فستان أسود — قصة قصيرة
(1)
تتألق محلات الملابس بفاترينات ذات أزياء زاهية ومبهجة لتستقبل عاماً جديداً. تقف امرأة في منتصف العمر وبجانبها ابنتها المراهقة أمام أحد المحلات، وتتجول أعينهم بنهم واضح بين الأزياء المعروضة، كأن تلك القطعة التي هم على وشك شرائها ستُحدِّد الكثير من خيارات حياتهم، لذلك عليهم التفكير ملياً في اختيار زي يتلاءم مع كيفية استقبال هذا العام الجديد المليء بالخيارات والاحتمالات.
تتحدث الابنة إلى أمها ولا تزال عينيها تتفحص الأزياء بعناية.
ترد الأم.
تحاول الابنة أن تتخيل الفستان عند ارتدائه وكيف سيرسم معالم جسمها الرشيق ثم تقول:
ماذا عن الأخضر ذي النقوش… فليس لدي فساتين خضراء… كما أني لم أرتد هذا الموديل من قبل وأريد أن أجرب شيئاً جديداً للعام الجديد.
«إنه جميل حقاً»، ترد الأم:
«دعينا ندخل المحل كي تجربيه وتريه بشكل أفضل عند ارتدائه».
(2)
تقف سارة أمام الفاترينة وتستمع لحديث الأم وابنتها. في البداية، ترتسم على وجهها علامات الحيرة التي تستحيل بعد فترة لعلامات ضيق!
تذهب بعيداً عن الفاترينة ذات الخيارات المتعددة لتنعم ببعض الراحة، وتقف أمام فاترينة أحد المحلات الأخرى والتي تعرض أزياء باللون الأسود فقط. تعلم جيداً أن هذه هي سياسة بعض المحلات في عرض الأزياء حيث تجعل من فاترينتها قطعة فنية، وتحاول أن تجذب المشترين بأناقة وعدم تكلُّف!
ترتسم على وجه سارة بعض علامات الراحة وتهديها عينيها لفستان أسود ذي أكمام شفافة من الشيفون. ترى أنه يناسبها تماماً. دائماً ما كانت ترسم في مخيلتها ما إذا كانت الملابس ستناسبها أم لا؛ فهي لا تقيس الملابس قبل الشراء، فتلك هي عادتها منذ زمن طويل.
تدخل المحل وتطلب من البائعة الفستان الأسود المعروض. تفعل كل ذلك متعجلة ويكأن أحدهم يراقبها من بعيد بعيون متفحصة ليعرف ماذا ستؤول له رحلتها في الشراء هذه المرة. ولكن فاجأتها البائعة:
ما أن تبدأ البائعة في عرض الخيارات الأخرى أمام سارة حتى تقاطعها بحركة مفاجئة مغمغمة: «شكراً… لا أريد سوى هذا الفستان».
تنطلق سارة خارج المحل وهي تشعر بضيق شديد. لا تعلم السبب جيداً، لكنها وبخطوات مسرعة تغادر المركز التجاري وتسير في الشوارع هائمة. لا تستطيع أن تفسر ما تشعر به في هذه اللحظة، فذلك يتطلب السكون نوعاً ما وفتح المجال لمشاعرها المتداخلة والدفينة بأن تعبِّر عن وجودها. كانت تشعر أن في ذلك جهداً كبيراً لفك هذا التشابك الداخلي والذي في الغالب يُفضي إلى لا شيء أو التكتم المطلق.
تحدث نفسها وتشعر أن العيون التي تراقبها تلمع بسعادة دفينة.
تعود لمنزلها في هذا اليوم وتخلد للنوم وهي تشعر بشيء من عدم الراحة الذي اعتادت عليه، دون دراية كافية بكيفية التخلص منه.
(3)
في اليوم التالي، تذهب للتسوق مرة أخرى لنفس المركز التجاري. لم يكن ذلك من عادتها، فهي لا تفكر في أي أمر مرتين ولا تطأ قدمها مكاناً تركته لتوها دون الحصول على نتائج مُرضية لها.
تقف أمام المحل الذي وجدت أمامه بالأمس المرأة وابنتها، وتتأمل الأزياء ذات الألوان المبهجة والمتعددة، كأن لكل فستان حكاية وشخصية مختلفة! حتى نفس الفستان، يتحدث منه الأزرق بلغة والأحمر بلغة أخرى؛ فرقة الأزرق وصفاؤه لا تستطيع أن تطفئ من وهج الأحمر وقوته. كذلك فكل خيط متداخل مع النسيج الأصلي لكل قطعة معروضة يغير من الأمر كثيراً. فلكلٍّ حكايته. لكنها لا تعلم لماذا لا يضع هذا المحل أي فستان ذي لون أسود؟!
هل هذه سياسته في العرض تماماً كما تفعل المحلات الأخرى التي تجعل من الأسود فقط عنوانها في كل الأزياء المعروضة؟! هل يريد أن يضع المشترين أمام حيرة الاختيار مما يجعلهم يقضون وقتاً أطول متأملين الفاترينة، أو يدخلون فيفحصون القطعة تلو الأخرى، في سباق دائم للحصول على أفضل قطعة تناسبهم؟ ربما!
تطيل النظر للأزياء المعروضة وهي تشعر بأن شيئاً ما بداخلها يريد أن يصرخ؛ شيئاً ما قد أثاره ذلك التنوع من الألوان والموديلات. ثم تفكر لبرهة: «لماذا لا أسأل عن ذلك الفستان الأخضر الذي اختارته الشابة بالأمس؟ فربما يكون جميلاً عند الارتداء».
تدخل المحل وتطلب من البائعة أن تأتيها بالفستان. تسألها البائعة أي مقاس تريده، فترد سارة «أريد مقاسي!».
تُناوِلها البائعة مقاساً يناسبها وتسألها أن تجربه، فلربما تريد مقاساً أصغر أو أكبر.
تسري بداخل سارة قشعريرة «أقيس الفستان؟! لم أفعل ذلك منذ زمن طويل». لكن البائعة تكون قد أدرات ظهرها بالفعل لتلبي طلب زبونة أخرى.
تدخل سارة حجرة تغيير الملابس، وتبدأ في خلع ملابسها قطعة قطعة بشيء من التردد، ثم ترتدي الفستان ببطء وتدعه ينساب على جسمها. تتأمله وتتلمس ملمسه الحريري حتى تنتابها سعادة غامرة. تلك السعادة التي كانت تسري بداخلها عندما تشعر أن لوناً جديداً قد أُضفي على حياتها، وأنها بذلك قد دخلت طوراً جديداً.
تتخيل نفسها وهي مرتدية فوقه شالاً رمادياً، وحذاءً فضياً ذا كعب عالٍ. كذلك ستضع أحمر شفاه باللون الوردي، مختلفاً عن درجات الأحمر الذي اعتادته، مع رفع شعرها لأعلى لتبدو ملامحها أكثر جرأة. تتناول خصلات شعرها الذي دائماً ما تتركه ينساب دون أي تدخل منها. ترفعه وتترك خصلة تنساب على وجهها والتي ستحتاج قص بضعة سنتيمترات منها.
تتخيل كل ذلك، ومع كل صورة ترسمها لإطلالتها النهائية تشعر أنها أصبحت أكثر تألقاً بلون فستان أكثر زهواً وبشرة أكثر نضارة. تسير بعض الخطوات على أطراف أصابعها وتنظر لنفسها في المرآة لتتعرف على كيفية تمايل جسمها مع حركة الحذاء ذي الكعب العالي، وتطيل النظر لملامح وجهها التي ستعبر حتماً عما تشعر به من سعادة غامرة وتألق لم تعتده في المظهر الخارجي.
تلتقط لنفسها بعض الصور في مخيلتها، ولا تفيق من هذا الحلم إلا عندما تسألها البائعة من خارج البروفة: «المقاس مناسب أم لا؟».
(4)
تعود سارة من شرودها وتشعر بخفقان شديد يضرب في كل أنحاء جسدها. تزداد ضربات قلبها بشدة وتصبح أكثر قوة، حتى إنها تستطيع أن تسمعها تضرب في أذنها.
فجاة تريد أن تخرج من هذا الفستان بأقصى سرعة ممكنة. تحاول خلعه بسرعة لدرجة أن السحاب يكاد ينقطع. يتشابك شعرها المنسدل مع السحاب وتشعر بألم شديد في فروة رأسها عندما تختلط بعد الخصلات به وهي تحاول سحبه والخروج من هذه القطعة، لكنها لا تصرخ، فكل تفكيرها الآن منصباً حول شيء واحد؛ كيفية الخروج من هذا المأزق.
تشعر أنها حبيسة تلك القطعة التي لا تريد أن تنفصل عنها، وكأنها تُملي عليها شروطها الجديدة للحياة. ما أن تستطيع أن تتحرر من الفستان حتى تخرج من البروفة وتناوله للبائعة مغمغمة: «المقاس واللون والموديل غير مناسبين»، ثم تهرول خارجة من المحل.
في أثناء هرولتها، تلتقط عيناها فستاناً أسود ذا أكمام شفافة من الشيفون تماماً كالذي رأته بالأمس ولكن في محل آخر. تدخل المحل وتطلبه من البائعة، وعندما تسألها: «أي مقاس؟»، ترد سارة بحدة بالغة كأنما قد رددت هذه الإجابة مئات المرات في حياتها: «أريد مقاسي!».
تُناولها البائعة الفستان وتلتفت لتشير لها لحجرة تغيير الملابس. لكن سارة تكون قد ذهبت مسرعة للخزنة لتدفع ثمنه وتخرج من المركز التجاري دون التفات.
ما أن تصل منزلها حتى تفتح خزانة الملابس لتخرج منها عشرة فساتين سوداء ذات أكمام شفافة من الشيفون بمقاسات مختلفة ناسبت سنوات عمرها!
تضحك العيون المتربصة بها وتردد شامتة «فستان أسود آخر!».