بسر بن أبي أرطأة: رجل المهام «القذرة» للأمويين
لا يمكن لأي مهتم بتاريخ الأمة الإسلامية المبكر، أن يمر مرور الكرام على تاريخ الدولة الأموية ورجالاتها جميعًا، وليس فقط خلفائها. فقد أسَّست تلك الفترة لكثير مما تلاها، فعلى نموذج التوريث العائلي، واحتكار السلطة والثروة، والسيطرة بهما على المجتمع، وقمع المعارضين بسقفٍ مفتوح، سارت معظم- إن لم يكن كل- دول الأسر الحاكمة في العالم الإسلامي.
ولأن بُسر بن أبي أرطاة كان من أبرز رجال العصر الأموي المبكر، ولعب أدوارًا مهمة في لحظات مفصلية خطيرة مثل الصراع مع الإمام علي بن أبي طالب، والتمهيد لمشروع فرض توريث الحكم من معاوية لابنه يزيد لأول مرة في التاريخ الإسلامي، فلا غرو أن نخصص تلك المساحة لهذه الشخصية التي كانت ملكية أكثر من الملك، والتي يكاد لا يخلو منها عصرٌ ولا قُطر في عالمنا.
دخولٌ مفاجئ على المسرح
ينتسب بسر بن أبي أرطأة إلى قبيلة قريش، ولا يُعرَف له تاريخ ميلادٍ مُحدّد. يذكر أبو القاسم بن عساكر في كتابه «تاريخ دمشق» أن بُسرًا قد شاركَ في فتح مصر، وبنى لنفسهِ دارًا بها ثم سكن فيها لفترةٍ بعد الفتح، لكنه سكن دمشق بعد ذلك، والتي كان واليها معاوية بن أبي سفيان في أواخر عهد الفاروق عمر ثم عهد الخليفة عثمان بن عفان، رضي الله عنهم.
وقد اختلفت المصادر التاريخية في كونِه قابل رسول الله، عليه الصلاة والسلام، أم لا، وبالتالي في كونِه صحابيًا من عدمه، ولذا اختلفوا في صحة رواية الأحاديث النبوية التي وردتْ عنه، وقد وصفه يحيى بن معين، أحد أشهر أعلام علم الحديث في التاريخ الإسلامي بأنَّه رجل سوء، ونقل ابن معين عن أهل المدينة المنورة وعلمائهم إنكار أن يكون بُسر بن أبي أرطأة قد سمع بشكلٍ مباشر من الرسول عليه الصلاة والسلام.
ويذكر الواقديّ أن بُسرًا قد ولد قبل عامين فحسب من وفاة الرسول، وهذا الرأي يجعل من المستحيل أن يكون قد صحبَه، ويجعل حتى روايات مشاركته بفاعلية في فتح مصر غير منطقية، ففتح مصر قد بدأ منذ عام 19هـ، وهذا يعني أن عمره كان 10 سنوات عندما بدأ الفتح.
بُسر ومعاوية
ارتبط اسم بُسر بن أبي أرطأة، وأخطر أدواره السياسية والعسكرية بالصعود السياسي لمعاوية بن أبي سفيان، والذي نجمَ بعد استشهاد الخليفة عثمان بن عفان، الذي اتَّخذ معاوية من مصرعه المروّع عنوانًا سياسيًا عاطفيًا مؤثرًا، جمع حولَه كثيرًا من الأنصار، لا سيَّما أهل الشام الذي ظلَّ معاوية واليًا عليه كليًا أو جزئيًا لأكثر من 17 عامًا، ونجح بعد اصطدامه بالخليفة الرابع الإمام علي، كرم الله وجهه، في أحداث الفتنة الكبرى المشهورة في انتزاع عرش الخلافة الإسلامية عام 41هـ.
وكان بُسر بن أبي أرطأة في الشام عندما استُشهِدَ الخليفة عثمان أواخر عام 35هـ، وانضمَّ فورًا إلى جيش معاوية الذي رفع رايات الثأر لدمِ الخليفة المظلوم، وشهد موقعة صفين الكبرى 37هـ مقاتلًا في صف معاوية ضد جيش العراق الذي قاده الإمام علي، وتعزَّزت مكانته بين أنصار معاوية لبلائه القوي في تلك المعركة، وأصبح أهلًا لمهام أخطر.
اقرأ: تعظيم معاوية وشبهة إضفاء القداسة على الظلم.
غزوة الحجاز واليمن عام 40هـ
انتهتْ موقعة صفين بنتيجة أشبه بالتعادل، وفشل الحرب والمفاوضات السياسية في التحكيم المشهور في حسم الصراع الشديد بين الخليفة الرابع علي بن أبي طالب والذي كان مسيطرًا على العراق وخراسان (إيران وأفغانستان) والحجاز واليمن، ومعاوية أمير الشام المتمرد، والذي نجح في ضم مصر أيضًا، وبذلك أصبح تحت إمرته أغنى الأقاليم الإسلامية.
كان موقع معاوية ماديًا وعسكريًا أفضل من الإمام علي، فقد انشغل الأخير بقتال الخوارج الذين كفَّروه لقبوله بالصلح والتحكيم مع معاوية، ثم أرهقته نزاعات قبائل العراق وتنافساتها البينية، ونجاح معاوية في شراء ذمم وولاءات بعض قادة العراق سرًّا، فعطلوا جهود الإمام علي في القيام بأعمال عسكرية فعالة لحسم الصراع مع الشاميين.
استغلَّ معاوية أفضليّته، وقرَّر أخذ زمام المبادرة، فأرسل بُسر بن أبي أرطاة ليشن هجومًا خاطفًا ينتزع به الحجاز واليمن من حكم علي، وكان هذا على أرجح الروايات مطلع عام 40هـ، لكن رجَّحت مصادر أخرى أن تلك الغزوة وقعت عام 39هـ.
احتلَّ جيشُ بُسرٍ مدينة الرسول من دون مقاومةٍ تُذكر بفعل المباغتة، ونكَّل بأهلها كثيرًا متهمًا لهم بالتواطؤ ضد الخليفة عثمان بتركِ الدفاع عنه ضد المتمردين، فدخل بقواته الحرم النبوي، ثم أمرَ بسدّ أبوابه، وهمَّ أن يقتل كل من فيه من أهل المدينة، لولا أن أقنعه أحد وجهاء المدينة وهو الأسود بن أبي البختري بألا يفعل ذلك.
واحتلَّ المدينة شهرًا كاملًا، كان يقتل فيه بالشُّبهة كلُّ من يتهمه بأنه كان شريكًا في قتل عثمان، ويهدم منزله، وذُكر عن التابعي الشهير عامر الشعبي قوله، إن بُسرَ قد هدم كثيرًا من منازل المدينة المنورة في تلك الغزوة، وأخذ البيعة لمعاوية عنوة من أهل المدينة. ثم في طريقه جنوبًا، قتل بعض أفراد قبيلة بني كعب وألقى جنوده جُثثهم في أحد الآبار.
توجَّه بُسر بعد ذلك إلى اليمن، حيث فتك بالعديد من أنصار الإمام علي وخصوم معاوبة، ومنهم عمرو بن الديّان والذي كان له دورٌ كبير في ثبات قومِه على الإسلام بعد اندلاع موجات الردة إثر وفاة الرسول، صلى الله عليه وسلم، وقتل عبد الرحمن وقُثَم ابنيْ والي اليمن للإمام علي، عبيد الله بن عباس، ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانا غلاميْن صغيريْن، طاش عقلُ أمهما لقتلهما بدمٍ بارد، وكاد يقتل حشدًا من النساء تظاهرنَ ضدَّه معترضين على الجرائم التي فعلها.
ونُسب إليه في تلك الغزوة سيئة السمعة سبيْ بعض نساء خصومه المسلمات وبيعهنَّ في سوق الرقيق، وهي سابقة في تاريخ الإسلام آنذاك. كما قتل أكثر من مائتيْن شخصٍ من الذي حاربوا في صف الإمام علي في موقعة صفين. ولمَّا بلغت أنباء غزوة بسر الإمامَ علي، أرسل من فوره جيشًا بقيادة جارية بن قدامة، استعاد به السيطرة على الحجاز واليمن وقتلَ بعض أنصار بُسر الذي فرَّ إلى الشام، لكن لم تُمهل الأقدار الإمام علي، حيث اغتيل في نفس العام 40هـ على يد ابن ملجم الخارجي.
وظلَّ لبُسر مكانة مهمة في دولة معاوية، فذكرت بعض المصادر أنه قد ولاه قيادة القوات البحرية وهو من المناصب العسكرية الهامة، لا سيَّما مع اشتداد الحرب ضد الروم البيزنطيين- المتفوقين بحريًا- في جبهاتٍ عديدة. كما قاد غزوة الشتاء ضد الروم عدة مرات منها عاميْ 44هـ و 51هـ، وتنقل كتب التاريخ مواقف له في ساحات القتال اجتمع فيها الجرأة والشجاعة مع التهور والاندفاع. وقد لعبَ دورًا كبيرًا في حملة معاوية السياسية لفرض توريث العرش إلى ابنه يزيد، والتي استخدم فيها معاوية العصا والجزرة، فكان بُسر من أهم أوراق الترهيب في يد معاوية.
اقرأ: قصة المعارض السياسي الذي قضى تحت سياط الخليفة العادل.
في حضرة معاوية
من المواقف المشهورة لبسر بن أبي أرطأة في عهد معاوية، الاشتباك الذي حدث في مجلس معاوية بينه وبين زيد بن عمر بن الخطاب، وكان لزيدٍ مكانة خاصة في المجتمع الإسلامي في ذلك الوقت، فقد كانت من نسل خليفتيْن راشديْن، فوالده الخليفة العادل عمر، وجده لأمِّه أم كلثوم، هو الإمام علي كرم، الله وجهه، كما كان يتمتع بجمال الخلُق والخِلقة معًا بشهادة معاصريه، فكان يجتذب الأعين والعقول في كل مجلس يحضره، فكان يخشاه معاوية لمكانته.
في ذلك اليوم، فوجئ الحاضرون في مجلس الخليفة في دمشق بتصاعد لغة النقاش بين زيدٍ وبُسر، وتطاول الأخير باللفظ على زيد، فما كان من زيد إلا أن اشتبك معه بالأيدي، وخنقه، ثم صرعه أرضًا فيما يشبه لمس الأكتاف بلغة المصارعة الحديثة، ثم انصرف زيدٌ غاضبًا من المجلس، وهو ينظر إلى معاوية بغضبٍ متهمًا إياه بأنه قد دبّر تطاول بُسر عليه، ومُهددًا الخليفة من طرفٍ خفي بمنزلته الاجتماعية والسياسية قائلًا له:
فشعر معاوية بالحرج، واعتذر لزيدٍ، وحاول استرضاءَه بمنحه تعويضًا ماليًا وفيرًا.
اقرأ: عمرو المقصوص .. علَّم الخليفة العدل فقتله الأمويُّون.
نهاية بُسر المفاجئة
اختفى بُسر فجأةً عن الأضواء لسنواتٍ عديدة في آخر حياته، ويُقال إنَّ هذا الاختفاء كان لأسبابٍ مرضية، فقد أصيب بالخَرَف والوساوس مع شيخوخته، فكان يكلم أشخاصًا غيرَ موجودين، وشاهده البعض كما ينقل ابن عساكر يصيح في الشارع أين عثمان؟ أين شيخي، ويُشهر سيفَه في الفراغ، فصُنِع له سيفٌ من الخشب مخافةً أن يقتل أحدًا.
وتُوُفَّيَ على أرجح الأقوال في عام 86هـ، وإن رجَّحت مصادر تاريخية أنه توفي قبل ذلك في أواخر عهد معاوية (توفي 60هـ) وأُخرى أنه توفي في عهد عبد الملك بن مروان. ويذكر المسعودي في مروج الذهب أن الإمام علي قد دعا على بُسر عندما بلغته جرائمه بأن يذهبَ الله بعقله.
اقرأ: أبو بلال مرداس .. خارجي عارضَ الأمويين والخوارج
ويحرص السلفيون المعاصرون في المُجمل على الدفاع عن بسر بن أبي أرطأة، مستخدمين أدوات نقد الحديث النبوي في رمي الروايات التي يرونها مُسيئة لبُسر، بانقطاع السند. رغم اشتهارها وتداولها بكثافة في كتب التاريخ السُّنية قبل غيرها، ويسارعون إلى إلصاق بعض التهم الجاهزة بمن يخالف وجهة نظرهم في ذلك السياق، لا سيَّما تُهم التشيُّع وسب الصحابة. وقد سبقهم بقرون بعض علماء أهل السنة في الدفاع بالسكوت وبالتغاضي- إن جاز التعبير – عن بُسر بن أبي أرطأة، مثلما ينقل الحافظ ابن حجر العسقلاني في «الإصابة في تمييز الصحابة» عن إمام علم الحديث ابن حبان قوله عن بُسر:
وعنونَ الحاكم النيسابوري (توفي 405هـ) فصلًا تحدث فيه عن بُسر في كتابه «المُستَدرَك على الصحيحيْن» بقوله: بسر بن أبي أرطأة، رضي الله عنه.
وختامًا، ليس هدفُنا هنا بحث مصير شخصٍ رحل عن دنيانا قبل 14 قرنًا، وصار بينَ يديْ بارئه يُحاسبه بميزان العدل المُطلَق، إنما نبتغي إعادة قراءة تاريخ الأمة الإسلامية، الذي يمثل أحد أهم محدَّدات هويتها وشخصياتها، بموضوعية ويإنصافٍ وبصراحة، مقيمين الشهادة لله بالقِسط من دون الاستسلام لنظرات تقليدية تأثرت بقهر السلطان، وبسطوةِ المنتصرين، وبتحكمات المذهب والطائفة، وتضفي- بعمدٍ وبغيرِ عمد- القداسة على أفعال الظلم.