بيلي ميسك: ملاكم فقد حياته على الحلبة ليسعد أطفاله
في عام 1918 وفي غرفة بيضاء خالية إلا من أثاث بسيط جلس الملاكم «بيلي ميسك – Billy miske» ذو الـ 24 ربيعًا في مواجهة طبيب أمراض الكلى. رغم تلك الكدمات التي كانت تملأ وجهه، كان بيلي يملك وجهًا باسمًا ومحببًا للجميع، إلا أن الطبيب لم يبادل بيلي تلك الابتسامة كما اعتاد سابقًا.
أنت لن تلاكم مرة ثانية
تلك هي زيارته الثالثة لطبيب الكلى منذ أن بدأ الشعور بتلك الآلام الشديدة في جانبيه، وعندما يصف بيلي آلامًا بالشديدة فهي لا تحتمل بالفعل. فبيلي معروف عنه قدرة الاحتمال وتلقي اللكمات في حلبات الملاكمة، إنه يسمى بـ «صاعقة سان بول» لأنه ولد في سان بول ولأنه يوجه ضربات كالصاعقة.
تحدث له الطبيب بشكل مباشر وموجز أن ما يعانيه من آلام سببه مرض يسمى مرض برايت، وبشرح أكثر إيجازًا أخبره أنه سيعاني من آلام مزمنة في الكلى وأنه لن يستطيع العيش لأكثر من خمس سنوات وأنه بالطبع لن يستطيع أن يلاكم مرة أخرى.
تحولت تلك الغرفة البيضاء فجأة إلى مكعب من الثلج، كانت برودة الخوف ربما هي ما تغلغلت داخل قلب بيلي. تذكر بيلي حينئذ زوجته وأبناءه، تذكر قفازيه وهتاف بيلي صاعقة سان بول، تذكر أيضًا تلك الديون المتراكمة بعد فشله في أحد المشاريع التجارية.
قبل كل ذلك بيوم واحد كان بيلي واحدًا من أفضل ملاكمي عصره، كان ينازل أسماء بحجم تومي جيبونس وهاري جريب والأسطورة جاك ديمبسي. بدأ بيلي ماسكي مسيرته كملاكم في الوزن المتوسط ثم انتقل منه للوزن الخفيف كما لعب بعد ذلك في فئة الوزن الثقيل.
طالما ستموت، مت وأنت تقاتل
لم يستطع بيلي أن يخبر زوجته بحقيقة مرضه واكتفى بإخبارها معاناته بمشاكل صغيرة في الكلى، فقط مدربه هو من علم بأن بيلي لن يستطيع أن يلاكم مرة أخرى.
كان بيلي يعاني من ديون تراكمت نتيجة لفشل مشروعه الخاص بالسيارات، بلغت تلك الديون 100 ألف دولار. الوضع بالغ السوء وكان بيلي يعرف أنه على أعتاب أزمة مالية طاحنة، قرر بيلي أن يستمر في الملاكمة من أجل إنقاذ عائلته وتسديد تلك الديون التي ستلاحقهم برحيله. أخفى بيلي الأمر عن الصحافة وتحمل صامتًا آلامًا تعصف بأحشائه كل يوم.
كان وضع الملاكم الأمريكي الصحي يتدهور يومًا تلو الآخر لكنه كان يقف على حلبة الملاكمة متحملًا كل ذلك، مفضلًا أن يموت على حلبة ملاكمة مدافعًا عن أسرته خيرًا من أن يموت مريضًا في منزله. استطاع بيلي أن يخوض 30 نزالاً منذ تاريخ تشخيص الطبيب له بذلك المرض اللعين.
وفي يناير/كانون الثاني من عام 1923 بعد أن أنهى مباراته بضربة قاضية من الجولة الأولى سقط بيلي مريضًا كما لم يكن من قبل. قضى بيلي هذا العام ملازمًا للفراش، لم يكن قادرًا على القيام بأي أنشطة مما تسبب له بالطبع في أزمة مالية له ولأسرته.
أوشك العام على نهايته، كان بيلي يدرك أنه سيلاقي الموت حتمًا إن لم يكن اليوم فغدًا. قرر بيلي أن يموت وهو يرى السعادة على وجوه أسرته، لن تقضي تلك الأسرة الصغيرة عيد الميلاد وهي تلتف حول رجل مريض ينازع الموت، ذلك لن يحدث أبدًا.
القتال الأخير
طلب بيلي أن يحضر مدربه وصديقه جاك ريدي ثم أخبره بشكل مقتضب «أحضر لي نزالاً»، فأجابه ريدي بأن ذلك قد يميته على حلبة الملاكمة فكان رد بيلي أنه لن ينتظر الموت بل سيسعى إليه. استطاع جاك ريدي أن يرتب مباراة لبيلي مع بيل برينان عملاق الوزن الثقيل. لم يتدرب بيلي يومًا واحدًا من أجل النزال بل كان يجلس في فراش الموت مكتفيًا بأكل السمك المسلوق متحملًا آلامًا تفوق آلام التدريبات.
في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1923 ترك بيلي سريره الذي لازمه منذ بداية العام بعد أن ربت على رؤوس أولاده وزوجته واعدًا إياهم بعيد ميلاد سعيد و هدايا لن ينسوها أبدًا، ثم سافر رفقة صديقه إلى نبراسكا حيث سيبدأ القتال ليلًا.
بدأ المشهد بداية مربكة للجميع، حيث دخل بيلي إلى الحلبة مساء ذلك اليوم متكئًا على كتف مدربه. ربما اعتقد الجميع أن ذلك من أثر تدريب عنيف قام به بيلي الذي غاب عن حلبات الملاكمة منذ بداية العام.
لكمة خاطفة في البداية جعلت خيطًا من الدم ينساب من الزاوية اليسرى لفم بيلي. ذلك ليس بجديد فحلبات الملاكمة صنعت لتخضب دومًا بالدماء، لهذا يحضر المشاهدون ويدفعون الأموال. كان أسلوب بيلي الدفاعي هو الذي زاد المشهد إرباكًا، لم يقم بيلي بحماية وجهه مطلقًا، لم يرفع حتى عضديه عن مكانهما بل كان يثبتهما لحماية كليتيه ويجعل قفازيه في مواجهة بعضهما البعض ليحمي ما تبقي من معدته.
لم يفهم أحد من الحضور ما يحدث، كان بيلي يتلقى اللكمات تباعًا في وجهه محتملًا هذا الألم الذي اختبره لسنوات، ثم يرفع يديه ليوجه لكمة في وجه منافسه ويعيدها لحماية كليتيه.
في بداية الجولة الرابعة كان بيلي قد اكتسب تعاطف الجميع، بوجه مشوه تمامًا إثر لكمات برينان المتعاقبة. كان بيلي لا يرى من كل ذلك شيئًا، كان بيلي يرى وجه زوجته وأطفاله السعداء بهدايا عيد الميلاد الجديدة. لقد وعدهم بذلك صباح اليوم، وهو لن يموت الآن قبل أن يوفي بوعده.
ضربة قاضية في وجه بيل بيرنان أنهت كل شيء. رفع بيل يمينه ووجه تلك اللكمة في وجه خصمه، وجه ضربته في وجه الطبيب والمرض والديون والألم والكلى وكل شيء. ضربة كانت ثقيلة بحجم معاناة روح بيلي ماسكي التي تألمت كثيرًا، لم يتحمل بيرنان ثقل ضربة بيلي ليسقط معلنًا فوز منافسه متورم الوجه. سقط بيلي هو الآخر بعد أن نفذ مهمته.
تحصل بيلي على مبلغ 2400 دولار بعد فوزه بنزاله الأخير، وفي عشية عيد الميلاد التفت أسرة بيلي حول بيانو جديد أحضره بيلي لزوجته وزلاجات جديدة للأطفال والكثير من الهدايا. وأخيرًا ومنذ خمس سنوات شاهد بيلي السعادة على وجوه أفراد أسرته.
وفي صبيحة اليوم التالي، أول أيام عام 1924 استيقظ بيلي ميسك على آلام مبرحة، أخذه ريدي إلى المستشفى لكن بيلي لم يكن قادرًا على تحمل آلامه أكثر من ذلك. توفي بيلي وهو في التاسعة والعشرين تاركًا خلفه قصة بطل قد يبدو أقل من أقرانه في عالم الملاكمة لكنه بطل قرر أن يتألم من أجل أن يرى السعادة في عيون عائلته.