رحلة البحث عن عزيزة بركات: كرنفالية بلال فضل والثورة على الكتابة
منذ بدء رحلة الكاتب في البحث عن المدعوَّة عزيزة بركات، مقتفيًا أثرها، سائلًا كلَّ مَن يمكنه أن يُوصله بخيط يدله عليها، يضع الكاتب والسيناريست بلال فضل في كتابه الأحدث ماذا صنع الله بعزيزة بركات الصادر عن دار المدى (فبراير2023م) أُولى اللبنات متمثلة في تلك القصة عن فتاة مجهولة رآها لأول مرة في فيلم ترقص خلف المطرب الراحل فريد الأطرش، لفت انتباهه أنها الوحيدة المبتهجة من بين كل الراقصات في تضاد بيِّن مع حالة المطرب دائم الحزن والأسى، في تلك الرحلة، والتي تنم عن إصرار من البطل أو الشخصية الرئيسة الساعية بكل ما أوتيت من صبر خَلْف هذه الفتاة، يحكي كثيرًا عن بدايته الفنية، ودهاليز عالم الفن والفنانين، المحترفين والهواة، النجوم والكومبارسات، مارًا بتقلبات أحوال أهل الفن، ولعب الدنيا معهم وبهم، لا يتجاهل سيرة الراوي نفسه/الكاتب، فهو حاضر باسمه، حاكيًا عن أصدقائه، ورحلته مع الكتابة والدراما والسينما.
الكرنفالية مفتاح العمل
لا يمكن قراءة هذا العمل، ومقاربته سعيًا للوصول إلى مفتاح بعينه يصلح لفك مغاليق هذه الكتابة التي لا يسهُل إدراجُها تحت صنف أدبي بعينه، بعيدًا عن الحالة التي يخلقها بلال فضل في أغلب كتبه السابقة باستثناء روايته الوحيدة «أم ميمي» أو في ما نشره من مجموعات قصصية؛ هنا الخط مختلف بعض الشيء، والمسار يأخذ الشكل السِّيري غير المألوف، في محاولة منه للانتقال من الخاص والاندماج في العام ثم العودة إلى المساحة الأرحب المتعلقة بالذات في علاقاتها المتشعبة مع الآخر، سواء أكان ذلك الآخر شخصًا أم موقفًا أم قضية شائكة، من هذا المنطلق يمكن النظر إلى جندر هذه الكتابة على أنها كرنفالية بتعبير ميخائيل باختين؛ هذه الكرنفالية التي تراكمت عبر مؤلفات الكاتب السابقة، ثم تبلورت في «ماذا صنع الله بعزيزة بركات»، وكأنها كانت بحاجة لكل هذه السنوات حتى تنضج على مهل، وتكون ذروة تمثلها في هذا الكتاب.
يرى سعد البازعي في كتابه دليل الناقد الأدبي أنَّ الكرنفالية «تنطوي على تعددية أسلوبية واختلاف وجهات النظر، وتباين الأصوات، وهي بهذا تشبه ما يجري في مواسم الاحتفالات الجماهيرية الثقافية خاصة ما يصاحبها من هجاء وعبث وسخرية، وتجاوز الحواجز الطبقية التراتبية حيث تختلط الثقافة العليا بالثقافة الدنيا، والثقافة الشعبية، ولا شك أن كرنفالية الأدب هي ثورة ضد المعتمد الأدبي».
تُعدَّ الحكاية أو المقالة الأولى أيًّا كان تصنيفها فرشًا لما سيأتي بعدها؛ فالشخصية الرئيسة المنذورة للبحث والتقصي ستجد نهمها في آخرين وأخريات وقصص لا تنتهي، سوف يُفضي بعضها بصاحبها إلى أروقة المحاكم، متهمًا أمام رؤساء ووكلاء النيابة ليس هذا فقط بل سيصل به الأمر إلى وضع «الكلابشات» في يده مع لص أنابيب! في انتظار استدعاء رئيس النيابة للتحقيق معه.
هذا المزيج الذي تنادي به الكرنفالية حاضر في المقالات؛ فالسخرية والعبث وهجاء المسؤولين والساسة وأصحاب القرار، والتندر عليهم منذ عمله في جريدة «الدستور» في ديسمبر 1996م حتى إغلاقها بأمر من مبارك في فبراير 1998م، الذي يوجه له الكاتب سهام النقد اللاذع لفترة حكمه التي أفضت إلى الحال الذي انغمس في حمأة السوء منذ خلعه، ففي المقالة الثانية «عن العم صلاح وتلفزيونه اللعين»، التي يحكي فيها بشكل ساخر قصة محاولات استعادة التلفزيون العتيق للفنان صلاح السعدني، وكيف أن وكيل النيابة عرض عليهم أسرة تردت في حضيض الأخلاق، فقد عاشر أب ابنتيه، وكأن مغزى الحكاية ليس التلفزيون، ولا علاقة الكاتب بالفنان صلاح السعدني الذي يكرر دومًا قوله «أبي الذي لم تلده ستي»، ولا تأثر السعدني وبكاؤه مما شاهده وسمعه بل الأمر تجاوز إلى النفاذ إلى تلك الكارثة التي لا تقل عن شبيهاتها في أروقة المحاكم، وغيرها مما لا يعلمها أحد في ما يظن الغالبية أن العهد المباركي كان يتمتع بالاستقرار والهدوء، وربما ذلك ما ظهر على السطح فيما تعتمل في القاع مصائب وكوارث، تغطيها شجرة التوت التي يُحسن إعلاميو وصحفيو النظام بسطها لتبدو الصورة أكثر نقاءً ولمعانًا.
فخ الإحساس بالمرارة
من بين تلك الخلطة التي تمتزج فيها عناصر عدة، لا تطغى السياسة وحدها ولا يسود الحديث عن المشوار الصحفي والأدبي بل يغوص كل ذلك ثم لا يلبث أن يطفو مرة أخرى الكلام عن أهل الفن المولع بهم بلال فضل؛ فعندما تأتي سيرة الملحن عبد الحميد توفيق زكي يتوقف عند حالة الجمود التي يمكن أن تصيب الفنان أو المبدع بشكل عام، عالقًا في فخاخ الماضي، عائشًا على أسطورة الأستاذ المُعلم صاحب الفضل على كثير ممن حققوا نجاحات ما كان لهم أن يصلوا إليها لولا وجودهم، ونصائحهم، وتوجيهاتهم، تلك المكانة كان يمكن أن يصلوا إلى أبعد منها، لو أنهم استمروا في تلمذتهم على يدي ذلك الأستاذ، تنطبق هذه الحالة على الملحن عبد الحميد توفيق الذي اكتشف عبد الحليم حافظ ولحن له حوالي 24 أغنية طواها النسيان كما طوى كثيرًا من الأغاني التي لحنها لكارم محمود وعبد الغني السيد ومحمد عبد المطلب وهدى سلطان.
مشكلة الأستاذ عبد الحميد (توفي في ديسمبر 1998م) التي يتأملها بلال فضل هو ذلك الإحساس الطاغي بالمرارة وعدم قبول فكرة التغيير والتطوير اللذين هما ديدنُ الحياة وطبيعتها في كل شؤونها، الاستسلام الذي أدى به وبعشرات غيره إلى النسيان.
التغيير سنة الحياة
المشكلة نفسها تنسحب من الأشخاص إلى الحكم والسلطة، ففخ الاستسلام لمذاق الكرسي، واستمراء الجلوس عليه، يجعل من الحكام العرب سلاطين «مزمنين» على حد تعبير فضل؛ ففي حالة الرئيس الراحل معمر القذافي الذي لم يستمرئ حلاوة السلطة فقط، بل جرب مذاق حلاوة التأليف والكتابة وتحبير الورق بما تجود به قريحته، فألف الكتاب الأخضر، هجاه بلال فضل ساخرًا رابطًا بين معضلة الحكم ومعضلة التأليف التي خبط فيها القذافي خبط عشواء، جرَّ هذا الهجاء العابث صاحبه إلى النيابة بتهمة إهانة رئيس دولة شقيقة، في إشارة عابثة أيضًا لمعضلة الحكم في مصر أيضًا التي يُحاكم فيها الكتاب والصحفيون من أجل بضع كلمات كُتبت تسخر من رئيس جعل من نفسه مادة للسخرية والاستهزاء.
الكتابة عند القذافي وأمثاله من الممسوسين والمولعين بأنفسهم حد الوله، المعجبين بأفعالهم تُطابق تمامًا حياتهم بكل عبثيتها التي –وللمفارقة- تديمهم وتبقيهم، والكتابة ذاتها حالة من الجنوح، والفرار من النمطية عند الباحث عن عزيزة بركات وأشقائها وشقيقتها، حالة يمكن وصفها بالخروج عن وصفة الكتابة المعيارية وانحراف – بالمعنى الأدبي- عن السائد إلى الكتابة المفارِقة للنوع؛ “فباختين في كتابه «رابليه وعالمه» يرى أن الاحتفالية/الكرنفالية تتأسس بتمزيق القيم الاجتماعية وتشويهها وقلبها رأسًا على عقب”، بالطبع ليس بالمعنى المباشر الذي يُمكن أن يفهم من سطح العبارة، المقصد هو خلق حالة من الدهشة مبعثها التقليب في تربة الأحداث، لفهم واعٍ للحاضر من دون إهمال للماضي أو الانجراف إلى حالة النوستالجيا التي تصنع مقارنة بين الزمنين لا تكون في صالح الحاضر بل تدفع إلى الاستسلام، والوهم المفضي إلى اعتبار ما مضى أجمل، وليس في كونه سببًا منطقيًا لتردي وسوء الحاضر.
هذا ما ينطبق على كتابة بلال فضل التي تمثل رؤية جديدة لما جرى عبر حياته، وإعادة التفكير في محطاتها على المستوى الشخصي والعام أيضًا، كونها تأخذ من كل فنٍ بطرف غير تاركة تلابيب المتعة، وتأمل الأحوال، وتقلبات الدهر الذي يرفع كتابًا ومغنين وآلاتية وفنانين ورؤساء وملوكًا ويضع آخرين إمَّا في صفحات التاريخ المشرقة أو في صفائح القمامة التي تؤول إليها بعض من أوراقه المتسخة.
الكتابة هنا ثورة ضد النمط والعادة والمألوف والنوع المُكرس المعترف به، تحمل -هذه الكتابة- مضمون الثورة وشكلها الذي يشقّ به صاحبها طريقًا يحقق التفرد والخصوصية في آن واحد.