن جسدها وجمالها الذي جعلها حلم الجميع رجالًا ونساء كان سبب تعاستها، يرد دومينيك أنه يرى مونرو كذلك، شخص قوي لكن مع نزعة تدميرية للذات وأن الادعاءات بأنها امتلكت السيطرة هي مجرد أوهام معاصرة عن موضوع تاريخي، وفي أثناء حديثه يذكر أن أفلام مارلين مونرو لا يشاهدها أحد، وأنها ليست ذات أهمية أو موهبة، ويستطرد قائلًا إن الفيلم الشهير الرجال يفضلون الشقراوات Gentlemen Prefer Blondes هو مجرد فيلم عن «عاهرات حسنات الملبس».
ربما يمكن تفكيك رؤية دومينيك انطلاقًا من تحليله لذلك الفيلم الأيقوني، يمثل ذلك التعليق محدودية رؤيته، وبما أنه صنع فيلم ليستفز الجميع وأضافت تصريحاته لذلك فإنه من المنطقي دمج تحليل الفيلم مع رؤى دومينيك الخاصة لأنه يصعب فصلهما، يحكي الفيلم الصادر عام 1953 قصة مغنيتين استعراضيتين إحداهما تبحث عن المال والثروة، تحب المجوهرات والبذخ والأخرى تبحث عن الحب، يمثل الفيلم نظرة نادرة في ما يخص التحديقة الذكورية Male Gaze بخاصة في وقت صناعته، فالقصة كلها تحكى من وجهة نظر السيدتين الواعيتين تمامًا بجمالهما الشكلي ويستغلونه لصالحهما، يستخدمان مواهبهما في الغواية للإيقاع بالرجال السذج الذين يخونون زوجاتهم ولا يبخلون في الإنفاق لمجرد أن فتاة في جمال لورلاي (مارلين مونرو) أبدت اهتمامًا بهم.
لا تنفذ لورا أي من وعودها بل تستخدم الإغواء وتتهرب من العلاقة بعد حصد ما تريد، وفي نهاية الفيلم لا تتعلم الدرس أو تجد الحب مع شاب فقير بل تتزوج رجل غني من أسرة غنية، تمثل تلك النهاية وجهة نظر سينمائية لا تحكم على الشخصيات المرحة أخلاقيًا، فهي شخصيات تستخدم كل الكليشيهات الذكورية لصالحها، وتعي تمامًا استحالة تغيير الوضع الراهن فتحول ذلك الوضع من ضعف إلى قوة، لكن دومينيك يرى أن كل ذلك التعقيد ببساطة هو جعل «الدعارة» شيء رومانسي.
شقراء أم شبح
بالعودة إلى فيلم «شقراء» يمكن تتبع ذلك التصريح في كل مشهد وكل فكرة يطرحها الفيلم، بالنسبة للفيلم فإن صورة مونرو كشقراء لعوب حمقاء هي صنيعة كاملة للمنتجين والمخرجين المستغلين ولم تملك هي يد فيها أو تحبها قط، بالطبع في العالم الحقيقي مثل معظم النساء العاملات في مجال الترفيه تم استغلال مونرو جنسيًا للحصول على الأدوار على يد رجال بعيدون كل البعد عن المحاسبة، لكن «شقراء» الرواية والفيلم يسردان مشاهد مفصلة لاغتصاب مونرو على يد أحد عمالقة الاستديوهات الهوليوودية، ومن هنا تبدأ حياتها المهنية، منكسرة ومنتهكة وباكية، بعد ذلك المشهد يصبح الفيلم كله تنويعة مطولة على مشهد الاغتصاب المروع، لا تبتسم مونرو إلا وهي باكية، تبدو منكسرة طيلة الوقت، أي تواصل لها مع أي رجل هو إمكانية مستقبلية للتعرض للانتهاك، لا ترد مونرو الإساءة ولا تدافع عن نفسها، بل تكمل حياتها كشبح تم سحب الحياة منه.
«شقراء» يتخذ من الاستغلال خاصة الجنسي موضوعًا رئيسيًا له لكنه لا يخجل من استغلال جمال بطلته الممثلة آنا دي أرماس لجني المزيد من المشاهدات وإثارة المزيد من الجدل حول الفيلم، تمضي دي أرماس معظم مشاهدها بملابس كاشفة أو دونها، بشكل عشوائي تمامًا دون إعادة خلق لصور مونرو أو غيرها، ربما تعمل تلك المشاهد لتعرية حرفية لحقيقة مونرو بعيدًا عن البذخ والتصنع لكنها بشكل أكثر منطقية امتداد للاستغلال الذي ينتقده الفيلم بشكل مكثف بأكثر الطرق مباشرة.
امتلكت مونرو علاقة معقدة مع جسدها وأنوثتها ومع نظرة العالم لها، تسبب جمالها في استغلالها في الحياة الحقيقية وفي الفيلم، لكنها كانت واعية بشكل كامل بسيطرتها على العالم، وقدرة جمالها على جعلها مميزة منذ مراهقتها، فذلك الجمال هو لعنة ومعجزة في الوقت ذاته، في إحدى مدخلات مذكراتها تصرح مونرو بأنها لا تفهم أفكار الناس الغريبة تجاه الجسد العاري وتجاه الجنس في حين أنهما أكثر الاشياء انتشارًا وطبيعية في العالم، امتلكت مونرو رؤية ايجابية تجاه جسدها لكنها عانت بسببه كذلك، ووقفت ضد الاستغلال عندما نال منها، امتلكت سرديتها الخاصة وشاركت بعد فترة من المعاناة مع استغلال رؤوس الاستوديوهات في إنشاء شركتها الخاصة بمشاركة آخرين، لكن تلك اللحظات من القوة وامتلاك الأهلية على الجسد والذات من الممكن أن تجعل فيلم «شقراء» أقل ترويعًا و استفزازًا، فمن الأفضل له الاستمرار في جعل الاغتصاب مجازًا وتلخيص مشكلات مونرو في مفاهيم فرويدية بسيطة مثل افتقاد الأب والبحث عنه في كل الرجال الآخرين أو في فقدان الأبناء بسبب مشكلات الحمل مما أدى لسقوطها من جنة الشهرة والألوهية التي تربعت عليها وأودى إلى نهاية حياتها بشكل تراجيدي.
في فيلم شقراء Blonde خلق أندرو دومينيك فيلم معقد بصريًا وتقنيًا لكنه مبسط فكريًا، ينفق كل ما يستطيعه لصنع صور براقة ومثيرة للاهتمام، يصنع فيلمًا شكلانيًا يفكك إشكالية الشكل والمضمون عن طريق الصور نفسها التي يحاول تفكيكها، لكنه لا يهتم ببطلته أو يتعاطف مع مأساتها، بل يجعل منها فرجة، ومن حياتها مهرجان من البؤس الذي لا ينتهي، لأنه يخشى أنه إذا احتفى بثقتها أو جمالها سوف ينقص ذلك من قدر الاستغلال الذي تعرضت له، وبذلك يمعن في استغلالها عقود بعد وفاتها، دون عائلة أو أصدقاء أو أهلية للدفاع عن ذاتها.