رواية «العمى»: كشف الشر المتأصل في الإنسان
بهذا المبدأ يستهل «ساراماجو» روايته الأشهر «العمى»، فيتولد عند القارئ حس من فضول ليتساءل في قرارة نفسه: إلى ماذا أنظر؟ وأراقب ماذا؟
تدور أحداث الرواية حول وباء يتميز بالغرابة أكثر منه خطورة، ألا وهو العمى أو الوباء الأبيض، حيث يصاب الأشخاص بعمى مفاجئ بدون أي سابق إنذار.
يضعك ساراماجو في مواجهة الأحداث مباشرة، حيث يبدأ الأمر مع حالات فردية، كذلك السائق الذي عمي أثناء انتظاره في إشارة المرور! ثم يتفشى هذا المرض ويغدو وباء يصيب كل من في البلدة، فتقوم الحكومة باتخاذ الإجراءات المتبعة في مثل هذه الكوارث الطارئة، للحد من هذا الخطر الذي يهدد الأمن القومي للبلاد. يُعزل المصابون في أماكن الحجر الصحي بعيدًا عن باقي الأصحاء، فيتكدس مشفى للأمراض العقلية كان مهجورًا بأعداد مهولة من العميان الذين تترك لهم جميع مقاليد حياتهم وزمام الأمور ليصرفوا شؤونهم كيفما شاؤوا، لكن في وسط هؤلاء العميان وجد شخص لم يفقد بصره بعد، لماذا؟ وكيف؟ أسئلة لم أشغل بالي بالإجابة عنها فربما كان الأولى الاهتمام بكيفية تفشي هذا المرض من العدم!
يهبط بنا ساراماجو إلى أقصى درجات الانحطاط البشري – الحيواني – ليصور هول ما يحدث في هذا الحجر الصحي، يرجع بالإنسان إلى أزمنة سحيقة من تاريخ الترقي الظاهري، فيرجع الإنسان إلى ما هو أقل من الحيوان حين يقتصر توجهه على الغرائز الأولية البحتة بأشكالها البدائية مثل: المأكل والمشرب والمبيت والشهوة الجنسية، عارضًا الصراع الأزلي بين الخير والشر ممثلًا في العلاقة بين شخصيتين من شخصيات الرواية.
حيث نجد في الفريق الذي يضم الطبيب وزوجته والعاهرة والطفل،… إلخ، أهم شخصية فيه هي زوجة الدكتور، هذا إن لم يجدها الكثيرون هي الأهم في العمل بأكمله، وهي التي لم تفقد بصرها وظلت شاهدة على جميع الأحداث، وكأنها رسمت هكذا لتخبرنا أنه لابد أن هناك في الحياة من لم يتغول وسخ الحياة على نقاء نفوسهم، ومن ظلوا حتى في أحلك الظروف التي تمر بهم على سجيتهم، أو الأصح على إنسانيتهم.
وكما وجد مثال وصورة الخير النقي في شخصية، كان لابد من وجود النقيض في أخرى، صورة للشر السافر. وهنا يأتي دور شخصية هذا الأعمى المصاب بالعمى مسبقًا.. لماذا لم نجده في فريق الأخيار؟ لماذا انضم إلى الأشرار بل وأصبح مستشارًا لهم؟
يجيب الكاتب على هذه التساؤلات ببساطة في سياق العمل، ويخبرنا أن هذا الأعمى تحديدًا هو نقيض الخير في شخصية زوجة الطبيب، بتمثيله فئة من البشر الذين منذ ظهورهم على وجه الأرض وهم غارقون في ملوثات ومفاسد هذه الحياة إن لم يكونوا أسبابًا لها.
يبدو أن البعض منا يظل إنسانًا حتى يتعرض إلى محنة فيسلك مسلك حيوان بل في بعض الحالات كما رأينا يصبح في درجة أقل! وهذا الإنسان يمكن أن يكون أنا أو أنت أو حتى أكثر الناس تعلقًا بربهم فيما نرى. وحالة الحيوانية هذه مؤقتة غير مستديمة، لا تلبث أن ينتهي الظرف الدافع لها حتى نعود إلى حالتنا الطبيعية وصورتنا البشرية المعتادة.
ولكن ماذا عن الكائنات التي تتلبس حالة الإنسانية لفترة مؤقتة، ثم لا تلبث أن تعود إلى طبيعتها الحيوانية؟ تلك التي لا تنتظر دافعًا لتخرج ما بداخلها من شر مدفون، من هذه النقطة كان لابد من وضع شخصية المصاب مسبقًا بالعمى ليزن كفة العمل أو كفة الحياة كما يمكننا القول.. فكما يوجد خير نقي، يوجد أيضًا شر خالص، والصراع بينهما قائم ومستمر ما دامت هذه الحياة.
أما عن شكل العمل ،فساراماجو عادة لا يعتمد أساليب الكتابة النمطية كالفصل بين حواره المباشر معك كقارئ وبين حوارات الشخصيات مع بعضها، لذا تجده وهو الراوي العليم يروي الأحداث بلسانه ثم بين سطر وآخر ينقل الحديث إلى لسان أحد شخوصه، لتفاجأ بأنك تقرأ حوارًا بين أكثر من شخصية، ثم تجد الشخصية تحادثك وتسرد لك، ثم يتسلم هو زمام الحديث مرة أخرى وهكذا، مما يجعل ذهنك يعمل مرارًا وتكرارًا لربط الأحداث بعضها ببعض. وبرغم الأسلوب الهادئ أو النفسي في وصف الأحداث والشخصيات إلا أن العمل يخلو تمامًا من أي إسهاب أو مط في الأحداث.
يلاحظ أيضًا أنه بنى أحداث الرواية على خاصية اللامكان واللازمان، فأنت لن تعرف في أي زمن تجري هذه الأحداث أو مكان وقوعها، حتى شخصياته لم يهتم بوصفها على شاكلة: طويل، أسود اللون، شعره قصير… إلخ، ولم يكلف نفسه تسميتها، بل وصف كل شخصية بعلامة مميزة مثل: الأعمى الأول، زوجة الطبيب، الفتاة ذات النظارة السوداء، الكهل ذو العين المعصوبة، مما سيجعلك تفكر في أن الوصف المعتاد ما هو إلا محض ترهات!
هكذا نجدنا أمام نص صالح للتعبير عن معظم الشعوب باختلاف جغرافيتها وتاريخها، فأي شخص يقرأ العمل بأي لغة يمكنه أن يتخيل وقوع هذه الأحداث له وللمجتمع الذي يعيش فيه، ما يجعله عملاً مميزًا لا يمكنك إلا أن تتأثر به، حتى تجد أن ساراماجو سيخطفك من واقعك ويضعك أو يجعلك شخصية من شخصياته لتسير معه حتى النهاية بحثًا عن إنسانيتك.
رواية العمى هي أولى روايات ثلاثية ساراماجو العدمية فقد تم نشرها في عام 1995، و«البصيرة» المنشورة في العام 2004، و«انقطاعات الموت» المتممة لسابقتيها بنشرها في عام 2005. وتعتبر الروايات الثلاث منفصلة عن بعضها، إلا أن الكاتب اتبع أسلوبًا واحدًا تقريبًا في سرد أحداثها. والثلاثية العدمية هو لقب أطلقه بعض القراء على هذه الروايات، وليس الكاتب؛ وسبب تسميتهم هذه هو ما تحتويه من أفكار ساراماجو التشاؤمية – إن صح التعبير – والمتحررة من الاعتبارات الدينية السائدة بخصوص موضوعات جوهرية كالموت والحياة والحرية.
جدير بالذكر أن الرواية اقتبست في فيلم سينمائي من إنتاج كندي سنة 2008 بعنوان «Blindness»، من إخراج البرازيلي «فرناندو ميريليس» وبطولة كل من «جوليان مور» و«ومارك روفالو».