متغير «البجعة السوداء» في مستقبل العلاقات الأمريكية الإسرائيلية
إعداد: أ. د. وليد عبد الحي (خبير في الدراسات المستقبلية والاستشرافية)
يمثل مفهوم «البجعة السوداء» Black Swan أحد تقنيات الدراسات المستقبلية، وينطوي على دلالات مصطلح المتغير نفسها، «قليل الاحتمال عظيم التأثير» Low Probability-High Impact، أو مصطلح «البطاقة الجامحة» wild card، أو مصطلح «نقطة التحول» Tipping Point، ويقصد بكل هذه المصطلحات معنى محدداً وهو ذلك التطور غير المتوقع أو المستبعد من الإدراك لكن حدوثه يقود إلى تغيرات جذرية في المشهد موضوع الدراسة، ويتم دمج هذا المتغير من خلال «افتراض حدوثه» ثم دراسة التداعيات المترتبة عليه، لكي يكون صانع القرار قد أعد عدته للمواجهة في حالة وقوع هذا المتغير.
وكثيراً ما شكَّل هذا المتغير تحولات جذرية تترتب عليها تداعيات يصعب التنبؤ بها، وهو ما دفع باحثي الدراسات المستقبلية إلى توظيف منهجية «دولاب المستقبل» Futures Wheel استناداً لقاعدة: إذاً–فإن If–Then، ومن هنا فإن عامل «البجعة السوداء» أو التغير المفاجئ وغير المتوقع يمكن تخيله مسبقاً ودراسة تداعياته استعداداً للتكيف لتحديد ميكانيزمات التكيف معه قبل حدوثه، فكما قال هيلموت فون مولتكه، القائد العسكري البروسي الشهير: «كنت أتوقع أن يأتيني العدو من إحدى الجهات الأربع، لكنه كثيراً ما جاء من الجهة الخامسة»، أي غير المتوقعة.
فعلى سبيل المثال؛ شكَّلت زيارة الرئيس المصري الأسبق أنور السادات سنة 1977 تحولاً جذرياً في البنية الجيو–سياسية والجيو–استراتيجية في الشرق الأوسط، على الرغم من أنها لم تكن متوقعة خصوصاً في أعقاب إحراز القوات العربية نصراً عسكرياً نسبياً على «إسرائيل» سنة 1973، أي قبل الزيارة بفترة قصيرة، كما لم يكن أغلب قادة الدول الاشتراكية يتوقعون أن وصول ميخائيل غورباتشوف إلى السلطة في الاتحاد السوفييتي سنة 1985 سيقود إلى كل ما شهدناه من تداعيات سياسية واقتصادية وعسكرية وثقافية في العالم، ولم تكن النخب الفكرية تتخيل أن موت ماوتسي تونغ سنة 1976 سيقود الصين لتقفز من المرتبة 36 عالمياً إلى المرتبة المتقدمة جداً التي تحتلها الآن… إلخ.
من جانب آخر، فإن مراكز الدراسات الأمريكية تتعامل مع هذا المتغير (البجعة السوداء) منذ فترة وخصوصاً في الشرق الأوسط، ففي فترة باراك أوباما جرى طرح دراسة حول البجعة السوداء في السياسة الأمريكية، وتحدد في سياق هذه الدراسة نماذج للبجعة السوداء مثل احتمال قيام ثورة في السعودية، أو انهيار اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، أو انهيار السلطة الفلسطينية وتفككها، مع رصد مقدمات مثل هذه الاحتمالات وكيفية مواجهتها. كما أن مراكز الدراسات الإسرائيلية بحثت بعمق في موضوع البجعة السوداء واحتمالاتها في الشرق الأوسط، وشكَّل امتلاك إيران البجعة السوداء الأكثر عناية من قبل الدراسات الإسرائيلية، ودراسة انعكاساتها على الشرق الأوسط، والعلاقات الإسرائيلية الدولية.
فرضية البحث
استناداً إلى قاعدة «إذاً-فإن»، سنضع الفرضية التالية: إذا تخلَّت الولايات المتحدة مستقبلاً عن مساندة «إسرائيل» بسبب تحولات جوهرية في العلاقات الدولية، فإن «إسرائيل» ستواجه أكبر أزمة في تاريخها المعاصر، والتي قد تترتب عليها تداعيات لا حصر لها.
ولا تنطلق فرضيتنا هذه من فراغ، بل هناك بذور لم تتجاوز باطن الأرض إلى قشرتها، وهو ما يستوجب وضع الفرضية «البجعة السوداء» كشق أول من المعادلة موضع التفكير، لا سيما أن وقوعها سيحمل تحولات في غاية الأهمية، وعظمة التأثير وهو الشق الثاني من المعادلة في هذه التقنية.
مؤشرات أولية لفرضية البجعة السوداء
1. يرى دومينيك مويسي، المستشار الجيو–سياسي في معهد مونتين الفرنسي أن «إسرائيل» في الواقع، تستعد تدريجياً للحقبة الصينية، وهي الدولة التي تعتبر الأكثر اهتماماً بالمنطقة، ولديها أكبر قدر من الإمكانات، ولها تأثير متزايد في الشرق الأوسط، خاصة فيما يتعلق بالطاقة.
2. يعتقد مارتن إنديك، الذي كان سفيراً لواشنطن في «إسرائيل» ومبعوثاً في المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، أن العلاقات الأمريكية الإسرائيلية قد تتضرر إذا استمر تنامي اليمين غير الليبرالي في «إسرائيل» وفي حالة استمرار الاستيطان، ويتناغم مع ذلك ما أشارت له مجلة التايم بخصوص تزايد تدريجي في داخل الحزب الديمقراطي للنقد لسياسات «إسرائيل»، مثل انتقادات بوب منيندز أو جاكي روزين، وهما من القيادات المؤثرة في الحزب الديمقراطي، ناهيك عن التحولات في توجهات الرأي العام الأمريكي، خصوصاً أن نسبة الأمريكيين الذي يتعاطفون تماماً مع «إسرائيل» من بين الشباب أقل من نصف نسبة المتعاطفين من كبار السن ممن أعمارهم فوق الخمسين عاماً، وهو مؤشر على تغير مستقبلي في حجم التعاطف يترافق مع ظهور دعوات ما تزال خجولة ومحدودة لإعادة النظر في المساعدات الأمريكية لـ «إسرائيل».
3. انتقال العلاقة بين «إسرائيل» والولايات المتحدة من الدعم الآلي إلى الدعم المشروط: عندما نجد أن أحد أبرز منظِّري العلاقات الدولية والأستاذ في جامعة هارفارد، ستيفن والت، يجعل عنوان مقال له في أحد أبرز المجلات الأمريكية في مايو/أيار 2021 هو «حان الوقت لإنهاء العلاقة الخاصة مع إسرائيل»، فإن الأمر يستحق العناية في التفكير المستقبلي، ويدعو والت في ظل استمرار الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين إلى «مساعدات أمريكية مشروطة لإسرائيل، في ضوء فائدة معدومة وأعباء كبيرة من هذه العلاقة الخاصة بين الطرفين، وضرورة تحويل العلاقة من علاقة خاصة إلى علاقة عادية».
ناهيك عن إشارته إلى أن «إسرائيل» وإن كانت الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط إلا أنها ليست ديمقراطية ليبرالية كالولايات المتحدة، فالصهيونية لا تساوي بين أتباع الأديان وتمنح اليهودي امتيازات لا تمنحها لغيره من أتباع الأديان الأخرى، مشيراً إلى أنه يعتمد في رؤيته هذه على تقارير هيئات حقوقية إسرائيلية ترصد خروقات حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة من قبل المؤسسات العسكرية والأمنية والاستيطانية لحقوق الفلسطينيين، وهي انتهاكات تتزايد مع تزايد اليمين الإسرائيلي في تشكيلات الحكومة الإسرائيلية.
ويعزز والت رأيه بالقول بأنه إذا كانت «إسرائيل» مفيدة للولايات المتحدة في فترة الحرب الباردة -بالرغم من المبالغة في ذلك- فإنها وخلال الثلاثين عاماً تقريباً من انتهاء الحرب الباردة لم تستفد الولايات المتحدة من «إسرائيل» في حروبها مع العراق مثلاً، بل العكس هو الصحيح، إذ إن الولايات المتحدة قدمت بطاريات صورايخ باترويت لـ «إسرائيل» لحمايتها من الصواريخ العراقية، كما أن انشغال الولايات المتحدة بمشكلات «إسرائيل» وتكريس الجهود الدبلوماسية الأمريكية بهذا الاتجاه، يعطل الانشغال الأمريكي بمشكلات أخرى ذات أهمية للولايات المتحدة؛ مثل قضايا المناخ والصين والوضع الاقتصادي… إلخ.
كما أن العلاقة الخاصة بين أمريكا و«إسرائيل» تجعل العلاقة بين أمريكا وبقية دول الشرق الأوسط أكثر تعقيداً، بسبب ضغوط «إسرائيل» وجماعة الضغط الإسرائيلي في واشنطن على الخيارات الاستراتيجية للولايات المتحدة في تعاملها مع مشكلات المنطقة، خصوصاً موضوع انتشار الأسلحة النووية التي تحتكر «إسرائيل» ملكيتها في المنطقة. ثم إن العلاقة الخاصة مع «إسرائيل» تجر الولايات المتحدة لسياسات لا تتسق مع المبادئ الأمريكية، فمثلاً لأن «إسرائيل» لا تريد للحركة الإسلامية أن تتولى السلطة في مصر بالرغم من أنها جاءت بطريقة ديمقراطية، إلا أن الولايات المتحدة غضت الطرف عن ذلك لأن في ذلك مصلحة لـ«إسرائيل»، دون اعتبار لتشويه الصورة الأمريكية الخاصة بالديمقراطية وتحويلها إلى نفاق سياسي، وهو ما يجري مع دول أخرى في المنطقة، بل مع الحركات المعادية لأمريكا بسبب انحيازها لـ «إسرائيل».
كما يشير والت إلى تدخل اللوبي اليهودي في منع بعض الأفراد من تولي مناصب معينة، ويقدم نماذج لذلك، خصوصاً إذا كان هؤلاء لا يدافعون عن المصالح الإسرائيلية، كما أن صورة الولايات المتحدة تضررت من استمرار اعتراضها على قرارات مجلس الأمن ووكالات الأمم المتحدة ضدّ «إسرائيل» لتظهر أمريكا وكأنها تقف في وجه الإرادة الدولية.
وتشكل هذه الآراء امتداداً لما قدمه ستيفن والت مع زميله جون ميرشايمر من نقد حاد لدور جماعات الضغط الإسرائيلية في الولايات المتحدة ودون انكار منهما لحق «إسرائيل» في الوجود، لكن تركيزهما انصب على تأثير هذه الجماعات على المصالح الأمريكية، ويربط الكاتبان الكثير من المشاكل الأمريكية في الشرق الأوسط بتداعيات السياسات الإسرائيلية الضارة بعلاقات الولايات المتحدة بالمنطقة، ثم يستعرضان آليات تأثير اللوبي اليهودي على السياسات الأمريكية، خصوصاً من خلال التأثير على الرؤساء الأمريكيين ومختلف الدوائر الأمريكية، وهو ما جعل من «إسرائيل»، «عبئاً استراتيجياً».
4. في سنة 2010، نشر المحلل الاستراتيجي الأمريكي البارز أنطوني كوردسمان مقالاً في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية الأمريكي (CSIS) دعا فيه إلى ضرورة أن تراعي «إسرائيل» المصالح الأمريكية بمقدار ما تراعي الولايات المتحدة المصالح الإسرائيلية، وبعد أن عدد نماذج من عدم مراعاة «إسرائيل» المصالح الأمريكية في المنطقة خصوصاً في سياسات الاحتلال، والاستيطان، والقدس، والتدخل في الدول العربية، والتهديد بحرب مع إيران… إلخ، خلص في مقاله للقول «إن عمق الالتزام الأخلاقي لأمريكا لا يبرر أو يعذر الإجراءات التي تتخذها حكومة إسرائيلية، والتي تجعل من إسرائيل دون داعٍ عبئاً استراتيجياً، بدلاً من أن تكون ذُخراً».
ثم ينهي مقاله بالقول:
ولا تختلف رؤية كوردسمان عن تقييم قدَّمه رئيس الموساد السابق مئير داغان أمام أعضاء لجنة الشئون الخارجية والدفاع بالبرلمان الإسرائيلي (الكنيست) في يونيو/حزيران 2010 جاء فيه، «أن اختفاء الكتل السوفييتية ونهاية الحرب الباردة يحول إسرائيل تدريجياً من ذخيرة للولايات المتحدة إلى عبء»، أي إن الوظيفة الاستراتيجية لـ «إسرائيل» في المنظور الأمريكي قد يصيبها التغير بحكم الواقع الدولي والتغير والمتسارع في تغيره.
وقد عبر السفير الأمريكي السابق في «إسرائيل» والمبعوث الخاص للمفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية، مارتن إنديك، عن التوجهات نفسها، التي تبدي تحذيراً من احتمال تآكل مستوى العلاقة بين «إسرائيل» والولايات المتحدة، مع تأكيده على أن أسباب ذلك تتضح في النقد للسياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، وتخريب احتمالات حل الدولتين، واحتمالات تغيير النظام القضائي، ويساند هذا التوجه تيار متزايد داخل الكونجرس الأمريكي.
5. نزعة الاستقلالية الإسرائيلية عن الولايات المتحدة: في مقال لأحد أبرز محرري صحيفة النيويورك تايمز، وهو ماكس فيشر، أشار إلى ثلاثة جوانب تجعل «إسرائيل» أكثر استقلالية أو أقل تبعية للولايات المتحدة، وهي:
- لم تعد «إسرائيل» بحاجة ماسة للمساعدات العسكرية الأمريكية لضمان أمنها، لأنها أصبحت تنتج حاجاتها الأساسية من السلاح، وآخر تجليات ذلك إنتاج القبة الحديدية.
- لو حسبنا نسبة المساعدات المالية الأمريكية لـ «إسرائيل» قياساً لحجم الاقتصاد الإسرائيلي خلال العقود الأربعة الماضية، من سنة 1981 إلى سنة 2020، فسنجد أن نسبة المساعدات من حجم الاقتصاد الإسرائيلي تراجعت من 10% إلى نحو 1%.
- إن الحاجة الإسرائيلية للمساندة الدبلوماسية الأمريكية تراجعت أيضاً، فإن حجم شبكة العلاقات الإسرائيلية مع دول العالم من ناحية ومع الدول العربية من ناحية أخرى يشير إلى أن وزن التأييد الدبلوماسي الأمريكي لـ «إسرائيل» لم يعد بالوزن نفسه.
ذلك يعني من وجهة نظر الكاتب، أن الحاجة الإسرائيلية للدعم الأمريكي وإن كان لا يزال مهماً، إلا أن مستوى أهميته يتناقص مما يجعل «إسرائيل» أكثر تحرراً من الضغوط الأمريكية المفترضة، والتي قد تمارسها تيارات ليبرالية أمريكية على «إسرائيل».
فضاء البجعة السوداء في التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي
1. الاعتقاد في بعض الدوائر الإسرائيلية والأمريكية بأن العالم بدأ في الدخول إلى مرحلة «ما بعد أمريكا»، والاستعداد للمرحلة الصينية، فهي الدولة الأكثر اعتناءً في المستقبل بالشرق الأوسط لعوامل جيو–سياسية وجيو–استراتيجية، حيث يلاحظ أن إيقاع العلاقات الإسرائيلية الآسيوية يسير بوتيرة متزايدة، مما قد يكشف عن الاستعداد الإسرائيلي المسبق لمثل هذا الاحتمال، وهو ما قد يدفع الولايات المتحدة إلى رد فعل على هذا التقارب الإسرائيلي الصيني.
2. احتمال تزايد الشعور في الولايات المتحدة بأضرار الدفاع المستمر عن «إسرائيل»، خصوصاً أن الأعباء الاستراتيجية الناشئة عن هذه العلاقة تبدو أكثر وضوحاً في أوقات الأزمات المالية الأمريكية.
3. قد تفقد «إسرائيل» دعم أعداد كبيرة من الحزب الديمقراطي، نتيجة الدعم المتعصب من اليمين الأمريكي لها.
4. يمكن أن تتسع دائرة الديمقراطية في العالم العربي وبلوغه عصراً ديمقراطياً جديداً، من شأنه أن يؤذن بعصر من النمو الاقتصادي السريع والتكامل الإقليمي المتزايد، مما يؤدي إلى رؤية العالم لـ «إسرائيل» بالطريقة نفسها التي يجري النظر بها إلى تايوان حالياً.
5. انتخاب رئيس أمريكي غير منحاز لـ «إسرائيل»، فعلى سبيل المثال كان بيرني ساندرز منافساً قوياً عن ترشيح الحزب الديمقراطي في انتخابات الرئاسة سنتي 2016 و2020، واحتل المرتبة الثانية في كل منهما، وكان يتبنى مواقف تراها «إسرائيل» معادية لها، وانتقد الحرب على العراق، والتدخل الأمريكي في اليمن، والهجوم الإسرائيلي على غزة سنة 2014، وانتقد بشدة منظمة الآيباك (AIPAC) المساندة لـ «إسرائيل»، كما دان اعتراف دونالد ترامب بالقدس كعاصمة موحدة لـ «إسرائيل»، وانتقد اغتيال الولايات المتحدة للقائد العسكري الإيراني قاسم سليماني.
6. استمرار التحول «التدريجي البطيء» في توجهات المجتمع الأمريكي تجاه «إسرائيل»، إذ تدل استطلاعات الرأي العام الأمريكي على مؤشرات، مثل:
- تناقص التأييد لـ «إسرائيل» خصوصاً في صفوف الديمقراطيين، بل إن بعض الكتاب الإسرائيليين يربطون بين تنامي «النزعة التقدمية» في صفوف الحزب الديمقراطي الأمريكي وتنامي «النزعة اليمينية» المحافظة في «إسرائيل»، مما «قد يضع العلاقة الخاصة بين الطرفيْن على المحك بشكل لم نعهده من قبل».
- إن الأجيال الشابة في المجتمع الأمريكي أقل تعاطفاً مع «إسرائيل».
- إن دعاة الضغط على «إسرائيل» لتحقيق التسوية أكبر من دعاة الضغط على الفلسطينيين في هذا المجال، ولعل انتقادات الرئيس الأمريكي جو بايدن في يوليو/تموز 2023 لوجود متطرفين في حكومة بنيامين نتنياهو وكيف أصبحوا جزءاً من مشكلة التسوية السياسية في المنطقة، ثم رد إيتمار بن غفير على بايدن بأن «إسرائيل ليست نجمة في العلم الأمريكي»، مؤشر على بعض احتقانات العلاقة بين الطرفيْن.
7. تشير دراسة لباحث إسرائيلي إلى أن الشقاق بين الولايات المتحدة و«إسرائيل» غير مستبعد، ويستند الباحث إلى عدد من المؤشرات، أهمها:
- إن حجم المكاسب الأمريكية من العلاقة مع «إسرائيل» لا تتناسب مع حجم المكاسب الإسرائيلية من العلاقة مع الولايات المتحدة، فالثانية أكبر بشكل واضح من الأولى.
- التغيّر في البنية الداخلية للنظام السياسي في أي منهما قد يفرز تباينات عميقة في العلاقة بينهما، وقد أشارت هذه الدراسة إلى مشكلة استقلالية القضاء سنة 2019، أي قبل انفجار المظاهرات بسبب هذه المشكلة، وهو ما يشي بأن التغيرات لأسباب أيديولوجية أو اعتبارات أمنية في أي منهما قد يفرز مشكلات عميقة، لا سيما أن الاتجاه نحو مزيد من النزعة اليمينة في «إسرائيل» يسير بشكل لا يتناسب ومكانة هذه النزعة في المجتمع الأمريكي، وهو ما قد يجعل النظرة لأمريكا في «إسرائيل» مشابهة للنظرة الإسرائيلية للاتحاد الأوروبي، فهناك 51% من الإسرائيليين لديهم نظرة «العدو» تجاه الاتحاد الأوروبي.
- تنامي النزعة العلمانية -كاتجاه أعظم- في الولايات المتحدة، قد يؤثر على درجة التعاطف الشعبي الأمريكي مع «إسرائيل» المستند للجذور الدينية المشتركة بين الطرفيْن.
- إن يهود أمريكا والذين يشكلون أداة الضغط الإسرائيلي في أمريكا أكثر ليبرالية من يهود «إسرائيل»، وهو أمر قد يُعزِّز احتمالات تشقق العلاقات مستقبلاً بين الطرفيْن اليهودييْن.
النتائج والتوصيات
النتائج:
- مع التأكيد مرة أخرى على أن نموذج البجعة السوداء هو احتمال ضعيف، إلا أن إغفاله يشكل خطأً استراتيجياً نظراً للتداعيات الخطيرة في حالة حدوثه، وهو ما يستوجب دراسته والتخطيط لكيفية التكيّف معه مستقبلاً.
- إن عمق التحولات المحلية والإقليمية والدولية، وتسارع هذه التحولات بفعل تسارع إيقاع الحياة الدولية، يجعل احتمالات ظهور «البجعة السوداء» أعلى من ظهورها في مجتمع دولي متباعد وأقل ترابطاً وأبطأ تسارعاً، ولعل الأزمة الأوكرانية بين روسيا والدول الغربية بشكل عام، والموقف من الأزمة التايوانية بين الصين والولايات المتحدة، تشكل موضوعات تستحق التنبه لدورها في الحرج الإسرائيلي من تحديد موقف واضح من الأزمتيْن، وهو الموقف الذي لا يجاري الموقف الأمريكي كما تجاريه بقية دول المعسكر الغربي، بسبب القلق الإسرائيلي من تداعيات وقوفها إلى جانب الولايات المتحدة بشكل صارخ في أي من الصراعيْن.
- إن هيمنة البراغماتية السياسية على العقل الأمريكي من ناحية، واعتماد الحركة الصهيونية منذ نشأتها على سند دولي، بريطانيا وأمريكا… إلخ، يجعل احتمال التراخي في العلاقة بين الطرفين متزايداً، خصوصاً إذا تكرَّس تراجع المكانة الأمريكية في القرار الدولي الاستراتيجي.
- بالرغم من الأهمية الكبرى التي كانت، وما زالت إلى حدٍّ ما، لتايوان في السياسة الأمريكية، فإن الكثير من الدبلوماسيين التايوانيين لم يقبلوا فكرة أن الولايات المتحدة ستقبل بفكرة صين واحدة، وتطرد تايوان من الأمم المتحدة، وتقطع علاقاتها الدبلوماسية معها، لكن ذلك حدث عندما وجدت الولايات المتحدة أن من مصلحتها قبول التخلي التدريجي عن تايوان، وهو السابقة التاريخية الأكثر دلالة لصانع القرار الصهيوني.
التوصيات:
- على الدبلوماسية العربية وخصوصاً الفلسطينية ألا تستبعد نموذج البجعة السوداء من تصوراتها المستقبلية، خصوصاً في المدييْن المتوسط والبعيد. ولعل كافة المؤشرات التي أشرنا لها في الصفحات السابقة تعزز ضرورة التعاطي مع هذا الاحتمال.
- على المخطط العربي والفلسطيني أن يفكر في آليات تعميق وتسريع الشقاق بين الطرفيْن الأمريكي والإسرائيلي، وخصوصاً من خلال تعزيز القوى الليبرالية الأمريكية الأقل انجذاباً للسياسة الإسرائيلية.
- مزاحمة «إسرائيل» في مجال تطوير العلاقة مع القوى الدولية الصاعدة، خصوصاً الصين والهند وروسيا، من خلال مزيد من الانخراط في المنظمات الدولية الأكثر توازناً في مواقفها من الصراع العربي الصهيوني، مثل مجموعة البريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون.