«أيلول الأسود» ولكن في المكسيك
يترقب المكسيكيون قدوم يوم 19 سبتمبر/أيلول من كل عام كارهين مرغمين، لا يقترب هذا اليوم إلا والنفوس قد امتلأت بالهلع، وشعر البعض بنذر شرٍ على الأبواب، تمر عليهم ساعاته ثقال، متمنين ألّا تنزل بهم نازلة تصيب الأرض بالدمار؛ فهل هي محض صدفة أن يعاني الشعب المكسيكي اثنتين من أعظم المآسي في تاريخه في نفس اليوم في عامين مختلفين؟
زلزال عام 1985
تزخر المكسيك بحضارة عريقة وثقافة فريدة، وتتميّز كذلك بتنوع معالمها السياحية وطبيعتها الخلابة، إلا أن هذه الطبيعة كما أنها نعمة قد تتحول إلى نقمة في بعض الأحيان.
تقع المكسيك في المنطقة المعروفة باسم «الحزام الناري» في المحيط الهادي، وتتميز هذه المنطقة بنشاط زلزالي وبركاني كبير، ويحدث بها 90% من حجم زلازل العالم، وتضم 75% من البراكين النشطة حول العالم؛ لذلك يحدث 60 زلزلًا في المكسيك بشكل يومي، وذلك بحسب تصريحات «جولي بيريس» الباحثة في معهد الجيوفيزياء التابع للجامعة الوطنية المستقلة في المكسيك (أونام).
إلا أن زلزال 19 سبتمبر/أيلول عام 1985 كان الأشد فتكًا، وستبقى آثاره عالقة في أذهان المكسيكيين للأبد؛ فبينما كان الناس نيام وبعضهم يتأهب للذهاب إلى شئونه، ضرب الزلزال مدينة مكسيكو في تمام الساعة 7:19 صباحًا، وبلغت قوته 8.1 درجة بمقياس ريختر بعمق 15 كيلو متر، ومركزه بالقرب من مصب نهر «بالساس»، على ساحل ولاية ميتشواكان.
تسبّبت الهزة في انهيار آلاف المنازل فوق رؤوس ساكنيها، وألحقت أضرارًا بالغة بآلاف المباني، وانهيار البنية التحتية. كانت المكسيك في ذلك الوقت تفتقر إلى ثقافة الحماية المدنية، فهبّ سكان العاصمة لمساعدة المنكوبين وإزالة الأنقاض بأيديهم دون أدوات أو آلات لمساعدة الجرحى وانتشال الضحايا، وبفضل هذه الجهود المدنية تمكن البعض من النجاة بعد أن ظلوا عالقين تحت الأنقاض، ومنهم من قضى نحبه تحتها.
نظرًا لفداحة الكارثة لم يعرف على وجه التحديد عدد الضحايا، حيث أشارت الأرقام الرسمية إلى 6 آلاف، وأشارت إحصاءات الصليب الأحمر المكسيكي إلى أن عدد الضحايا تجاوز 10 آلاف، وأكدت بعض المنظمات الأخرى بأن الأعداد أكبر من ذلك بكثير، ولكن الشيء المتفق عليه هو أن الزلزال غيّر معالم مدينة مكسيكو إلى الأبد، وشرّد ما لا يقل عن 250 ألف شخص، ليحتل بذلك مرتبة الزلزال الأكثر تدميرًا في التاريخ المعاصر للمكسيك.
وبما أن الشاعر هو ضمير الأمة وصوتها، كان حريٌّ بأن يكتب عن هذه المأساة ابن مدينة مكسيكو سيتي، الشاعر والكاتب المكسيكي الكبير «خوسي إميليو باتشيكو»، الذي جعل المدينة مسرحًا لبعض أعماله مثل: المعارك في الصحراء Las batallas en el desierto، ومبدأ اللذة El principio del placer، لينسج من رحم المأساة قصيدته الخالدة «انهيار المكسيك» (مرثاة العودة).
أترجم لكم بعض أبياتها:
بعد مرور عام فقط على زلزال عام 1985، قامت المكسيك بإنشاء نظام وطني للحماية المدنية، وتحديدًا في عام 1986، والذي تحوّل بمرور السنين إلى مرجع عالمي، نظرًا لتقدمه في تنفيذ إجراءات الوقاية من الكوارث، والرعاية في حالات الطوارئ لحماية السكان، وبالطبع كانت حكومة المقاطعة الفيدرالية آنذاك (مدينة مكسيكو) مهتمة باستحداث نظام الإنذار المبكر للزلازل لإنقاذ حياة المواطنين عند وقوع مثل هذه الكوارث الطبيعية، وبالفعل تم البدء في تنفيذه منذ عام 1989 باستخدام محطات استشعار زلزالية، تقوم بإرسال تحذيرات بواسطة موجات الراديو قبل ثوانٍ من الزلازل، وتقوم أجهزة مثبتة في المدارس والوحدات السكنية باستقبال هذه الموجات ومن ثَمَّ تصدر صافرات إنذار تُشبه تلك التي تُعلِن عن غارة جوية في حالة الحرب ولكنها تصدر نغمة مموجة.
زلزال عام 2017
لم يكن أحد ليتخيّل أن يوم 19 سبتمبر/أيلول سيلقي بظلاله الثقيلة مرة أخرى على الشعب المكسيكي بعد مرور 32 عامًا، ليحمل معه الألم والمعاناة للعائلات المكسيكية، حيث باغتهم في نفس اليوم (19 سبتمبر/أيلول) من عام 2017، زلزال عنيف في تمام الساعة 1:14 ظهرًا، ومرة أخرى تكبّدت العاصمة (مدينة مكسيكو) الضرر الأكبر من الكارثة.
كنت بمدينة مكسيكو لحظة وقوع الزلزال، ولسبب لا أعلمه لم ينطلق نظام للإنذار المبكر، ليسمح لنا ببضع ثوان نهرع فيها إلى الأماكن الآمنة التي تقوم الحماية المدنية بوضع علامات بها لتسهيل الوصول إليها لحظة الكارثة؛ لربما حدث عطل بالنظام في المنطقة التي كنت فيها.
كان صوت تصدع الجدران والهزات العنيفة يُشعِرانني بأنها نهاية العالم، وفي لحظات قليلة تمكنت من الوصول إلى هذه الأماكن. وبعد ثبات الأرض من اضطرابها العنيف انقطعت وسائل الاتصالات ولم أستطع الاطمئنان على عائلتي، لكن الله كان رحيمًا بي لأكتشف بأن الواتساب يعمل وتمكنت من التواصل معهم والاطمئنان عليهم.
علمت بعد ذلك بأن الزلزال بلغت قوته 7.1 درجة بمقياس ريختر، ومركزه مدينة «شيوتلا دي تابيا» بولاية «بويبلا» على عمق 51.2 كيلومتر، وبعد خروجي للشارع رأيت الدمار الذي خلّفه بالعاصمة التي أصابها الشلل التام؛ رأيت عشرات المباني المنهارة والشوارع التي أغلقتها السلطات خوفًا من انهيار العقارات المتصدعة. وفي بضع دقائق تبدلت المدينة من حال إلى حال، تحولت لما يشبه ساحة حرب: حرائق هنا وهناك بسب انفجارات مواسير الغاز الطبيعي، وانقطاع الكهرباء، ووسائل الاتصالات، وشلل حركة المرور. وقد أشارت الإحصائيات الرسمية إلى وفاة 410 شخصًا وإصابة الآلاف، وملايين الخسائر بالبنية التحتية.
وعلى غرار الشاعر «إميلو باتشيكو»، كتب «خوان بيورو»، الكاتب المكسيكي الكبير قصيدة «القبضة المرفوعة»، بعد أن ألهمته صورة قد انتشرت في هذا الوقت لعمال الإنقاذ يرفعون قبضة أيديهم عاليًا، في إشارة ليصمت الناس ليتمكنوا من سماع أنين المستغيثين تحت الأنقاض. قال في جزء منها:
وبعد هذه المعاناة، يتساءل البعض عن موعد كتابة القصيدة القادمة؟ وهل يوم 19 سبتمبر مشؤوم بالفعل أم أنها محض صدفة؟