إعادة اكتشاف الشوارع: موجز سيرة «السترات الصفراء»
دخان يعبئ الهواء، متاريس تملأ الشوارع، ها هي «الحرية، الإخاء، المساواة» تجسدها شعارات أحفاد من ماتوا في سبيلها قبل قرنين، وباريس الغاضبة تستعيد ذكريات ثوار الكومونة.
طفرة هائلة من الحس الاجتماعي والتلاحم اجتاحت أولئك الذين كانوا ينظرون إلى أنفسهم من قبل على أنهم دُمى معزولة وعاجزة تتحكم فيها مؤسسات لا يستطيعون السيطرة عليها أو فهمها.
هكذا وصف دانييل سينجر ذات يوم الباريسيين في انتفاضة مايو/آيار عام 1968، وهكذا يمكن وصف أصحاب السترات الصفراء اليوم. «السترات الصفراء» حراك بدأه 8000 متظاهر في العاصمة باريس، 136 ألفًا في كامل فرنسا، يضم خليطًا غير متجانس من المتظاهرين أعمارهم مختلفة، آراؤهم متباينة، توجهاتهم متناقضة، عاطلون عن العمل وموظفون ومتقاعدون. حاول اليمين القفز على حراكهم مثل ماري لوبان، وحاول اليسار نسبتهم إليه مثل جان لوك ميلينشون، لكن غالبية المتظاهرين فضلوا الانتماء للسترات الصفراء وحدها.
في العام 2008، صدر قانون فرنسي يُلزم سائقي السيارات بارتداء سترات صفراء عند خروج السيارة عن الطريق لأي سبب من أجل لفت أنظار باقي السائقين. بعد 10 أعوام، يأتي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بفرض ضريبة على أسعار الوقود تشمل الأفراد بشكل أساسي بينما يُعفى منها العديد من الأنشطة التجارية وأصحاب بعض المهن. الهدف المعلن من الضريبة هو حث الأفراد على تقليل استخدام الوقود للحفاظ على البيئة. يتداخل الحدثان بقرارٍ شعبي أن أوان الخروج عن المسار قد حان، وأصبحت الحاجة ضرورية لارتداء السترات الصفراء.
اقرأ أيضًا:في فرنسا: السترات الصفراء في المواجهة ضد رئيس الأغنياء
الربيع الفرنسي
منشورٌ على إحدى صفحات موقع التواصل فيس بوك يغرس البذرة الأولى لثورة 25 يناير/كانون الثاني عام 2011 في مصر. بيانٌ طلابي تحت عنوان البؤس الطلابي واقتراح متواضع لعلاجه يُصدر الشرارة الأولى لانتفاضة مايو/ آيار عام 1968 في فرنسا. فلا عجب أن تبدأ الدعوات تتبلور لهذه الحركة في أكتوبر/ تشرين الأول 2018 عبر مواقع التواصل عبر فيديو أطلقته جاكلين موراود تنقل فيه معاناة السائقين إلى الرئيس الفرنسي. لاقى الفيديو انتشارًا هائلًا مما لفت النظر إلى عريضة تطالب بإيقاف ضريبة الوقود كانت قد أُنشئت قبل نشر الفيديو.
في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني يحاول عدد من مرتدي السترات الصفراء التواصل مع ماكرون أثناء زيارته لمدينة ألبرت، لكن منعتهم الشرطة. بعدها في 14 من نفس الشهر يضع رئيس بلدية موربيك، في الشمال، سترة صفراء ضخمة على واجهة قاعة المدينة تضامنًا معهم. لذا سرعان ما بلغت الأحاديث والأحداث المتناثرة طور الفتوة في 17 نوفمبر/تشرين الثاني من نفس العام. شكاوى المواطنين تتجاوز نسبة الزيادة في سعر الوقود إلى الحديث عن غياب المساواة بين الأغنياء والفقراء وتدّني القوة الشرائية للمواطنين بجانب زيادة الضرائب، تكون المظاهرات.
سبت القيامة (17 إلى 23 نوفمبر/ تشرين الثاني)
البداية في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني مع تظاهرةِ غير مُعلنة في سافوي، يقع فيها في بداية اليوم 16 إصابةً طفيفةً لاحتكاكات بين المارة الغاضبين والمتظاهرين.يبدأ العشرات مسيرتهم نحو جادة الشانزليزيه ومنها يتجهون إلى قصر الإليزيه ثم يتجمعون في ساحة الكونكورد. بعد الظهيرة يتجمع 200 شخص أمام مقر الولاية فتقابلهم الشرطة بالقمع. الأعداد في السبت الأول وصلت إلى ما يربو على 287 ألف متظاهر، مات منهم واحد، وجُرح 409، وتم اعتقال 117 فردًا. والتصريح الرسمي على لسان رئيس الوزراء إدوارد فيليب أن الحكومة لن تتراجع.
في اليوم التالي يبدأ موكب من السيارات في التحرك صوب موقف سيارات ديزني لاند في باريس. تقديرات الشرطة تقول إن عدد المُتحركين وصل إلى 46 ألفًا، أما في التاسع عشر يبلغ عدد المتظاهرين 27 ألفًا. تضطر الشرطة إلى فرض حظر التجوال في 20 نوفمبر/ تشرين الثاني من الساعة 9 مساءً حتى 6 صباحًا، لكن لم يمنع ذلك المتظاهرين. وظهر ذلك جليًا في اعتقال أكثر من 650 حالة اعتقال في اليوم التالي الذي شهد تظاهرات أكثر من 15 ألف شخص في جزيرة ريونيون.
السبت الثاني (24 إلى 30 نوفمبر/ تشرين الثاني)
في يوم 24 من نفس الشهر بدا المتظاهرون منقسمين، بعضهم يفضل الذهاب إلى باريس والتمركز فيها، وآخرون يفضلون البقاء في مختلف المدن الفرنسية. يتوجه المتظاهرون نحو باريس حيث المتاريس تناصبهم العداء، وحواجز هائلة لكن الغضب أقوى، فيُضطر الضباط تحت ضغط الأعداد بالسماح لهم بالدخول إلى جادة الشانزليزيه. لم يكن المكان فارغًا، قنابل الغاز المُسيل للدموع ومدافع المياه تحاول الثأر لكرامة المتاريس والحواجز.
نشأ العنف، جدل دائر إلى الآن من بدأه، لكن 24 جريحًا، 5 من الشرطة، و100 معتقل لا يهتمون كثيرًا بمن بدأه. في نهاية اليوم أصدرت الداخلية بيانها أن عدد المتظاهرين 106 آلاف في كامل فرنسا، 8000 فقط في باريس، لكن في 2 ديسمبر/ كانون الأول تم تصحيح الرقم إلى 166 ألف متظاهر.
السبت الثالث: (1 إلى 3 ديسمبر/ كانون الثاني)
تتهشم واجهة أحد بنوك باريس منذرةً ببعث الحراك من جديد. مرسيليا وديجون وتولوز وبوردو شهدت عدة حرائق بسبب قذائف مولوتوف ألقاها المتظاهرون على المحال والمنشآت المحيطة بهم، كما منعوا شاحنات الإطفاء من الوصول إلى الحرائق. قوس النصر أيضًا تصله آثار التخريب. انتهى اليوم باعتقال 412 شخصًا، وإطلاق أكثر من 1000 قنبلة غاز مسيل للدموع على أكثر من 136 ألف متظاهر في أنحاء فرنسا.
الطلاب هنا، في 3 ديسمبر/ كانون الثاني دخلت أكثر من 100 مدرسة ثانوية على خط التظاهرات. زادت حدة الزخم بسبب اعتقال أكثر من 118 طالبًا، بجانب أكثر من 700 اعتقال في هذا اليوم. وظهرت «السترات البرتقالية» التي قامت بمنع محطات البنزين من ملء خزاناتها بالوقود مما تسبب في شلل أكثر 300 محطة خدمة.
الحكومة تكتشف المتظاهرين
في 4 ديسمبر/ كانون الثاني 2018 تنطق الحكومة. الرد الرسمي، حتى الآن، جاء بتعليق فرض الضرائب لمدة 6 أشهر، وتجميد رفع أسعار الكهرباء والغاز المُعتاد في شتاء كل عام. وأردف الحكومة ضرورة أن تُجرى مباحثات مع زعماء المعارضة للتوصل إلى حل ناجع لأعمال الشغب. قُوبلت الدعوات بالرفض، فالحكومة لم تُجب على سؤال ماذا بعد الأشهر الستة.
لذا دعا المتظاهرون إلى سبتٍ جديد موعده 8 ديسمبر/ كانون الثاني 2018. يتواجه في هذا السبت 90 ألف شرطي وعدد ضخم من الآليات المُدرعة مع المتظاهرين، أسفر عن اعتقال 500 متظاهر وإصابة 30. ولا يعتبر غروب شمس يوم الثامن من ديسمبر/ كانون الثاني نهاية الأحداث، بل نهاية مؤقتة حتى الآن.
العالم اختلف
نجاح الحكومة في إرضاء المتظاهرين أمر لا يمكن قياسه، إذ إن الحركة لا تعرف متحدثًا رسميًا واحدًا، يوجد 8 لها حتى الآن، ولا قائدًا بعينه لذا فالمطالب المرفوعة عديدة غير موحدة. الطلب الرئيس هو تجميد رفع الضرائب، بجانبه رُفعت مذكرة تضم 40 مطلبًا تشمل مطالب عامة كالنظر في الإسكان والضرائب والصحة والتعليم. ثم وضعت مجموعةٌ أخرى من المتظاهرين مطالب طويلة الأمد مثل المصارحة العامة بشأن الضرائب وطريقة إنفاقها والاعتماد على الاستفاءات الشعبية بخصوص المسائل الاجتماعية المختلفة مثل رفع أسعار الوقود أو فرض مزيد من الضرائب.
تعتمد الحكومة في المماطلة أن الظهير الشعبي للاحتجاجات قد لا يدوم، فاستطلاعات الرأي تشير إلى أن نسبة 85% من الفرنسيين لا يقبلون عمليات الحرق والتخريب التي زامنت التظاهرات. خسرت الشركات حوالي 400 مليون يورو، وانخفضت حجوزات الفنادي بنسبة 20 إلى 50%، وخسر أصحاب المطاعم وحدهم 24 مليون يورو.
الثورة لا تعرض الحياة على الناس، بل تجعلهم يحيون. على أي منظمة ثورية أن تتذكر دومًا أن هدفها ليس تحويل أعضائها إلى مستمعين مُطيعين لخطابات مُقنعة من قادةٍ خبراء، بل جعلهم متحدثين عن أنفسهم، من أجل تحقيق درجةٍ متساويةٍ من المشاركة أو على الأقل السعي لتحقيقها.
وعلى كلٍ فإن حركة السترات الصفراء لا تكمن أهميتها في نتائجها، بل في بدايتها. الحركة وعدٌ بأن العفوية والكلام يمكنهما إشعال ثورة حتى وإن كانت في نظر البعض تظاهرةً واحدةً أو تمردًا لحظيًا. السترات الصفراء ترد الجميل لطلاب انتفاضة مايو/ آيار 1968، فيها بدأها الطلاب وانضم إليهم عمال المصانع ورجال الشارع. أما في 2018 فرجال الشارع هم من بدؤوها ودعوتهم آخذة في الانتشار حتى تصل إلى مقاعد الجامعات. فالشعب الفرنسي لا يريد أن يعود إلى عصر ما قبل الإجازات مدفوعة الأجر. فإذا كان لا بد من الخضوع لرأس المال وللعمل المتواصل، فلا أقل من أسعار معتدلة.
اقرأ أيضًا:إيمانويل ماكرون: من خطف الأضواء إلى الضرب بالبيض
وإذا كان الترّقب يُغلف ما سيحدث بعد مباحثات الطرفين أو بعد انتهاء مهلة تعليق قرار فرض الضرائب، فإن النتيجة الأهم أن الشعب الفرنسي قد أعاد اكتشاف الشارع، وعلم بصورة يقينيّة أن للشوارع استخدامات أخرى غير السير للعمل خاضعين. واكتشف أيضًا أنّه إذا كان من الواجب ارتداء السترة الصفراء حال خروج السيارة من الطريق، فأشد وجوبًا ارتداؤها حال خروج الدولة من الطريق.
