السياحة السوداء: متعة التفتيش عن مآسي الماضي
ثمة من لا يبحث عن أماكن جميلة لزيارتها، لا عن شاطئ أو جبل أو متحف. هو يبحث فقط عن أماكن الموت والدمار، حيث البقاع المخيفة والمظلمة والخطرة.
«سياحةٌ سوداء»، وفي قول آخر «مظلمة»، مجالٌ جرى استكشافه مؤخرًا في سلسلة جديدة لشبكة «نتفليكس»التي تأخذ المشاهدين إلى مناطق البؤس والمآسي. ومصطلحٌ ابتكره الباحثان في مجال السياحة «جون لينون» و«مالكولم فولي» في عام 1996، يُرمز به إلى المواقع المرتبطة بالموت والعنف، بما في ذلك القتل والإبادة الجماعية ومواقع الكوارث الطبيعية والحروب.
بلغ عدد مواقع السياحة المظلمة نحو 700 موقع في 90 دولة حول العالم، وبالرغم من عدم وجود بيانات دقيقة حول أعداد الأشخاص الذين يميلون للسفر إلى تلك المواقع. فإن هناك دلائل تشير إلى أنها أصبحت أكثر شعبية على مدى العشرين عامًا الماضية. فبمثال بسيط،حقَّق البحث عن السياحة المظلمة على محرك البحث جوجل ما يقرب من أربعة ملايين زيارة من عام 1996 إلى 2016، وهو ما يعني زيادة أعداد المهتمين بالتعرف على تلك السياحة.
كيف بدأت السياحة السوداء؟
لم تبدأ جولات السياحة السوداء بظهور المصطلح لأول مرة في عام 1996، بل سبقته بأكثر من قرن من الزمان. وهو ما أشار إليه دكتور «ستون إن»، الذي أكد أن مفهوم السياحة السوداء لم يكن جديدًا، وأن الناس ظلت عبر التاريخ تسافر إلى مواقع الموت والكوارث.
ففي منتصف القرن التاسع عشر، نظم «توماس كوك» رحلات للمسافرين البريطانيين إلى ساحات المعارك في الحرب الأهلية الأمريكية. وبعد بضع سنوات، إبان حرب القرم التي وقعت بين الإمبراطورية الروسية والدولة العثمانية عام 1853، زار السياح بقيادة «مارك توين» مدينة «سيباستوبول» المحطمة وتجولوا في كل أنحاء المدينة حتى إنهم اقتنوا بعض الشظايا التذكارية التي وجدوها أثناء سيرهم في شوارعها. بينما تدفق السياح في أمريكا بأعداد مهولة لزيارة حقول جتيسبيرج في عام 1863، ورؤية أطلال ما خلفته أحد أعنف المعارك في الحرب الأهلية الأمريكية.
وفي العصر الفيكتوري، قام السياح بجولة في مشرحة في مدينة باريس على إثر جريمة قتل شغلت الرأي العام آنذاك. ففي أغسطس/آب من عام 1886، عُثر على فتاة فرنسية تبلغ من العمر أربع سنوات مقتولة وفي يدها كدمة غامضة، كان الجميع يريد أن يفهم ما الذي حدث لتلك الفتاةـ، حتى أنه لم يمضِ أيام على نشر الصحف لتلك الحادثة، إلا وامتلأت المشرحة بحشد امتد من أمام المشرحة إلى طول الشارع الموجودة فيه. حتى وصل عدد الزوار لهذه المشرحة في ذلك اليوم 150 ألف شخص. لم ينتهِ الأمر بانتهاء القضية،بل ظلت المشرحة تستقبل أعدادًا مهولة من الزوار. وباتت تلك المشرحة واحدة من مناطق الجذب السياحي الأكثر شعبية في المدينة إلى الآن.
أشهر مواقع السياحة السوداء حول العالم
شهد القرن العشرين رواجًا كبيرًا لتلك السياحة، وبات الناس يأتون من كل حدب وصوب لزيارة مناطق الخراب والدمار. بين وجهات سياحية سوداء منظمة ومواقع أخرى أقل رسمية، لعل أشهر تلك المواقع:
1. حقول القتل في كمبوديا
بين عامي 1963 و1998، قُتل ما يقرب من 21% من سكان كمبوديا بوحشية شديدة على يد حاكمها «الماوي الخمير»، الذي وضع العلماء والمعلمين والأطباء وغيرهم من المثقفين على رأس القائمة السوداء.
حتى إن مسلحي جماعة «الخمير الحمر» حوَّلوا مبنى المدرسة الثانوية في تول سلينغ، إلى مركز للاستجواب وسجن سري عرف بالرمز «إس-21». تلك المدرسة سابقًا تحولت إلى متحف ضمن 300 موقع في كمبوديا،وقعت فيهم عمليات القتل الجماعي التي سقط فيها نحو 1.7 مليون شخص. وصُوِّرت معاناتهم في ذلك المعتقل، حتى جُمعت تلك الصور الأليمة في أرشيف خاص داخل المتحف.
2. مفاعل تشيرنوبيل في أوكرانيا
في 26 أبريل/نيسان 1986، على بعد 100 كيلومتر فقط من مدينة كييف، انفجر المفاعل رقم 4 في تشيرنوبيل، وفقد آلاف الموظفين في محطة الطاقة النووية حياتهم. لم يكن لدى سكان مقاطعة بريبيات البالغ عددهم 43 ألف نسمة والقاطنين على بعد ثلاثة كيلومترات فقط من تشيرنوبيل أي خلفية عن وقوع تلك الكارثة.
فكانت الحياة تسير على نحو طبيعي بينما هم يتعرضون إلى الإشعاع بمعدل يفوق المعتاد بـ ـ600 ألف مرة، إلى أن أُبلغوا في اليوم التالي بضرورة مغادرة المدينة خلال ساعتين فقط. ومنذ ذلك الحين، ومدينة بريبيات باتت مدينة أشباح غير صالحة للسكن. وبالرغم من ذلك، فإن منظمي رحلات السياحة السوداء جعلوا من تلك المدينة وجهة رئيسية، ينظمون إليها الجولات، وفي حوزتهم جهاز لقياس النشاط الإشعاعي في المكان لحماية السائح من التعرض لكمية كبيرة من الإشعاع أثناء الرحلة.
3. معسكرات أوشفيتز في بولندا (الهولوكوست)
تمثل أوشفيتز أكبر معسكرات الاعتقال في بولندا، وهي أحد معسكرات الاعتقال النازية خلال الحرب العالمية الثانية، وفيها قُتل نحو مليون ونصف المليون شخص، من بينهم بولنديون وغجر وأسرى الحرب السوفييت والتشيك والبيلاروسيون، لكن اليهود شكَّلوا الغالبية العظمى منهم. إذ قُتل في تلك المعسكرات حوالي مليون يهودي. وصار ذلك المعسكر بعد الحرب العالمية الثانية رمزًا لضحايا الهولوكوست.
وفي عام 1974،أنشأت بولندا مُتحفًا في ذلك المعسكر، تتكدس في غرفِه وثكناته آلاف النظارات والأحذية وعينات من الشعر تعود لأولئك الضحايا. وظل السياح يتدفقون على ذلك المتحف منذ إنشائه، حتى بات واحدًا من أكثر وجهات السياحة المظلمة زيارة في العالم. إذ يُقدر أعداد زوراه كل عام بأكثر من 250 ألف زائر.
4. مفاعل فوكوشيما في اليابان
شهدت اليابان في 11 مارس/آذار 2011 زلزالًا مروعًا على ساحلها، ذلك الزلزال «تسونامي» تسبب في موت نحو 18 ألف شخص، ونتج عنه تعطل في إمدادات الطاقة والتبريد في مفاعل فوكوشيما. مما أدى إلى حدوث انهيار النووي، اضطر على إثره 170 ألف شخص إلى إخلاء المدينة.
وباتت مدينة نامي التي تبعد ثمانية كيلومترات عن مكان الواقعة مزارًا للسياح، يُنظم إليها الجولات بصحبة المرشدين بعد أن تحولت إلى مدينة أشباح مهجورة منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا مثلها مثل مدينة بريبيات الأوكرانية.
5. غوانتانامو في كوبا
لجأ الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش في عام 2001 لبناء قاعدة غوانتانامو العسكرية في كوبا، كمعتقل لقيادات أعضاء تنظيم القاعدة أثناء ادعائه الحرب على الإرهاب في أفغانستان، بغية تفكيك التنظيم وحركة طالبان. سُجن في ذلك المعتقل منذ افتتاحه نحو 800 سجين، وبالرغم من ذلك فإن 90% من هؤلاء لم يكونوا من مقاتلي القاعدة.
وفي حين أعلن باراك أوباما أثناء فترة ولايته نيته إغلاق المعسكر. لكنه ظل مفتوحًا، حتى إنه مع بداية عام 2017، كان هناك 41 سجينًا لا يزال قابعًا هناك.
وقد أصبح ذلك المعتقل مزارًا للسياح، إذ بإمكانهم زيارة كوبا عبر الدخول إلى بلدة كايمانيرا الحدودية، والواقعة في شمال القاعدة، والتي تبلغ مساحتها 118 كيلومترًا مربعًا. إذ يوجد بها متحف صغير، بإمكان من يزوره أن يرى الصور الجوية للمخيم وخريطة توضح الأبعاد الضخمة للقاعدة.
6. برجا مركز التجارة العالمي
في 11 سبتمبر/أيلول 2001، اصطدمت طائرتان – في عملية انتحارية – ببرجي مركز التجارة العالمي في نيويورك،مما أسفر عن انهيار ناطحتي السحاب ومقتل أكثر من 2600 شخص، إضافة إلى من كانوا على متن الطائرتين.
وبعد مرور عشر سنوات على ذكرى هجمات 11 سبتمبر/أيلول، افتتحت أمريكا في عام 2011 نصبًا تذكاريًّا ومتحفًا وصفه الكثيرون بمتحف الألم الحي. يتكون المعلم الجديد من حديقة وحوض النصب التذكاري في نيويورك ومتحف 11 سبتمبر،بلغت تكلفة إنشائه أكثر من 700 مليون دولار، وهو ما يجعله من أكثر المعالم كلفة على مستوى العالم، ومزارًا سياحيًّا ضخمًا يتوافد عليه الآلاف من الزوار كل عام.
لماذا يحب الناس زيارة مواقع الموت؟
تعددت الأسباب والنتيجة واحدة، والحكم على مُدمني زيارة أماكن الموت والدمار من زاوية واحدة قد يكون مُجحفًا. فالبعض يبحث عن الإثارة فقط، هم يريدون أن يشعروا بما شعر به غيرهم، ذلك الشعور يشبع فضول التجربة لديهم. فالأمر أشبه بمشاهدة فيلم رعب، لكن الفارق أنهم يكونون في مكان الحدث. فلم يعد قضاء عطلتهم على الشواطئ مُرضيًا بالنسبة لهم، فباتوا يبحثون عن تجارب جديدة فيها قدر كبير من الشغف والمتعة.
وقد يكون الدافع لدى البعض، هو تعميق الشعور بالرضا؛ لأن الفظائع حدثت للآخرين ولم تحدث لهم. وأنهم بزيارتهم لتلك المواقع، فهموا حقيقة ما حدث في ذلك المكان. الأمر الذي قد يجعلهم يخرجون من تلك الزيارة بحماسة يملؤها رغبة في إحداث شيء معين. فبينما يشعر الكثير منهم بالتعاطف مع أولئك الذين عانوا في ذلك المكان من قبل، يأمل البعض الآخر في أن يتصالحوا مع أخطاء الماضي ويتعلموا ما يكفي لتجنب تكرارها. لكن ما هو شاذ حقًّا، أن هناك من يزور تلك الأماكن لأنه يتغذى على الكراهية ويتلذذ بمعاناة الآخرين ويجد في زيارة تلك الأماكن إشباعًا لرغبته في التشفي.
وأحيانًا يلعب الارتباط الثقافي بين الزائر والمكان دورًا كبيرًا في تحريك ذلك الدافع، فعلى سبيل المثال، قد يقوم المنحدرون من أصل أفريقي بجولة في قلاع العبيد في غانا، أو قد يقوم الأطفال أو أحفاد الجنود بزيارة مواقع الحرب التي حارب وقُتل فيها آباؤهم وأجدادهم. ويميل إلى زيارة ساحات الحروب من شارك ونجا في تلك الحروب أو أقاربهم.
بينما ينجذب البعض إلى المواقع المظلمة والأكثر قتامة عن غيرها، إذ يشعرون فيها بقدر من الطمأنينة والهدوء، ويجدون في مواقع الموت والدمار ما يبحثون عنه. في حين يحبها البعض ويزورونها لأنهم يُحمِّلون أنفسهم مسئولية الحفاظ على التاريخ وحمايته للأجيال القادمة.
وبغض النظر عن الدوافع، فإن ذلك النوع من السياحة واجه انتقادات عدة، واعتبره الكثير سياحة غير أخلاقية. إذ رأى بعض العلماء أن تلك السياحة بمثابة تسويق للموت، فبينما مات وعانى الآلاف بل الملايين في تلك الأماكن، هناك من ينظم الرحلات ويتربح من ورائها. وبينما بكى في الماضي الملايين من المضطهدين والمعذبين، هناك من يذهب للتسلية والمتعة والتقاط صور «السيلفي» مع أطلال ما تبقى من ذلك المكان.