كرهت أنوثتي…

تُلخِّص هذه الجملة الحالة التي وصلتها الدكتورة نوال السعداوي، وهي تصف مشاعرها إزاء فترة طفولتها، خلال استعراضها لسيرتها الذاتية في كتاب «مذكرات طبيبة».

في كتابها، تحكي السعداوي عن حجم القيود الكثيرة التي عانت منها فور نمو وعيها، وتأثرت بها بشدة وجعلتها تكره أنوثتها، بعدما شعرت أن أنوثتها كالسجن بالنسبة لها، وهذا لم يبدأ معها بعدما ظهرت عليها معالم الأنوثة، وإنما منذ أن كانت في مرحلة الطفولة.

تكشف السعداوي عن حجم الاختلاف الكبير في طريقة التربية بينها وبين أخيها الصغير، هذا الحجم شمل كافة جوانب حياتها بدءً من حرية الحركة، فالأخ يُمكنه الخروج واللعب في الخارج بدون استئذان، ولكن نوال لا يمكنها فعل ذلك. الأخ يستطيع تصفيف شعره كما يريد، ويُمكنه ترْك شعره حرًا بلا تمشيط، أمّا الطفلة والفتاة نوال فعليها دائمًا أن تُبقي شعرها طويلاً ومُمشطًا، بل وبلغت التفرقة بينهما، بحسب الطبيبة، إلى طريقة الجلوس التي يجب اتّباعها، فهنالك طُرق جلوس لا يصح للفتاة أن تستخدمها، وهو ما عليها الالتزام به.

من وحي هذه التجربة، توضح الكاتبة أنها تأثرت كثيراً بسبب هذه القيود الاحترازية المُبالغ فيها، بحُكم كونها فتاة، كان أول هذه التأثيرات وأعمقها أنها كرهت مظاهر أنوثتها، واعتبرت أن كونها فتاة هو أمر يُثقلها بالأعباء كلما كبرت، ما جعلها تعتبر نفسه سجينة «جسد أنثوي» تتمنى تغييره ولا تستطيع.

تفاقم هذا الشعور مع السعداوي كلما كبرت، وعندما دخلت في طور المراهقة ضاق عليها السجن أكثر فأكثر. تحكي أنها كلما عانت من آلام الدورة الشهرية أصبحت كالحجر فوق السرير لا يُمكنه الحركة، ولهذا كانت أيامها تنسحب من جميع تجمعات الأطفال، بعدما شعرت دائماً أن مظاهر أنوثتها يجب إخفاؤها دائماً، وكأنها مظاهر للخزي والعار، وهذا الانسحاب حدث لجميع صديقاتها، فانسحبن من الحياة واحدة تلو أخرى.

تقول نوال إنها لم تستطع منع نفسها تماماً عن مجتمع الأطفال، وإن كانت حُرمت من اللعب معهم كانت تجلس على دكة البواب وتشاهدهم من بعيد، وهو ما جعلها عُرضة للتعامل مع البواب الذي حاول الاعتداء عليها، وعندما أخبرت أمها وضعت اللوم عليها!

من بعدها التزمت الفتاة نوال السعداوي الصمت، وشعرت أن هذه الحادثة، تحديداً، أغلقت عليها سجنها أكثر فأكثر، كما أورثتها عُقدة تجاه الجنس الآخر (الذكور)، الذين لم يروا فيها إلا مُجرد «فتاة» يجب استهداف أنوثتها بشتّى الوسائل، فسعت بكل قوتها للابتعاد عنهم.

تجربة الزواج الأولى

كرهتهما! هذان البروزان! تلكما القطعتان الصغيرتان من اللحم اللتان تحددان مُستقبلي! وددت لو أجتثهما من فوق صدري بسكينٍ حاد!
نوال السعداوي.

تحكي نوال، أنه في أحد الأيام جاء «رجل غريب» إلى منزلها وجلس مع أبيه، وفوجئت بأمِّها تأمرها بأن تلبس الفستان البني، الذي يُبرز معالم أنوثتها أكثر من غيره. وما إن جلست، بالثوب البني، أمام الضيف، غير المُنتظر، شعرت بأنه ينتهك جسدها بنظراته، لذا صرخت فيه وتركت له المكان وعادت إلى غرفتها.

كانت هذه أول تجربة لها في عالم الزواج، بعدما علمت أن الرجل، الذي راح يتفحص جسدها، كان أول عريس يتقدّم لها.

اتضح لنوال خلال هذه الفترة، أن المجتمع يعتبر أن زواج الفتاة «مصير محتوم» عليها أن تستعد له بكل الطُرق، وهو ما أشعرها بالإحباط في أن الجميع يرون أن مستقبلها سيكون فقط «زوجة» ليس عليها إلا أن تخدم رجلها بكل السُبُل.

التمرد الأول

أول ضحية لنوال السعداوي كان شعرها الطويل والكثيف.

تحكي الطبيبة، أنها ذهبت إلى «الحلاّق» وطلب منه أن يقصّه، وما أن شعرت بخصلاتها وهي تهوي على الأرض حتى أحست كما لو أنها تتخلص من تاج!

حينها شعرت السعداوي، أنها لا يجب أن تؤمن بأشياء يُمكن التخلص منها في لحظةٍ واحدة، وكان هذا أول كسر للقواعد التي وضعها عليها المجتمع، وأحسّت أنها كسرت أول قضيب فى قضبان سجنها، وهو ما أكسبها القوة في مواجهة أمها التي اعترضت بشدة على «حادثة الحلق»، فلم تهتز ولم تخف منها خلال المواجهة التي جمعت بينهما، واحتملت صفعات أمها المتكررة بقوة.

تقول الكاتبة، إنه عندما يهزم الإنسان الخوف، يُزيِل من داخله أي رهبة تجاه تلك الأشياء التي عاش المجتمع يُحذره ويُخيفه منها، وفي هذه اللحظة سيجد أن هذه الأشياء التي أرعبوه منها «عادية» ولا تستحق أي قلق.

خلال سنواتها الدراسية اللاحقة، استمرت نوال السعداوي في كسر القواعد، فبعكس بقية زميلاتها أصرّت على الاشتراك في جميع أنشطة المدرسة مثل الخطابة والمسرح، وأعربت عن كرهها الشديد لحصص «التدبير المنزلي»، التي تعلم الفتيات فنون الطبخ وأساليب الإدارة المنزلية.

وعندما كبرت السعداوي، قررت اختيار كلية الطب من أجل نيل رهبة الاحترام التي يكنّها المرضى للأطباء، وبسبب شعور التقديس الذي كانت شعرت به في عيون أهلها كلما رأوا طبيباً.

في الكلية

تحكي الكاتبة، أن لحظاتها الأولى في الكلية كانت شديدة الاضطراب، فكانت تمشي مطرقة الرأس، تشعر بالخجل دائماً، ولا تنظر في عين أحد، ولكنها سرعان ما تغيرت.

تقول:

فردت قامتي الطويلة عن آخرها. نسيت النَّهَديْن وتلاشى ثقَلهما من فوق صدري، شعرت َّ أنني خفيفة، وأنني أستطيع أن أتحرك بسهولة كما أشاء… لقد رسمتُ لنفسي طريق حياتي، طريق العقل، ونفَذتَ قرار الإعدام على جسدي، لم أعد  أشعر له بوجود.

وخلال دروس التشريح، رأت، لأول مرة، جثث الرجال عارية فوق الرخام الأبيض. رأت الرجال مرتمين أمامها بلا حول ولا قوة، تستطيع بكل بساطة أن تمسك المشرط وتتعرف على تفاصيل جسده.

اعتبرت نوال أن هذه الدروس أنزلت الرجال من على عروشهم السلطانية التي تربت على طاعتها، فها هي أجساد الرجال الذين تتحرق فتيات القرية من أجل إشباعها، تستسلم لها على منضدة التشريح.

الزواج الأول

بمرور الوقت، باتت نوال على استعداد لتقبل تجارب استماتت في رفضها سابقاً كالزواج مثلاً.

تحكي أنها قابلت رجلاً، سبق وأن عالجت أمه، وفيما بعد أعرب لها عن إعجابه بها ورغبته في الارتباط بها، أراحها بقوله إنه يُريدها شريكة، لا خادمة، وأنه يتفاخر بعملها، ويشعر بالسعادة عندما يزور عيادتها عدد كبير من المرضى يستشيرونها، ويطلبون رأيها لعلاج أمراضهم.

شعرت السعداوي، أنها وجدت رجلاً لم يتربَ على قواعد المجتمع الذكورية التي تربّت هي عليها، وشعرت أن أن الفروق والجسور التي وضعها المجتمع بين الرجل والأنثى تذوب على يده، وهنا شعرت بأنه يُرضي شيءٌ داخلها وأنه يُعاملها من منطلق ضعف المُحب لا قوة الذكر الساعي دومًا للسيطرة.

وفي لحظة اقترانهما رفضت أن يُوثّق زواجها عقد كشئون البيع والشراء. شعرت بالنفور وكادت أن تقطع عقد الزواج، ولكن زوجها أقنعها بأنه «مجرد ورق روتيني» لا دلالة له على الطريقة التي ستسير عليها حياتهما، ورغم أنها انصاعت لرغبته، لكنها شعرت أنها توُقِّع على شهادة وفاة وليس عقد زواج.

رغم ذلك، لم تسر الأمور كما تمنّت نوال السعداوي، بعدما بدأ زوجها في اقتحام حياتها الخاصة ويفرض نفسه على وجودها حتى أصبح المرضى يُنادونها بِاسمه، وحينما كانت تتأمله وهو نائم جوارها على فراش الزوجية، كانت تشعر أنه لم يعد هناك شيء يربطها به.

وبدأ يسعى لفرض سيطرته عليها، حاول الحدَّ من حرية حركتها إلى خارج البيت، وحتى إلى عملها، مستخدمًا الحجة الي يُفضّلها الرجال؛ أخبرها أنه يغار عليها ويخشى عليها من الرجال الآخرين.

ترى الكاتبة، أن زوجها اعتقد أن عملها هو مصدر قوتها في معاملتها معه فحاول منعها عنه، لكنها تعتبر أن قوتها ليست نابعة من عملها، وإنما من «عدم احتياجها له» بعكس شعوره الدائم نحوها أنه لا يستطيع الاستغناء عنها.

– أنا الرجل.
– ما معنى أنك الرجل؟
– أنني صاحب السلطة.
– أي سلطة؟
– سلطة هذا البيت بكل ما فيه حتى أنتِ.
حوار خاضته نوال السعداوي مع زوجها.

في تلك اللحظات، انقطع أهم شيء كان يربطها به، وهو ضعفه ناحيتها. تحكي، أن نظرة الضعف التي كانت تملأ عينيه تبدلت إلى نظرة الرجل الذي يشعر بالنقص.

وهنا علمت أن زوجها لا يختلف كثيراً عن غيره من الرجال، يمتلئ بالعُقد النفسية والرغبة المُطلقة في السيطرة على النساء، فقررت فوراً الانفصال عنه، وتحكي أنها فور أن أصلحت «هذا الخطأ» عادت إلى حياتها «حرة»، لا يُشاركها أحد عالمها الصغير.

الكفاح ضد المجتمع

سأخوض المعركةَ وسأحتمي في نفسي، في ذاتي، في قوتي، في عملي، في نجاحي.
نوال السعداوي.

سخّرت نوال السعداوي نفسها للكفاح من أجل قضيتها، وألّفت 61 كتاباً دافعت فيها بضراوة عن حق المرأة في التساوي مع الرجال، وانحازت لكثيرٍ من القضايا النسوية، مثل الوقوف ضد تمسّك المجتمع بالعذرية كدليل على الشرف، ومواجهة تحقيره لدور المرأة في العلاقة الجنسية.

ودخلت في معارك عديدة مع شيوخ الأزهر، بسبب معارضتها لفريضة الحجاب، وهو ما اعتبره الشيوخ اعتداءً على ثوابت الدين، وبسبب هذه الآراء، فُصلت الدكتورة نوال السعداوي من وزارة الصحة، بعد أن انضمّت الهيئات الحكومية لجبهة الحرب ضدها.

وهي الحرب التي لم تنتهِ أبداً طالما أبقت السعداوي رايات العصيان مرفوعة. فبعدما تحدثت في كتابها «امرأة عند نقطة الصفر» عن امرأة تعرضت للكثير من أشكال العنف، ومنها تشويه أعضائها التناسلية، لاحقتها الأجهزة الرقابة وسُجنت لمدة 3 شهور، كتبت خلالها «مذكراتي في سجن النساء»، والذي ناقشت فيه الأزمات التي تتعرض لها النساء داخل السجن.

وفي العام 2007، تُوفيت الطفلة «بدور شاكر»، وكان عمرها لا يتجاوز 12 عاماً بسبب عملية ختان، وهو ما علّقت عليه الطبيبة ساخطة:

يا بدور… هل كان عليكي أن تموتي من أجل نور يسطع في عقول الظلام؟

وفي النهاية تحركت الدولة، أخيراً، لمنع عمليات تشويه الأعضاء التناسلية للإناث، وهو القرار الذي كافحت السعداوي طويلاً حتى تراه يُطبَق في مصر، وبالتأكيد رسم على شفتيها بسمة، واعتبرته تتويجاً لنضالٍ عُمره 89 عاماً.

.alert-box { color:#555; border-radius:10px; font-size: 16px; font-family: gretaregular, Cairo, -apple-system, BlinkMacSystemFont, "segoe ui", Roboto, "helvetica neue", Arial, sans-serif, "apple color emoji", "segoe ui emoji", "segoe ui symbol", "noto color emoji"; padding:10px 10px 10px 36px; margin:10px; text-align: center; } .alert-box span { font-weight:bold; text-transform:uppercase; } .notice { background:#e3f7fc no-repeat 10px 50%; border:1px solid #8ed9f6; }
تم إنتاج هذا المقال ضمن برنامج استخدامات متعددة، الذي تنظمه مساحة 6 باب شرق