البحر الأسود: صراع قديم متجدد وأهمية استراتيجية متزايدة
إحدى أكثر المناطق توترًا في العالم وأكثرها تسلحًا أيضًا، لطالما اعتبرته روسيا منطقة استراتيجية لها، وليس ذلك بغريب فهو حلقة الرابط بين أوروبا والشرق الأوسط ومدخل روسيا الوحيد إلى البحر الأبيض المتوسط. كان البحر الأسود ذات يوم بحرًا داخليًا للإمبراطورية العثمانية، فأصبح الآن منطقة صدام بين ثلاث إمبراطوريات قديمة جديدة، من روسيا إلى تركيا وانتهاء بحلف الناتو، يمثل البحر الأسود لكل منهم أهمية استراتيجية وحيوية ومجالًا أساسيًا للنفوذ والهيمنة.نشر مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية مؤخرًا تقريرًا يتحدث عن الأهمية المتزايدة للبحر الأسود، خاصة في ظل الصراع الدائر في أوروبا الشرقية وروسيا، ونحاول في هذا المقال استعراض أبرز ما جاء فيه.
التاريخ مرآة الحاضر
امتد الصراع بين الدولة العثمانية وروسيا القيصرية ست سنوات بين عامي 1768-1774، وانتهى هذا الصراع بتوقيع معاهدة «كيتشوك كاينارجي»، وبمقتضى هذه المعاهدة انفصلت خانية القرم عن الدولة العثمانية، وأصبحت دولة مستقلة، لا ترتبط بالإمبراطورية العثمانية إلا في قيام شيخ الإسلام في إسطنبول بتنظيم الشؤون الدينية للقرم. ونصت المعاهدة على منح الأفلاق والبغدان (رومانيا) الحكم الذاتي تحت السيادة العثمانية، مع إعطاء روسيا حق التدخل في اختيار حكامها، وأعطت المعاهدة لروسيا حق رعاية السكان الأرثوذكس الذين يعيشون في البلاد العثمانية، وكان هذا المعاهدة ذريعة لروسيا، تدخلت من خلالها في شئون الدولة العثمانية. وألزمت المعاهدة الدولة العثمانية بدفع غرامات حرب لأول مرة في التاريخ، فدفعت 15,000 كيس من الذهب للروس.كان لتتار القرم ارتباط عظيم بالدولة العثمانية، وأدى النفوذ الروسي المتزايد في القرم ومحاولة فرض إصلاحات من خلال الطغمة الروسية الحاكمة إلى انتشار القلق، وبدأت بوادر الثورة في البلاد تطفو إلى السطح، مما منح الروس فرصة طال انتظارها للسيطرة فعليًا على شبه الجزيرة وضمها إلى الإمبراطورية الروسية، وفعلًا وفي عام 1783 سيطر الروس على المدينة، ولم تواجههم مقاومة مسلحة تذكر.ومنذ ذلك التاريخ ظهرت روسيا كقوة عظمى من قوى البحر الأسود، بينما بدأت الإمبراطورية العثمانية في الانحدار.
لم يقف الصراع بين كلا من الامبراطورتين عند هذا الحد، ففي عام 1853 اندلعت حرب القرم؛ والتي استمرت ثلاث سنوات، وأيضًا لم ينتج عنها قوة واحده لتهيمن على البحر الأسود. انحازت كلٌ من فرنسا وبريطانيا إلى جانب الدولة العثمانية خوفًا من خروج روسيا كمارد بحرى جديد إلى البحر المتوسط، فلم تنجح روسيا في فرض سيطرتها على المنطقة، ولكن لم تتوقف محاولاتها.عادت روسيا مرة أخرى في الحرب العالمية الأولى، حيث كانت أهم أسبابها لخوض الحرب هي رغبتها في فرض سيطرتها على المضايق التركية المؤدية إلى البحر المتوسط.وانطلقت الرصاصات في صدر روسيا نتيجة لهذا، حيث نجحت الدولة العثمانية في غلق المضايق لتخنق اقتصاد الإمبراطورية الروسية تمامًا. وبعد انهيار كلتا الإمبراطوريتين، بدأت محاولات إعادة ترسيم المنطقة لتنجح إحدي تلك المحاولات عام 1923 في لوزان. حيث وضعت اتفاقية لوزان أسس قيام الدولة التركية ونتج عنها لاحقًا اتفاقية مونرو، والتي حددت أسس التعامل مع المضائق التركية.منحت تلك الاتفاقية دول البحر الأسود والتي ليست في حالة حرب مع تركيا حق المرور في المضايق، ومنحت الدول التي لا تنتمي إلى منطقة البحر الأسود حق المرور بالمضايق، ولكنها فرضت شروطًا على القطع العسكرية لتلك الدول.
عين روسيا التي لا تنام عن القرم
لم تكن الاتفاقية مريحة للاتحاد السوفييتي، فما زالت تركيا تتحكم فعليًا في أهم رئة للاتحاد السوفييتي وهي المضايق. أراد الاتحاد السوفييتي فتح باب التفاوض فيما يخص اتفاقية مونرو، حيث أراد الروس الحصول على قاعدة عسكرية على الأراضي التركية ومشاركة السيطرة على المضائق مع تركيا، وعرفت هذه الأزمة بأزمة المضائق التركية. طلبت تركيا المساعدة من الولايات المتحدة الأمريكية وحركت أمريكا عدة قطع بحرية إلى المنطقة. في النهاية تراجع الاتحاد السوفييتي، وكانت هذه الأزمة أحد أهم أسباب انضمام تركيا واليونان إلى حلف الناتو، ونشوء عقيدة ترومان الهادفة إلى احتواء نفوذ الاتحاد السوفييتي.استمر التوتر قائمًا في المنطقة طوال الحرب الباردة، ولكن مع انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991 بدأت تفقد المنطقة أهميتها الاستراتيجية بالنسبة للغرب، ولكنها ظلت من أهم محددات النفوذ الروسي حول العالم.اقرأ أيضًا:4 خرائط تستشرف معك مآلات العام الجديد وكان أهم حدث استراتيجي في المنطقة بعد انتهاء الحرب الباردة، هو اتفاق بودابست عام 1994، والذي وافقت فيه أوكرانيا على إزالة الأسلحة النووية الموجودة على أرضها مقابل ضمانات أمنية بوحدة أراضيها من روسيا والولايات المتحدة وبريطانيا العظمى، ورغم نجاح هذه الاتفاقية بقيت القرم ورقة تفاوض مهمة بين روسيا وأوكرانيا.في عام 1954 أعطى نيكيتا خروتشوف القرم كهدية إلى أوكرانيا بمناسبة مرور 300 عام على دخول أوكرانيا تحت مظلة روسيا القيصرية. احتفظت روسيا بقوات عسكرية في سيفاستول عاصمة القرم وكانت تلك المدينة المقر الرئيسي لأسطول البحر الأسود الروسي وهو الأسطول الروسي الوحيد في المياه الدافئة. ومنذ انهيار الاتحاد السوفييتي تتمتع القرم بوضع حكم ذاتي تحت السيادة الأوكرانية، وبقيت الروابط قوية للغاية بين سكانها وبين روسيا.
روسيا بوتين والبعث الجديد
على الرغم من أن روسيا حافظت على جوهر سياستها الخارجية في المرحلة ما بعد الاتحاد السوفييتي، والتى ترى فيها أن نطاق أمنها القومي والحيوي يشمل بالضرورة الدول التي كانت سابقًا جزءًا من الاتحاد ومنطقة البحر الأسود، إلا أن روسيا افتقرت للوسائل الاقتصادية والعسكرية لفرض نفوذها في فضائها الحيوي.
بدأ هذا بالتغير في ظل الثورات الملونة التي شهدتها أوروبا الشرقية، وأيضًا اتساع مظلة الناتو لتشمل دولًا مثل رومانيا وبلغاريا، الأمر الذي أدى في النهاية إلى أن تكون ثلاث دول من المطلة على البحر الأسود جزءًا من حلف الناتو، ودولتين أخريين تعملان بقرب مع التحالف.وقد صرحت دول الحلف بأن منطقة البحر الأسود هي منطقة ذات أهمية استراتيجية للناتو وفقًا لإعلان قمة بوخارست عام 2008، الأمر الذي رأته روسيا تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي ومجالها الاقتصادي.
اقرأ أيضًا:فلاديمير العرب: ما الذي تريده روسيا من الشرق الأوسط؟ رأت روسيا أن الناتو يقوم بالتغول تدريجيًا داخل مجالها الحيوي، وبدأت في اتخاذ الإجراءات التي من شأنها تعزيز سيطرتها على البحر الأسود. فاستخدمت روسيا سلاح الطاقة كنقطة تأثير على أوكرانيا عام 2006 ومرة أخرى عام 2009 حين أوقفت روسيا إمدادات الغاز الطبيعي إلى أوروبا من خلال أوكرانيا، وزادت من سعر الغاز الأوروبي. وفي أغسطس/آب عام 2008 قامت القوات الروسية بغزو جورجيا، واكتسحت القوات الجورجية وسيطرت على العاصمة تبيليسي.الحدث الثاني، والذي كانت له نتائج استراتيجية وعسكرية كبيرة هو الغزو الروسي للقرم في مارس/آذار عام 2014، فبعد أيام من إزاحة الرئيس الأوكراني فيكتور يانكوفيش طورت روسيا من وجودها العسكري في شبه الجزيرة، ومهدت الطريق لوجود وحدات عسكرية متقدمة مثل S-300 ،S400، ووحدات الدفاع الساحلي ذات الصواريخ السطحية والمضادة للطائرات. انتقد الرئيس السابق لقيادة الحلفاء في أوروبا احتلال روسيا للقرم ووصف الأمر باستعراض روسي للقوة، لم يقف الغزو الروسي عند هذا الحد بل صاحبته حرب كلامية شديدة اللهجة حيث صرح مسئولون روس بأن الخيار النووي للدفاع عن شبه الجزيرة مطروح وبقوة. الخطوة الأخيرة في إعادة إرساء الوجود الروسي في المنطقة كانت التدخل الروسي في سوريا في سبتمبر/أيلول 2015، فلأول مرة منذ الحرب الباردة أظهرت روسيا قدرتها على تحريك قطع من أسطولها في البحر الأسود إلى مناطق الصراع، كما أنزلت وحدات هجومية في المنطقة وأخرى للدفاع الجوي.
اقرأ أيضًا:ليبيا: ساحة حرب دولية جديدة، حيث روسيا تلاحق الاتحاد الأوروبي وتعمل روسيا الآن في مساحة بحرية واسعة كما تمتلك اتفاقية مع قبرص تسمح للسفن الروسية بالرسو في موانئها كما تفاوض لإنشاء قاعدة عسكرية في مصر، وتتدخل في ليبيا داعمة أحد أطراف النزاع هناك، وتسعى تدريجيًا لجعل وجودها في منطقة شرق المتوسط أمرًا واقعًا
عودة الأهمية الاستراتيجية للبحر الأسود
عادت روسيا إذن إلى البحر الأسود كقوة إقليمية مهيمنة، خاصة بعد الانسحاب الأمريكي والتراجع الأوروبي. فهل يستطيع الكرملين تأمين طريقه إلى البحر الأبيض المتوسط عن طريق مضاعفة وجوده في طرطوس، وهل يستمر الكرملين في مضاعفة وجوده العسكري في القرم وشرق أوكرانيا وزيادة الضغط على بلغاريا والناتو، بينما يحاول مزج علاقات أكثر قربًا مع الجانب التركي لضمان أمن المضائق التركية؟بالنسبة لروسيا ما تزال الأهمية الاستراتيجية للبحر الأسود هي نفسها منذ العام 1853، تأمين الوصول إلى المياه الدافئة في البحر الأبيض المتوسط وموازنة الوجود الأمريكي والأوروبي في كلا البحرين، فهل تخرج روسيا القيصرية مرة أخرى إلى المياه الدافئة، أم أن للحلفاء رأيًا آخر؟