اكتئاب عيد الميلاد: أن يضربك الحزن من حيث لا تتوقع
سابرينا هي فتاة صاحبة فيديو شهير بعنوان «فتاة تصف معاناتها مع الاكتئاب»، تحكي فيه بدقة في محادثة متخيلة مع والدتها ماذا يعني أن تكون مريض اكتئاب مزمن، وبغض النظر عن جملها القوية المؤثرة، التي قد تصيب أي مكتئب بنوبة اكتئاب جديدة بسبب فقط الطريقة التي تصف بها معاناتها، إلا أن الجملة السابقة من أكثر الجمل واقعية في حديثها. فمن أسوأ ما قد يختبر المرء من مشاعر هو أن يجبر نفسه على الشعور بالاستمتاع وهو لا يشعر بأي شيء من الأساس. هذا الإجبار يأتي مع قدر أكبر من كره الذات والإحساس بالذنب، والتساؤل المستمر بـ«ما هي مشكلتي بحق الإله؟!».
إنه لمن الطبيعي أن يشعر أي مكتئب بكل أعراض كره الذات التي تحدث نتيجة لإحساس الذنب المستمر الذي يعتبر من العلامات المميزة للاكتئاب، ولكن الغريب بالفعل هو أن يكون شخصًا سويًا، غير مشخص بمرض الاكتئاب، يختبر كل تلك المشاعر في فترة من المفترض أن تكون سعيدة!
على الرغم من أن «اكتئاب عيد الميلاد» غير مصنف من أنواع الاكتئاب الموجودة في الدليل التشخيصي والإحصائي الخامس -DSM5-، وهو المرجعية الأساسية للعاملين في المجال النفسي لتشخيص الأمراض والاضطرابات القوية منها والطفيفة، فإنه مصطلح علمي متداول في الأوساط العلمية، بالأخص لدى المهتمين بالدراسات المقارنة سواء بين الجنسين أو بين مرضى الاكتئاب بمختلف مرجعياتهم البيولوجية والأسرية وغير المرضى.
تهتم تلك الدراسات بفهم أسباب الحالة التي تسمى «اكتئاب عيد الميلاد» أو «Birthday Blues» الذي يعرف على أنه:
يعتبر اكتئاب عيد الميلاد شكلاً من أشكال «الاكتئاب العرضي – Situational Depression» ، الذي يعني أن يختبر الفرد بعض أعراض الاكتئاب، من دون أن يكون مريض اكتئاب فعلي، في مواقف معينة، ومن أشكاله الأخرى الاكتئاب الموسمي الذي يرتبط بفصول العام أو اكتئاب الأعياد والمناسبات. فمن يعانون من حالة اكتئاب عيد الميلاد تلك، كلما اقترب يوم مولدهم شعروا وكأنهم سقطوا في بئر عميقة من الأفكار المؤرقة، إضافة إلى إحساس عام بالخنق وفقدان الجدوى دون معرفة سبب حقيقي لذلك. ومع منغصات الحياة اليومية التي تقابل أي شخص، وقدر قليل من لوم الآخرين، يجد الفرد نفسه أمام إحساس مستمر بالذنب فقط لأنه لا يستطيع أن يتماشى مع الجو العام -السعيد من المفترض- المصاحب لعيد ميلاده، يجد نفسه مجبراً أن يحظى بالسعادة وهو لا يريد أن يحظى بالسعادة، لا يشعر بأي نوع من أنواع السعادة! فقط يريد أن يختبئ في سريره، حيث المكان الآمن الوحيد في العالم، فقط مثل سابرينا!
صدماتك النفسية الطفولية تؤثر بك أكثر مما تتخيل، احذر!
في فيلم «رحيق عطلة الصيف – Aftersun» الذي -جزئياً- يناقش موضوع اكتئاب عيد الميلاد، يحكي الوالد «كولم» لطفلته صوفي في عيد ميلادها الحادي عشر عن ذكرياته مع عيد الميلاد الحادي عشر له، ليقوم بوصف مشهد محزن للغاية لطفل لم يتذكر أحد يوم مولده، وعندما طلب الاحتفال به مثله مثل أي طفل في نفس عمره تمت معاملته بعنف وقسوة وتسرب له لوم بشكل غير مباشر لأنه كثير الطلب.
يعرض الفيلم بشكل مبهر رحلة «كولم» مع الاكتئاب، وكيف يحرص دومًا ألا ينقل هذه اللعنة لمحبوبته الصغيرة، حتى لو تطلب منه ذلك أن يشاركها في الاحتفال بعيد ميلادها مع اقتراب عيد ميلاده الذي يصاحبه نوبة اكتئاب جديدة.
ترجع الدراسات المقارنة السابق ذكرها أسباب اكتئاب عيد الميلاد إلى عديد من الأشياء، ولكن أهمها وأكثرها تأثيرًا على الأفراد هو «الصدمات النفسية من الطفولة- childhood trauma» التي تعني الأحداث السلبية التي تحدث في طفولة الفرد وتستمر عواقبها في التأثير على صحته النفسية وهو راشد، مثل انفصال الوالدين أو الإهمال العاطفي للطفل.
ومن أنواع الإهمال العاطفي للطفل الأكثر انتشارًا، وخصوصًا في المجتمعات النامية والطبقات الاجتماعية والمادية المتدنية كما أوضحت الدراسات، هو عدم الاحتفال بعيد ميلاد الطفل. حينئذ يقارن الطفل نفسه بزملائه وأقرانه ويجد أنه لا يحصل على نفس ما حصلوا عليه، فيبدأ تلقائيًا في لوم نفسه وأنه بالتأكيد ليس جيدًا بشكلٍ كافٍ، ومن هنا بالضبط تبدأ رحلة الطفل مع الاكتئاب بشكل عام واكتئاب عيد الميلاد بشكل خاص.
على الرغم من أن كولم في الفيلم لم يكن أبًا سيئًا أبدًا، فإن الاكتئاب كان أقوى منه، فلقد أثرت حالة اكتئاب عيد الميلاد على طريقة تعامله مع صوفي في هذا اليوم، لتجد منه قسوة وإهمال يندم عليهما فيما بعد، فحتى مع محاولاته المستمرة لأن يكون أبًا جيدًا، ينتصر الاكتئاب للأسف.
قلق وأسباب أخرى
بخلاف الصدمات النفسية من الطفولة، هناك سبب أكثر وضوحًا ومنطقية وهو القلق. فالقلق هو صديق الاكتئاب الوفي اللذان لا يذهبان أي حفلة إلا معًا، وللأسف الشديد مرضى الاكتئاب بأنواعه هم الحفلة هنا. فيعاني الفرد مع اقتراب يوم مولده من القلق من الفشل، حيث يقارن نفسه الحالية بالنسخ القديمة منه، يرصد الإنجازات التي حققها في العام المنصرم، ليجد أن الإجابة هي صفر! في الواقع أنه بالتأكيد ومن المستحيل ألا يحقق الفرد أي شيء يستحق الذكر في عام كامل، إلا أن نظرة الفرد المضطربة عن نفسه تجعله يرفض الاعتراف بأي إنجازات على أنها شيء مهم.
والسبب الثاني الذي يعتبر من عوامل اكتئاب عيد الميلاد هو القلق من التقدم في العمر، بالأخص إن كان الفرد يقوم بمقارنة نفسه بالآخرين أو بالمعايير المجتمعية التي تحدد له مسبقًا، مثل التوقيت المثالي لكل الأشياء. ففي مجتمعاتنا العربية مثلًا، هناك عمر محدد للزواج، الانتهاء من التعليم والترقي الوظيفي، وإن فوت الفرد هذه السن إذًا فهو فاشل بالتأكيد. لذلك مع اقتراب عيد الميلاد يبدأ الفرد في التحقق من قائمة الإنجازات تلك الذي عليه أن ينتهي منها قبل سن معينة، وإن كان فيها عنصر واحد مفتقد يبدأ الفرد في لوم نفسه.
أخيرًا، كن رحيما بنفسك..
كن رحيمًا بنفسك، لأنه في الأغلب لن يكون هناك من هو أرحم منك عليك. فالخبر الجيد الوحيد المتعلق بالاكتئاب أيًا كان نوعه أنك بالتأكيد أقوى منه، حتى وإن كان سببه بيولوجيًا بحت، تستطيع مع ذلك أن تتحكم به. هناك قاعدة ذهبية في «العلاج المعرفي السلوكي – Cognitive behavioral therapy»، وهي:
وعلى الرغم من بساطة الفكرة السابقة فإنها مع ذلك صعبة التنفيذ، تحتاج لكثير من التدريب وحب الذات حتى تستطيع تطبيقها والتعامل بها مع الأفكار الاكتئابية.
أساس هذا المبدأ هو مراقبة الأفكار الداخلية، وفي حالة اكتئاب عيد الميلاد عليك مراقبة أفكارك عن نفسك، عن أهدافك في الحياة؛ هل هي أهدافك الشخصية؟ أم إنها مجرد أساطير خارجية بالتأكيد لا تتناسب مع الجميع؟ كما عليك مراقبة الطريقة التي تحب بها نفسك، وخصوصًا مع اقتراب ذكرى يوم مولدك، وأثناء ذلك تذكر أن الشخص الوحيد المهتم بأمرك حقًا هو نفسك، بالتالي يستحق منك أن تحتفل أنكم مضيتوا معا عام جديد محاولين التفاهم والتغيير. كل عام وكل محاربي الاكتئاب بكل أشكاله وأنواعه بخير وسلام.