رواية «العمى»: رحلة الإنسان المقدس من القتامة إلى البشارة
لا أعرف كيف كُتبت تلك الرواية العظيمة التي أغبط كاتبها عليها. رواية كالكابوس الذي لا يمكن أن تخرج منه على نفس حالتك التي كنت فيها قبل أن تدخله.
ورغم كابوسية الرواية وقتامة الواقع الذي صوَّره «جوزيه ساراماجو» الكاتب البرتغالي الحائز على جائزة نوبل، ومع كل لحظات انعدام الإنسانية التي مرَّ بها أبطاله، فإنه استطاع بمهارة وذكاء شديدين أن يُعلِّقنا بشعاع الضوء الشاحب الذي لا يكاد يُرى، والخارج من عيني المرأة الوحيدة التي لم تفقد بصرها في المدينة بأكملها، لتتبعها أينما ذهبت وتتعلق بكل ما تراه وما تحاول أن تفعله لتساعد به الآخرين، بل تتشبث به بكل قوتك ويكأنه ما تبقى من إنسانيتك أنت وليس من العالم كله، وكأنك تريد أن تتأكد ممَّا سيفعله الكاتب ليؤكد لك أن الإنسانية ستنتصر ولو بعد حين، وسيعود الضوء ليملأ كل تلك العيون المُظلمة من جديد.
فاقدو البصر والأسماء
حين تقرأ الرواية ستُفاجأ أن كل الأبطال بلا أسماء. تعامل الكاتب وكأن الأسماء بلا قيمة. كان مُهتمًّا بذكر سمة أو صفة معينة ليُميِّز بها كل واحد منهم عن الآخر. فتجده يقول الطبيب، زوجة الطبيب، الفتاة ذات النظارة، الأعمى الأول وزوجته… وهكذا.
لقد أسقط الكاتب الأسماء كلها من حساباته، وكأنه يساعدك كقارئ أن تظل متمسكًا ببصرك للنهاية كي تحفظ شكل الأبطال ولا تعتمد على أسمائهم. لقد تعمَّد أن يحفرهم في ذاكرتك كي يحفظهم من هذا العمى الذي أصاب الجميع.
هذه رواية تتخللك بطريقة غريبة، حتى إنك ستشعر بالقذارة وهي تُغرِق العالم من حولك كما هي بالضبط من حول الأبطال. ستشم الروائح النتنة وترى الجثث المتفسخة أينما نظرت، رغم بياض العمي الحليبي الذي يُغلِّف المشاهد. ستنتفض روحك من الفرحة عند سقوط الأمطار التي تغسل الملابس القذرة والأجساد المنتهكة والمدينة التي غرقت بأكملها في القذارة وفضلات اللاإنسانية. ستشعر كما لو كنت أنت من تغتسل وتعود إليك الحياة الآدمية رويدًا كما فقدتها أثناء القراءة.
عالم أعمى
نعم لم يكن الكابوس في أن تستيقظ لتجد نفسك أعمى، بل حين تجد كل منْ حولك وقد أصيبوا بالعمى. لا أحد قادر على الرؤية، على المساعدة، على إرشادك ولو لعدة خطوات قادمة.
قامت الحكومة بحجر المصابين الأوائل بالعمى، باعتبارهم مصدر الوباء الذي باتوا يخشون تفشيه، تعاملوا معهم بمنتهى القسوة والعنف. ظن المحجورون في البداية أنهم في هذا السجن غير الآدمي الذي تعرَّضوا فيه للابتزاز المادي والجسدي من أجل نيل الطعام، ظنوه أسوأ ما قد يحدث لهم، لقد فقدوا آدميتهم من أجل كسرة خبز، وحين اندلع حريق كبير في المحجر أو السجن الذي أقاموا فيه لمدة لم يتمكنوا جيدًا من إحصائها، ظنوا أنهم قد نالوا حريتهم أو أنهم قد تخلصوا جزئيًّا من هذا الكابوس، والذي –للأسف- لم يكن قد بدأ بعد.
لم يظهر الكابوس على حقيقته إلا بعدما عادوا إلى مدينتهم التي أصيب كل منْ فيها بالعمى. لم تعد هناك حكومة ولا مسئولون ولا أي كيان أو رمز للدولة التي كانت. انقطعت المياه والكهرباء عن المدينة بأكملها. خرج الناس الذين حوَّلتهم الحاجة إلى حيوانات أو كلاب صيد للبحث عمَّا يسد الجوع.
حاجتان أساسيتان ومُلحتان لم يتمكن البشر من الاستغناء عنهما: البحث عن الطعام، والبحث عن طريقة للتخلص من فضلات هذا الطعام التي تتكوم في أمعائهم. تحول الجميع فجأة إلى حيوانات تأكل وتنام وتقضي حاجتها في نفس المكان. تلاشت الآدمية تدريجيًّا حتى أصبحت القذارة والأوساخ المتكومة على الملابس أو الجسد نفسه جزءًا لا يتجزأ منهم.
عودة إلى الوراء
وكأن الكاتب يصف أنها مجرد شعرة بسيطة تفصل الإنسان عن الحيوان، وكأن جميع البشر قابلين للتحول إلى حيوانات تقتل وتنهش مقابل اللقمة، تتعرى وتقضي حاجتها وتبحث عمَّا يرضي غرائزها وتمارسه علنًا دون أي شعور بالخزي أو الامتهان، وكأنهم حيوانات حقيقية.
كابوس بشع أن تتخيل نفسك في مكان أحدهم، تخرج في هذا العالم الأبيض ثم لا تتمكن من العودة إلى بيتك، تضل الشوارع والبيوت، تأوي كأي كلب ضال أو قط شارع إلى أي فتحة في جدار لتحتمي فيها من مطر أو عاصفة، أو حتى لتنال قسطًا من النوم، قبل أن تبدأ يومك الجديد للبحث مُجددًا عمَّا يسد نوبة الجوع التالية.
هل من السهل أن نعود إلى الوراء؟ إلى إنسان الغابة الذي ينهش اللحم النيء دون أن يتقزَّز أو يتقيأ ما في جوفه؟
نظرية داروين التي تؤمن بتطور الجنس البشري من فصيلة القرود وكأنها تظهر من جديد، ولكن بطريقة معكوسة، فهي تعيد السلسلة بالعكس ليرجع الإنسان إلى أصوله الحيوانية التي انحدر منها، لو اعتقدنا في صدق النظرية.
الإنسان المقدس
لـ «مارتن لوثر كينج» مقولة شهيرة:
حاول الكاتب أن يتساءل إلى أي مدى قد يكون الإنسان مُقدسًا ولو في عين نفسه على الأقل؟ ما الذي قد يحدث لو اضطررنا إلى التخلي فجأة عن كرامتنا؟ إلى أي حد من الممكن أن نتمسك بإنسانيتنا؟ وكم من الوقت قد نقاوم في عالم فقد كل صفاته الإنسانية بالغصب؟
وضَّح الكاتب هذا الأمر في صورة المعتدين الذين استغلوا قوتهم البدنية وحوزتهم للسلاح من أجل السيطرة على الباقين وابتزازهم بكل الطرق، عملًا بقانون الغابة، دون النظر إلى أي اعتبارات إنسانية أو بشرية.
الحل أتى من السماء… السماء حين رضيت أو غضبت لكل تلك القذارة التي ملأت الشوارع والبيوت، قررت أن تفيض عن آخرها بالمياه التي انهمرت فوق الجميع. تعرَّى العديد، باحثين عن سبيل للنظافة التي نسوها تمامًا، فجأة أدركوا نعمة الصابون والاستحمام ورائحة النظافة التي جهلوها لوقت طويل.
كان المطر هو البشارة… هو الاغتسال من كل الذنوب التي ارتكبت باسم الحياة. يطرح الكاتب في روايته العديد من أسئلته الفلسفية باحثًا عن حقيقة الحياة وحقيقة الإنسان ككل.
اغتسل الجميع في طقس احتفالي، بعدما تعرَّوا كيوم ولدتهم أمهاتهم، وكأن الخلق في حالة تطهر من كل ما تم ارتكابه من ذنوب على تلك الأرض.
ثم عاد إليهم بصرهم وسطعت شمسهم على الحياة من جديد. لا ندري هل كان الله يُعاقِبهم، أو أراد أن يكافئ من استطاع منهم أن يقاوم أكثر، مُبديًا تمسكه ببعض المبادئ والرغبة الحقيقية في الحياة.