أكبر مؤامرة في تاريخ بريطانيا: الدولة العميقة في مواجهة تيريزا ماي
كشفت رسائل بريد إلكتروني ووثائق مُسربة عن أبعاد «مؤامرة واسعة النطاق» تديرها «عصابة غامضة» من السياسيين ورجال الأعمال المتشددين المؤيدين لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؛ لـ «تخريب» صفقة الخروج التي وضعتها رئيسة الوزراء السابقة، «تيريزا ماي Theresa May»، وعزلها من منصبها، واستبدال «بوريس جونسون Boris Johnson» بها، وتأمين الانسحاب «الصعب» من الاتحاد الأوروبي.
فضح المؤامرة
كانت البداية في شهر مايو/آيار الماضي، عندما نشر موقع يحمل اسم «القش المخادع – sneaky strawhead» (في إشارة إلى تسريحة شعر بوريس جونسون الفوضوية)، تحت عنوان «Very English Coop d’Etat»، رسائل بريد إلكتروني مُسربة، تكشف عن وجود مؤامرة «دولة عميقة deep state»، أو كما يشير العنوان إلى «انقلاب إنجليزي كبير»، يقودها مجموعة «غامضة» متشددة من مؤيدي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؛ للإطاحة برئيسة الوزراء البريطانية السابقة «تيريزا ماي Theresa May»، واستبدال «بوريس جونسون Boris Johnson» بها.
ذكر الموقع أنه تُبودلت تلك الرسائل باستخدام خدمة البريد الإلكتروني المُشفرة «ProtonMail» بين الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات البريطاني (MI6)، «ريتشارد ديرلوف Richard Dearlove»، الذي قاد الجهاز بين عامي 1999 و2004، وعضو البرلمان السابق عن حزب العمال والناشطة الرائدة في حملة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست) «جيزيلا ستيوارت Gisela Stuart»، والمؤرخ المؤيد لبريكست خبير التاريخ الفرنسي بجامعة «كامبريدج Cambridge» «روبرت تومبس Robert Tombs»، وغيرهم من الشخصيات المتشددة المؤيدة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، التي «تُسيطر سرًّا» على القرارات في المملكة المتحدة.
«أكثر مؤامرة مروعة في التاريخ البريطاني الحديث»، هكذا قال مُسربو الرسائل، حول خطة «المجموعة الغامضة»، التي وصفوا أعضاءها بأنهم «متآمرون انقلابيون، مخادعون، يتحكمون في دُميتهم القش المخادع (في إشارة إلى بوريس جونسون)».
وأوضح مُسربو الرسائل أن «الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات البريطاني (MI6)، مع زملائه السابقين ورفاقه من وكالة المخابرات المركزية، أجروا عملية استخباراتية (ناجحة)، حيث اخترقوا الخدمة المدنية بعملاء سريين؛ لسرقة وثائق شديدة الحساسية، وابتزاز رئيسة الوزراء تيريزا ماي -آنذاك- لتمهيد الطريق إلى دُميتهم (جونسون)».
لماذا أرادت المجموعة الإطاحة بـ «تريزا ماي»؟
كانت خطة «ماي» حول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، التي وضعتها في «الكتاب الأبيض تشيكرز Chequers White Paper»، الذي يقدم عرضًا مفصلًا لعلاقة ما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، تتضمن استمرار ارتباط لندن ببروكسل في عدد من المجالات.
رأى المتشددون أن تلك الخطة لا تمثل «خروجًا نظيفًا كاملًا» لبريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وأن «ماي» بذلك مستعدة للبحث عن «حلول وسط» مع الاتحاد الأوروبي، وهو ما عارضوه -بشدة- ورفضوا أي ترتيب من شأنه أن يُبقي بريطانيا مرتبطة بالهياكل والالتزامات الدفاعية لبروكسل، ووصفوا خطة «ماي» بأنها «وصفة لاستمرار عضوية الاتحاد الأوروبي بوسائل أخرى»؛ لذلك أرادوا منع أي صفقة ناشئة عن الكتاب الأبيض «الكارثي والجبان»، والإطاحة بـ «ماي»، وأطلقوا حملة «تشاك تشيكرز chuck Chequers»، المناهضة لخطة «ماي» لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
ماذا كان يحدث داخل الرسائل المُسربة؟
تكونت المجموعة الغامضة من مسئولين في المخابرات، وممثلين عن المؤسسة العسكرية والدفاعية، وممولين أثرياء مؤيدين لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وسعت إلى إدارة «البريكست» وفقًا لمصالح النخبة الخاصة بهم.
يبدو أن تلك المجموعة كان يقودها «جويثيان برينس Gwythian Prins»، وهو عضو في اللجنة الاستشارية الاستراتيجية لرئيس هيئة أركان الدفاع، ومستشار سابق في منظمة حلف شمال الأطلسي ووزارة الدفاع، وعضو مجلس إدارة مجموعة المحاربين القدامى المؤيدة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ثم انضم إليه الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات البريطاني (MI6) «ريتشارد ديرلوف»، الذي أُشير إليه بـ «C» في رسائل البريد الإلكتروني المُسربة، إلى جانب آخرين.
ولتحقيق أهداف المجموعة، سعى «برينس» إلى إنشاء «لجنة تنسيق» لجميع عمليات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وخطط لـ «عملية استخباراتية» من المفترض أن تقوض معارضي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، واستخدموا لتلك «الخطة التخريبية» الاسم الرمزي «عملية مفاجأة Operation Surprise».
تم توفير التمويل اللازم لما يرقى إلى «مؤامرة سياسية سرية»، من قبل مؤيدين أثرياء، يزعم أن من بينهم «تيم وماري كلود Tim and Mary Clode»، وهما زوج وزوجة أرستقراطيان في جيرسي، و«جوليان (توبي) بلاكويل Julian (Toby) Blackwell»، مالك إمبراطورية بلاكويل للنشر.
وفي 21 سبتمبر 2018، أرسل «برينس» بريدًا إلكترونيًّا إلى «بلاكويل» والزوجين «كلود»؛ لإبلاغهم أنه و«ديرلوف» يدعمان استراتيجية «لممارسة ضغوط لا تُحتمل على (ماي)»، وهو ما من شأنه أن «يُبقيها في منصبها، ولكن ليس في السلطة».
وأضاف أن «عملية تجريبية» ستبدأ قريبًا ضد مُفاوض «ماي» بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (في إشارة إلى اختراق شئون «أوليفر روبنز Oliver Robbins» كبير مفاوضي بريكست، ووحدته رقم 10)، وهكذا سعت المجموعة إلى اختراق ما أسماه برينس «قلب الوحش».
لم يغفل «برينس» أهمية «إيفلين فار Evelyn Farr» -موظفة الخدمة المدنية التي عُرِّفت سابقًا في وسائل الإعلام البريطانية على أنها «ناشطة مؤيدة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي»، ومنذ نوفمبر/تشرين الثاني 2016 كانت تشرف على صياغة تشريع الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، كجزء من فريق مشارك بشكل مباشر في مفاوضات الخروج- لكي تكون ضمن المجموعة.
وفي ديسمبر/كانون الأول 2018 التقى «برينس» سرًّا مع «فار»، وتباهى في إحدى رسائله للمجموعة بدورها الداخلي الذي «يضعها في منصب يجعلها تضع عينيها على جميع المستندات الرئيسية»، ويُمكِّنها من الكشف عن «أشياء غير عادية» من داخل إدارة البريكست، واعتبرها «المساعدة الأعلى»، وكان مصممًا على حماية هويتها بأي ثمن.
نقلت «فار»، تفاصيل «حساسة للغاية» من وراء الكواليس إلى المجموعة، وأخذت تكتب تحت اسم مستعار «كارولين بيل Caroline Bell» لعدد من المنصات، ونشرت معلومات مميزة عن مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وبسبب ذلك وخوفًا من كشف هويتها؛ علَّق «برينس» الاتصال معها، وبدأ في حذف رسائل البريد الإلكتروني الواردة منها وإليها.
لم تتوقف «فار» عن مساعدة المجموعة، واستمرت من خلال التواصل مع «برينس» عبر البريد الإلكتروني تحت اسم «إيان مون Ian Moone»، في تقديم «ثروة من المعلومات المميزة» حول خطط ماي بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وفي 20 مارس/آذار 2019، أرسلت «فار» إلى «برينس»، وثائق «حساسة» خاصة بالحكومة، تخص اتفاقية الانسحاب الخاصة بـ «ماي»، حيث وزَّعها «برينس» على عدد من الأفراد، وفيهم «ديرلوف»، وقال في رسالة له: «ها هي خطة (ماي) للحرب. إذا لزم الأمر، أزلها، واستبدال بها آخر مناسب للغرض. لقد تبين الآن أن (ماي) غير قادرة على تولي منصب. الآن اقضِ عليها هي وخطتها».
وتشير الرسائل المُسربة أيضًا إلى أن وزيرة الداخلية البريطانية، «بريتي باتيل Priti Patel»، تبدو متورطة هي أيضًا مع المجموعة الغامضة، ففي 21 فبراير/شباط 2022، أخبر «برينس» «باتريك روبرتسون Patrick Robertson»، مدير «مجموعة بروج Bruges Group»، المؤيدة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أنه «تشرَّف» بلقاء «باتيل» وجهًا لوجه في ذلك اليوم، ولفت إلى أن «وزيرة الداخلية تغيير منعش بعيدًا عن الكتلة الفاسدة من السياسيين الحاليين».
وفي رسالة بريد إلكتروني إلى «روبرتسون» طلب «برينس» إنشاء عنوان بريد إلكتروني «Dark Ullen» على «بروتون protonmail» مخصص لـ «باتيل»؛ حتى يتمكنوا من البقاء على اتصال، ونصح الأخيرة باستخدام تطبيق المراسلة المُشفر «سيجنال Signal»؛ «لمراسلتي إذا رغبت في ذلك»، كما سعى إلى إنشاء روابط بين «فار» و«باتيل»؛ لكي تتمكن فار من التسلل داخل وزارة الداخلية، لافتًا في رسائله إلى أن «فار ستكون قريبًا جنبًا إلى جنب مع باتيل».
كما أوضحت الرسائل أن «برينس» دعا إلى تأجيل مجلس العموم؛ «لمنع البرلمان الفاسد من منع الخروج النظيف في 31 أكتوبر/تشرين الأول»، مع تحديد النواب الذين عارضوا خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؛ لإلغاء انتخابهم وإيصال المرشحين الداعمين إلى دوائرهم الانتخابية.
وفي 3 سبتمبر/أيلول تم سحب البساط من 21 نائبًا محافظًا صوَّتوا لدعم اقتراح تأجيل الانسحاب من الاتحاد الأوروبي حتى 31 يناير/كانون الثاني من العام التالي، وتم حظرهم من الترشح لإعادة الانتخاب، واستُبدلوا جميعًا بأنصار البريكست «المتشددين».
وبعد «هزيمة» ماي واستبدال جونسون بها سعت المجموعة للتأثير على تفكير «جونسون»، وقال «ديرلوف» عنه في إحدى رسائله: «مع الفريق المناسب من حوله، سيبلي بلاءً حسنًا. نحن بحاجة إليه. لا يوجد بديل له»، لكن بدأ حماس «برينس» لـ« جونسون» يتضاءل، وكتب إلى «ديرلوف» متوقعًا رحيل «جونسون» الوشيك والمرحب به، وأعرب عن أسفه لافتقاره «القدرة على التحمل» من أجل «إنهاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي».
هل تقف روسيا خلف التسريبات؟
هناك اعتقاد بأن من يقف وراء سرقة رسائل البريد الإلكتروني وتسريبها عبر الإنترنت، «قراصنة روس ترعاهم الدولة»، ويبدو أنهم «فريق التجسس الإلكتروني في الكرملين».
وشكَّك مدير وحدة تحليل التهديدات في جوجل (TAG)، «شين هنتلي Shane Huntley»، في صحة التسريبات ومصادرها، وقال: «نلاحظ أن هذه حملة خرقاء جدًّا، وربما تستند إلى حساب (ProtonMail) واحد تم اختراقه».
وأوضح، في تغريدة على حسابه الرسمي بموقع «تويتر»، أن موقع «English Coop» تم ربطه بما عرفته شركة «جوجل» باسم «كولد ريفر Cold River»، وهي مجموعة قرصنة مقرها روسيا، تُعرف أيضًا باسم «كاليستو Callisto»، قائلًا: «نستطيع رؤية ذلك من خلال المؤشرات الفنية».
و«كاليستو» تهتم بشكل خاص بالأهداف العسكرية، وتستهدف عادةً حسابات البريد الإلكتروني الخاصة بالسياسيين والمنظمات غير الحكومية ومراكز الفكر والصحفيين، فضلًا عن أعضاء الحكومة والجيش.
ورغم أنه ليس من الواضح كيف اختُرِق حساب البريد الإلكتروني أو الحسابات، أشار «هنتلي» إلى أن هذه هي المرة الأولى التي يرى فيها تلك المجموعة تُسرِّب معلومات لأغراض التضليل، لافتًا إلى أنه «من السهل جدًّا تضخيم الحملة وزيادة التأثير. تتمثل مهمتنا في فهم التهديدات الجسيمة والتصدي لها. كل ما لدينا هو التكهنات».
وكانت وحدة تحليل التهديدات في جوجل (TAG)، قالت إنها لاحظت نشاطًا متزايدًا من أوروبا الشرقية، ممن يبدو أنهم من المدعومين من الحكومة، وسط الغزو الروسي لأوكرانيا، حيث تستهدف التجسس على الحسابات الشخصية لكبار الشخصيات، وكذلك كيانات البنية التحتية الحيوية، وفي ذلك النفط والغاز والاتصالات السلكية واللاسلكية والتصنيع.
وأضاف «بيلي ليونارد billy leonard»، مسئول في وحدة تحليل التهديدات في جوجل، أن «كولد ريفر» اعتمدت خدعة قديمة وأرسلت روابط إلى مواقع التصيد الاحتيالي في رسائل البريد الإلكتروني، وملفات «PDF» و«doc»، ومستندات من «جوجل درايف Google Drive» أو حسابات Microsoft One Drive، في محاولة لعدم كشفها.
كما أكد «ديرلوف» أن حساب «ProtonMail» الخاص به قد اختُرِق، وقال: «أنا على دراية جيدة بشأن عملية روسية ضد حساب (بروتون Proton) الذي يحتوي على رسائل بريد إلكتروني مني وإليَّ»، وأضاف أن رسائل البريد الإلكتروني لا تُظهر أي شيء خبيث، إنما «ممارسة ضغوط شرعية» تخضع الآن -بنظرة عدائية- للتشويه، لكنه مع ذلك أشار إلى أنه «يجب التعامل مع المادة المُسربة بحذر؛ نظرًا لسياق الأزمة الحالية في العلاقات مع روسيا».
وقال «روبرت تومبس Robert Tombs» -في تعليقه على الرسائل المُسربة- إنه وزملاءه على علم بهذه «المعلومات المُضللة الروسية القائمة على القرصنة غير القانونية».
وقال خبير الأمن السيبراني في جامعة جونز هوبكنز، «توماس ريد Thomas Rid»، إنه بينما يجب على الصحفيين ألا يخجلوا من تغطية المواد الموثقة التي كشفها التسريب، يجب عليهم أن يخطوا «بحذر شديد»، وأضاف: «إذا كان التسريب يحتوي على تفاصيل إخبارية، فمن المفيد أيضًا أن نشير إلى أن المواد تأتي من وكالة استخبارات معادية (في إشارة إلى روسيا)، خاصة في وقت الحرب».