فيلم «Black Widow»: محاولات مارفل المبتورة للتغيير
يبدأ فيلم الأرملة السوداء black widow، آخر إضافات مارفل المتشعبة لعالمها السينمائي بمشهد استرجاعي لطفولة البطلة المحبوبة ناتاشا رومانوف، والتي تلعب دورها سكارلت جوهانسون، نرى كيف تم تجنيدها عنوة هي وأخت لها نراها للمرة الأولى، تملك أبًا وأمًا يبدو أنهما محبان حتى يقررا التخلص من الفتاتين، بعد الافتتاحية تبدأ نسخة أبطأ من أغنية smells like teen spirit للفريق الشهير نيرفانا بكل عنفوانها وارتباطها بالتمرد المراهق على خلفية من الصور الأرشيفية لعمليات ممنهجة لتدجين وتجنيد الفتيات الصغيرات، ساعات من التمرينات الشاقة والنشاطات الأشبه بالتنويم المغناطيسي، فتيات يجلسن أمام شاشات يستهلكن محتوى بصريًّا مستمرًّا أو يتعلمن الباليه.
تشي الافتتاحية بفيلم يُعنى بدراسة استلاب أهلية النساء والسيطرة عليهن للمصلحة الخاصة، وطبيعة التجنيد الإجباري وصناعة الجواسيس والمحاربين، فيلم عن الهوية الحقيقية وطبيعة الخير والشر والحياة العائلية، موضوعات متعددة أعقد من أن تحتل مساحة فيلم حركة واحد مدته ساعتان وربع الساعة، لذلك يتم المرور عليها واحدة تلو الأخرى دون التعمق في أي منها وتغرق التيمات الواعدة في بحر من مشاهد الحركة الباهرة والصاخبة، تترك مساحة صغيرة للشعور والتعاطف، لكن عندما يحدث ذلك لدقائق يتألق الفيلم ويكتسب عمقًا مختلفًا.
العائلات البديلة
يحكي الأرملة السوداء قصتين بالتوازي، إحداهما هي أحداث مرت بالفعل وعلم متابعو العالم السينمائي كيف تنتهي، لكنها تدلف إلى تفاصيل داخلية للشخصيات المختلفة وحياتهم خارج السردية الكبرى للسلسلة، تحاول ناتاشا الوصول إلى العقل المدبر الذي جندها هي وأخريات منهن أختها؛ لكي تتخلص منه بعدما فشلت محاولتها الأولى في تدميره، هي الآن هاربة من العدالة الأمريكية وتصارع في أكثر من معركة، منها معركة ذاتية، فهي تحاول التصالح مع جرائمها السابقة وإيجاد هويتها الحقيقية بعدما تملصت من دورها كقاتلة مدربة، واختارت فريق المنتقمين Avengers، أي اختارت الخير.
تتقابل ناتاشا مع أختها المفقودة يلينا (فلورنس بيو)، والتي تقدم شخصية جديدة لافتة وممتعة، فتاة أخرى مجندة تحاول إيجاد طريقها خارج السيطرة العسكرية على عقلها وجسدها وفي الرحلة تستكشف كل منهما مشاعر صداقة وأخوة حقيقية .
يستكشف الفيلم طبيعة العائلة وما يجعلها كذلك، كل مجند أو قاتل مدرب هو وحيد بالضرورة، فاقد لإنسانيته ويمضي أيامه أشبه بآلة تنفذ ما تؤمر به، لكن عندما تنفك ناتاشا من تلك الدائرة تجد مفهوم العائلة في صورة الصداقة التي يمثلها فريق المنتقمين الذين، بجانب وقوفهم مع الحق والخير، تعني العلاقات الإنسانية لهم الكثير وتُبنَى نجاحاتهم على التواصل والعناية المشتركة والاهتمام الصادق؛ لذلك عندما تنشب بينهم الخلافات يبدأ العالم بالتفسخ معهم.
بخلاف تلك العائلة البديلة فإن ناتاشا لا تعرف من هما والداها الحقيقيان، يتضح في الفيلم الأخير أن المجندات يتم إيواؤهن أو اختطافهن ووضعهن مع عائلات مختلقة، حياة اجتماعية وطفولية مصنعة بالكامل، إجازات وأعياد وصور فوتوغرافية مع أناس لا تجمعهم صلة دم، بل هم مجرد أدوات للوصول لهدف ينضح بالشر.
في اللحظات الهادئة القليلة في الفيلم تتجمع تلك العائلة المزيفة أو البديلة، ناتاشا ويلينا ووالدتهما ميلينا (ريتشل فايز) وأبوهما أليكسي (ديفد هاربور) الذي يتضح أنه جندي خارق معدل جينيًّا، تشعر الفتاتان رغم الكذبة الكبيرة أن طفولتهما وذكرياتهما هي الحقيقة الوحيدة التي اختبراها قبل أن تسلب إرادتهما بالكامل وتفقدان أي معنى للتواصل الإنساني.
يحاول الأب البديل أليكسي إصلاح الوضع العائلي ويتواجد في الفيلم لأهداف التخفيف الكوميدي، فهو يحاول أن يكون ذلك الأب الأخرق الكارتوني الذي يستعيد علاقته بفتياته بعدما كبرن وتغيرت حياتهن، أما الأم فتتمسك بالخطط الشريرة الكبرى وتتبع الرجل المسيطر، بل تسلم ابنتيها المزيفتين، قبل أن يوضح الفيلم بسذاجة أن ذلك كله خطة متفق عليها عائليًّا، وأن الأم تغيرت ولان قلبها بعد حديث من القلب مع ناتاشا، يحل الفيلم معضلة التفسخ العائلي بسهولة ساذجة وبحلول سطحية تحدث في دقائق، وبعدما أمضى أكثر من نصف وقته يجمع الأختين لكي يصنع رابطًا يمكن التأثر به فإنه يصنع رابطًا مدعى غير مؤثر مع الأم التي لا تملك الوقت أو الدوافع الحقيقية للتغير.
الأرملة السوداء والنظام الأبوي
يتمحور الصراع الذي يغذي الحركة في الأرملة السوداء حول فرضية نسوية بشكل رئيسي، فالشرير الرئيسي هنا دريكوف (راي وينستون) هو رجل جشع كبير السن يملك سلطة مطلقة، يختطف الفتيات من طفولتهن ويسلب أهليتهن بالكامل، يتحكم في عقولهن وإرادتهن وحتى أجسادهن، تتعرض الفتيات المجندات لعمليات لاستئصال الرحم، ينزع عنهن خيار الإنجاب ويتم نزع كل ما يميزهن بعضهن عن بعض، يرتدين زيًّا موحدًا، ويملكن تعبيرًا واحدًا على وجوههن، لا مشاعر ولا رغبات غير طاعة الرجل المسيطر، يمكن قراءة تلك الحبكة كتعليق على صناعة النجمات في مجال الترفيه، يمكن بسهولة تخيل دريكوف منتجًا شرهًا يملي شروطه ويستخدم سلطته المادية والذكورية.
تبدو تلك فرضية عميقة ومثيرة للاهتمام بالنسبة لفيلم صيفي عن الأبطال الخارقين، لذلك ينأى الفيلم بنفسه عن التعمق فيها واستغلال إمكاناتها بعد أن طرحها بالفعل، ويكتفي باعتبارها محركًا من محركات عدة لأحداث غامرة بالحركات القتالية والمطاردات المطولة، يحتفظ الأرملة السوداء بتركيبة ثابتة ومألوفة في ذلك النوع من الأفلام، ويتجنب فرصًا حقيقية كانت من الممكن أن تضعه في مستوى آخر دون أن يفقد قيمته التسويقية أو الترفيهية.
يتم ذلك الصراع الجندري في حوالي ربع ساعة من الفيلم، فيها تكتشف ناتاشا مدى سيطرة دريكوف عليها وتحرر بقية الأرامل المجندات اللواتي يحتجزهن تحت سيطرته الكاملة، تستخدم ناتاشا ترياقًا يرجع لهن إرادتهن من جديد بمساعدة عائلتها التي تم لم شملها للتو، تقع كل تلك الأحداث في نبضات متسارعة، وكلما لاحت في الأفق فرصة لاستكشاف فكرة ما أو حدوث نقاش تنشأ من العدم ذريعة للدخول في مطاردة ما أو قتال منسق ببراعة، يلقي الفيلم بإمكانية أن يصبح أكثر سينمائية أو مغامرة، ويكتفي بأن يصبح قطعة إضافية في أحجية ضخمة.
محاولات لإضفاء جماليات سينمائية
مخرجة الفيلم هي الأسترالية كيت شورتلاند، اسم غير معتاد في عالم الأفلام الضخمة، صنعت ثلاثة أفلام فقط قبل الأرملة السوداء، يمكن وصف أعمالها السابقة بالفنية، تملك على الرغم من مسيرتها القصيرة أسلوبية واضحة، تركيبة ألوان مطفأة باردة وميل لاستكشاف دواخل شخصيات نسائية، يتمثل ذلك في أشهر أفلامها lore، تراقب شورتلاند بطلاتها بدقة بشكل حرفي باستخدام اللقطات المقربة، تراقب البيئة المحيطة بهن، أشياءهن الصغيرة، إيماءاتهن المتكررة، كيف يتحركن، ماذا يرتدين، لذلك تبدو شورتلاند خيارًا مثاليًّا لتناول فيلم يتحدث عن فتاة تحاول إيجاد ذاتها والتحرر من النظام الأبوي، لكن النظام السينمائي الهوليودي يبتلع شورتلاند نفسها.
قوبلت تصريحات المخرج الشهير مارتن سكورسيزي عن أفلام مارفل في الفترة الماضية بسيل من الآراء الإيجابية والسلبية، اتهمه الكثيرون بالتعالي والغطرسة والانغماس في الماضي، عندما صرح أن تلك الأفلام ليست سينمائية بالنسبة له بل أشبه بمدن الملاهي، لكن عندما بدأ في شرح وجهة نظره أظهر وجاهة حقيقية ورأيًا يمكن الاعتداد به، يرى سكورسيزي أن واحدة من مميزات الفنون والسينما خصوصًا هي الذاتية أو الفردانية، وتصوير شعور أو تجربة حقيقية غير معدة سلفًا لإرضاء شريحة معينة من الجمهور، مشاعر حقيقية وليست مجموعة من المشاهد المحسوبة للتلاعب بردود أفعال محفوظة.
تملك الأفلام المبنية على القصص المصورة جمهورًا عملاقًا، تمثل مساحات ضخمة للإبهار البصري وإغراق الحواس في تجربة منفصلة عن العالم الحقيقي لعدة ساعات، شبكة دقيقة من القصص والشخصيات التي تتماس وتتقابل فتصنع من متابعيها أصحاب هواية مستمرة في متابعة تلك التطورات، مما يشجع الاستوديوهات المنتجة على استغلال ذلك العطش الجماهيري بإنتاج أفلام أكثر ومسلسلات تتفاوت جودتها الفنية، لكنها تجتمع على سهولة البيع والكسب السريع، في السنوات الأخيرة حاول الاستوديو إدراج أسماء مخرجين ذوي سمعة فنية لإضفاء صبغة سينمائية على الأفلام، كيت شورتلاند هي إحدى تلك التجارب، لكنها لم تأخذ فرصتها الكاملة في تحويل الصيغة الجاهزة لتجربة أكثر حميمية، بل يبدو أنها فعلت كل ما تستطيع في إطار المسموح به والمضمون نجاحه، فلا مجال للمغامرة حين يتعلق الأمر بتجارة ببلايين الدولارات.
يمكن التقاط أسلوبية شورتلاند في مشاهد قليلة في الفيلم، مشاهد توجد لأهداف جمالية وليس لخدمة مشهد قتال آخر، نادرًا ما يمكن وصف أفلام عالم مارفل بالجميلة، لا يوجد وقت لذلك في أفلام دائمة الحركة.
تكسر شورتلاند ذلك في العديد من المشاهد قبل أن تغمرها الحركة والمؤثرات البصرية، يتكرر العديد من الإطارات التي تحوي مرايا وانعكاسات، ترى ناتاشا (سكارلت جوهانسون) في أول ظهور لها بالفيلم من خلال مرآة، وعندما تتقابل مع أختها يتكرر ذلك، نرى إحداهن مواجهة للكاميرا والأخرى خلفها في مرآة تعكس مدى تقارب تجربتهن، بل تجربة كل الفتيات اللاتي تعرضن للتعذيب نفسه والحياة الزائفة نفسها، تظهر رمزية وأهمية ذلك في شخصية مقاتل مجهول تواجهه ناتاشا، تم برمجته لعكس أسلوب وحركات كل من يواجهه، ويتم وصفه في الفيلم بجملة «كـأنك تقاتل مرآة»، حتى يتضح أن ذلك المقاتل هو في الواقع إحدى الفتيات اللائي مررن بنفس التجربة، لكن دريكوف يملك سلطة أكبر عليها من أي فتاة أخرى.
تظهر شخصية شورتلاند أيضًا في طريقة تناول المظهر الخارجي لبطلاتها، عادة ما تكون البطلات الخارقات في هيئة غير فردية أو ذاتية، تظهر البطلة في زي مرتب وثابت وشعر خرج من صالون التجميل للتو، هنا تبدو ناتاشا أكثر طبيعية، تملك أقراطًا متعددة وتتطاير ضفائرها بشكل طبيعي، كذلك يلينا التي تستعيد أهليتها عن طريق شراء قطعة ملابس لنفسها للمرة الأولى، وتطلي أظافرها بلون مميز وترتدي الخواتم والأقراط، تجعل تلك الخيارات الشخصيات أكثر حقيقية وواقعية، فهن لسن قاتلات مدربات بعد الآن أو جزءًا من جيش لا نهائي من الفتيات المتطابقات، بل لهن هوية متفردة وخيارات مختلفة.
لكن تبدو تلك الإضافات التي تحاول بها شورتلاند الظهور والتعبير عن نفسها ضئيلة بالمقارنة بحجم الفيلم، أو بمدة مشاهد القتال والحركة المستمرة، يجد الاستوديو صعوبة في تقبل أن يصبح الفيلم أصغر أو أكثر قربًا وحميمية، يحارب ذلك الصغر بضخامة مستمرة ساحبة للأنفاس تغرق التفاصيل الصغيرة وتتفه من وجودها، وكأنه يخشى أن ينأى جمهوره عنه إذا لم يزوده بما يتوقعه على مستوى الصوت والصورة، يمكن لمس السعي إلى التغيير في اختيار كيت شورتلاند التي اشتهرت بأفلام ذات قياس صغير بالمقارنة بأفلام مارفل، لكن تم امتصاص أسلوبها داخل شبكة عملاقة من الموتيفات المحفوظة والتكرار المضمون، الأرملة السوداء إضافة أخرى لعالم مارفل السينمائي يملك ما يجعله ممتعًا وجاذبًا ويضيف إليه عناصر جمالية جديدة في محاولة للتغيير، لكنها محاولة مبتورة غير مكتملة.