«الرجل الطائر»: الواقعية السحرية في هوليوود

يقدم المخرج المكسيكي أليخاندرو جونزاليس إيناريتو فيلمه الجديد Birdman أحد أهم أفلام العام، والمرشح لـ 9 جوائز أوسكار.

هذه المرة يخرج إيناريتو عن تيمته المعتادة ليقدم فيلمًا أمريكيًا شكلا وصناعة؛ من بطولة مايكل كيتون Michael Keaton، فى دور ممثل متقدم فى السن يبحث عن العودة تحت أضواء الشهرة بإخراج وإنتاج وكتابة وتمثيل مسرحية «عم نتحدث عندما نتحدث عن الحب»، مستأجرًا مسرحًا في قلب برودواى بمدينة نيويورك. يحكي الفيلم عن ريغان (كيتون) الذي اشتهر بدوره فى سلسلة أفلام «الرجل الطائر» محققة الأرباح والشهرة، ولكنه توقف بعد الجزء الثالث منذ 20 عامًا؛ وهو الآن مجرد عجوز مطلق مكروه من ابنته، وعلاقته بحبيبته على حافة الانهيار.

يقدم الفيلم بطريقة الواقعية السحرية Magic Realism المبتدعة من موطنه الأصلى المكسيك. فالقصة واقعية لكنك ستشاهد تصرفات غير طبيعية تخدم مضمون الحدث. فبداية الفيلم عبارة عن رجل يجلس متربعًا فى جلسة استرخاء.. المشكلة أنه مرتفع عن الأرض ومعلّق في الهواء!

هناك تشابه يسترعي الانتباه بين كيتون وشخصيته فى الفيلم. فهو أيضا قد اشتهر فعليًا بسلسلة أفلام باتمان Batman التي حققت له المال والشهرة، ثم أفل نجمه فلم نعد نشاهده في أدوار بطولة منذ فترة طويلة، لدرجة أنه في لقاء مع أوباما سأله: «لماذا توقفت عن التمثيل؟». لكنه فى الحقيقة لم يتوقف.. بشكل عام كيتون ينكر هذا الاتهام.

ترشح كيتون عن دوره لأول أوسكار له وهو في الثانية والستين من عمره، فى واحدة من أقوى العودات لممثلين ظننا أن مسيرتهم انتهت. يذكرنا بميكى روك في «المصارع The wrestler» في أحد أجمل أدوار التاريخ.

مما يسترعى الانتباه أيضًا أن تصوير الفيلم أظهره كمشهد واحد دون تقطيع؛ أي أن الكاميرا تجولت في طول المسرح وغرف الممثلين دون قطع! بالتأكيد لم يتم تصوير الفيلم كمشهد واحد، لكن إيمانويل لوبيزكى، مدير التصوير، الحائز على الأوسكار 2014 عن فيلم Gravity، والمرشح لها هذا العام، استخدم كل حرفيته ليظهره بهذا الشكل، مما أضفى الحيوية على فيلم مصور داخل مكان مغلق.

حركة كاميرا ناعمة تراها تتهادى داخل الطرقات الضيقة للمسرح، وأضواء مميزة على خشبة المسرح توحي بالحياة، تقابلها أضواء داكنة داخل غرف الملابس تضيف انقباضًا للانقباض الذي يشعر به الممثلون.

وكما كان التصوير بطورين، فالموسيقى أيضا كانت كذلك. فنسمع الجاز والطبول مع دخول الممثلين للمسرح، مضيفة توترًا لتوتر الكاميرا؛ في حين ترافق الموسيقى الهادئة المشاهد الحوارية بين ريغان وبين زوجته وابنته.

(2)

بشكل عام الفيلم احتفاء بالمسرح والأجواء في برودواي. ربما أثرت خلفية المخرج كمخرج حلقات تليفزيونية وعروض غناء على تصوره عن المسرح.

المشاهد مفعمة بحيوية الألوان المبهجة، وموسيقى جاز وطبول مع حركة الكاميرا النشطة والتمثيل المليء بالحوارات الطويلة. كل هذا صنع ساعتين مفعمتين بالحيوية.

يوحى صانع الفيلم لنا بأن ما يعانيه ريغان هو شعور بعدم التقدير والرغبة في إثبات الذات. الأمر ليس بتلك المثالية. سترى أمامك رجلًا لم يستطع التغلب على أنانيته، امتلأت روحه بسموم الشهرة فتضخم ذاتيًا. طوال الفيلم يتخيل نفسه رجلًا خارقًا يحرك الأشياء عن بعد، ويطير في سماء نيويورك -في أحد أجمل مشاهد الفيلم-، تحدثه نفسه بأفكار العظمة، افتقد الالتزام نحو أقرب الأقرباء فآذى كل من حوله، زوجته التي خانها في آخر ذكرى زواج بينهما، وما زالت تحافظ على حبها له، وابنته التي تركها مهملة فأدمنت المخدرات. حاول أكثر من مرة إلغاء العرض خوفًا من الفشل. المشكلة الأكبر أنه يدرك كل هذا، مما خلق داخله صراعًا بين شخصين: ما هو عليه، وما يريد أن يكونه.

(3)

في مشهد بينه وبين ابنته، تواجهه بتلك الحقائق المؤلمة. الطفلة التي أهملها كبرت لتصبح مدمنة مخدرات وكحول لأبوين مطلقين. الوضع ليس بهذا السوء، الرجل يحاول قدر الإمكان إصلاح ما أفسدته يداه. يخبر ابنته كم تمنى لو كان أبًا أفضل. وفي أحد أرق مشاهد الفيلم، يخبر زوجته كم تمنى لو تجمعوا هم الثلاثة ثانية.

شخصية كيتون هي عمود الخيمة للفيلم؛ شخصية مليئة بالمخاوف والهلاوس والحماقة. الكادرات معظمها قريب close shot ولكن كيتون أجاد التعبير بوجهه ببراعة أدهشتنى على الرغم من معرفتي بحرفيته.

اكتمل التضاد مع شخصيات مساعدة غريبة الأطوار تليق بممثلين مسرحيين:

قدم إدوارد نورتون Edward Norton أداءً مميزًا لممثل مسرحي شديد البراعة وغريب الأطوار. لا يهتم هو الآخر بمن حوله، شديد الاتصال بالمسرح لدرجة أنه لا يشعر أنه طبيعي إلا أمام الجمهور. في أحد أغرب مشاهد الفيلم، يشعر بـ «الانتصاب» على خشبة المسرح على الرغم من معاناته من ضعف الانتصاب في الحياة الحقيقية!

ظهور مايك (نورتون) صنع نوعًا من الصراع بينه وبين ريغان على التحكم في شكل المسرحية. شخصيتان متقابلتان: ريغان المليء بالمخاوف، ونورتون العفوي الغير مبالٍ. مشاهد حوارية طويلة دارت بينهما فيها شيء من الافتعال، لكنها أضفت حيوية افتقدت في الجزء الأخير من الفيلم. نورتون مرشح للأوسكار كأحسن ممثل مساعد؛ في ظنى أنه لن ينالها، فدوره ليس بالأهمية الكافية.

في حين قدمت نعومي واتس Naomi Watts التي عملت مع إيناريتو من قبل في «21 جرام»K دور فتاة عصابية راغبة في النجاح، بأداء ممتاز لكن معتاد منها؛ ربما لهذا لم تترشح للأوسكار. أما إيما ستون Emma Stone، التي لعب دور سام، ابنة ريغان، فأظنها حصانًا رابحًا جديدًا في عالم هوليوود.

المثير للاهتمام بالنسبة لي كان أداء أندريا رايزبورو Andrea Riseborough، في دور حبيبة ريغان، ملامح وجهها القلقة من حماقة ريغان، مضافة لحماقتها الشخصية، جعلت من دورها علامة مميزة على الرغم من قلة جملها الحوارية. قدمت ليندسي دنكان Lindsay Duncan دور الناقد الفني بارد الملامح والقلب بأداء لا ينسى. أظننا سنراها في أفلام كثيرة الفترة المقبلة.

وسط غريبي الأطوار هؤلاء، قدمت أمي رايان Amy Rayan أحد أرق أدوارها، على الرغم من أنها لم تظهر إلا في مشهدين، ولكنهما كانا مركبين مليئين بالمشاعر. هي تركته لحماقته لكنها ما زالت تحبه. كل ملامحها تشى بهذا. تريد أن تكون بجواره في لحظاته تلك. قبلة النهاية اختصرت الكثير.

(4)

«من لم يشاهد الفيلم عليه تخطى هذا الجزء والانتقال للجزء الأخير»

ريغان الباحث عن تقديره لذاته وتقدير الناس له لم يستطع تحمل كل هذا. في نهاية مسرحيته انتحر أمام الجمهور، ولكنه حقق ما يرغب فيه في النهاية. نجحت مسرحيته وأصبح حديث الوسط المسرحى. وصل لنوع من السكينة حتى لو كانت بهذه الصورة الغريبة. نهاية مثيرة للجدل بشكل عام.

(5)

كفيلم مرشح لتسع جوائز أوسكار، ولو وضعناه في ميزان الجوائز، فهو أقل قيمة من «BOYHOOD». ربما تكون أقرب الجوائز إليه أفضل ممثل لكيتون، والتصوير للوبزكي Lubezki. أما أحسن فيلم ومخرج فغير محسومة، وبالأغلب أحدهما من نصيبه.

يقدم لنا إيناريتو فيلمًا مليئًا بالسينما، إذا جاز القول. انفجار في الصورة والصوت والمشاعر، يستحق ما ناله من اهتمام، وبالتأكيد يستحق المشاهدة.