كتاب «العصا الغليظة»: السياسة الأمريكية في مائة عام
أطروحة الكتاب الرئيسية التي ينافح المؤلف عنها هي أهمية القوة العسكرية في السياسة الخارجية الأمريكية، ففي ظل شكوك داخل المجتمع الأمريكي حول جدوى «العصا الغليظة» والدعوات لأن تنصرف أمريكا إلى شؤونها الدولية الخاصة، تاركةً بقية دول العالم تشق طريقها بنفسها، دون أن تلعب دور «الوصيّ» يدعو كوهين لإبقاء القوة العسكرية وزيادتها لكونها الأداة الأهم والأكثر فاعلية لاستمرارية الهيمنة الأمريكية.
يسعى الكتاب للإجابة عن عدة أسئلة، أهمها:
- ما حدود وآفاق الدور الذي ينبغي أن تلعبه القوات المسلحة في السياسة الخارجية الأمريكية؟
- ما أبرز الدروس والعبر الواجب استخلاصها بعد عقد ونصف من الحروب منذ بداية القرن الجديد؟
- من الخصوم الرئيسيين الواجب على الولايات المتحدة مواجهتهم باستخدام القوة فعليًا أو التهديد باستخدامها؟
يرى كوهين أن الولايات المتحدة تواجه اليوم أربعة تحديات رئيسية؛ تتمثل في بروز الصين كقوة عظمى، والحركات الإسلامية التي تستخدم العنف، والدول القوية الراغبة في تغيير الوضع الراهن، وأخيرًا تحدي المساحات الخارجة عن السيطرة والتحكم، الواقعية منها كـالمحيطات أو الافتراضية كالفضاء الإلكتروني.
يبدأ المؤلف كتابه بوصف مشهد تاريخي وقف فيه تيودور روزفلت نائب الرئيس الأمريكي الذي صار رئيسًا بعد ذلك أمام حشود من مؤيديه ليوضح لهم أنه لم يعد هناك مجال لأن تتجاهل الولايات المتحدة الواجبات الملقاة على عاتقها تجاه «الأمم الأخرى»، وذكّر مستمعيه بالمثل الشهير: «تحدث بلين وتسلّح بعصا غليظة فالطريق أمامك طويل»، ومن هذا المثل جعل كوهين «العصا الغليظة» عنوانًا لكتابه، واسترشد بهذا المشهد الذي دخلت بعده الولايات المتحدة شريكًا قويًا إلى عالم القوى العظمى ليبدأ أطروحة الكتاب الرئيسية أنه على الولايات المتحدة أن تمضي قدمًا في أداء دور الضامن لنظام العالم والناطق الرسمي لمجموعة الدول الحرة، والمدافعة – في بعض الحالات – عن حريات الشعوب الأخرى في أقاصي الأرض.
مبررات استمرار الهيمنة
يسعى الفصل الأول لإيجاد مبررات منطقية لمسئولية الولايات المتحدة في الحفاظ على النظام العالمي من خلال استخدام القوة في شتى بقاع الأرض، ويرى المؤلف أن هذه المسئولية كانت بديهية في أذهان الشعب الأمريكي في أعقاب الحربين العالميتين، إلا أن آخر جيلين من الأمريكيين – لكونه لم يعاصر تلك الحروب – يرى أنه لا بأس من التراجع عن القيام بهذا الدور، ويرى كوهين أنه لا بد من إحياء تلك المسئولية في الأجيال المعاصرة.
أجملَ كوهين في بداية الفصل ما يمكن تسميته «شبهات خمس» حول جدوى القوة العسكرية، وهي: الزعم بأن العالم صار أكثر أمنًا وسلامًا ولا داعي لمزيد من الإنفاق على القوة العسكرية، وإدعاء الواقعيين أن منطق ميزان القوى سيؤدي إلى استقرار السياسة الدولية دون الحاجة لمزيد من التدخلات الأمريكية، ودعاوى إحلال القوة الناعمة بديلًا للخشنة، وفرضية أن أمريكا غير كفؤة في استخدام القوة الخشنة، وأخيرًا أن الأولويات المحلية أولى بالعناية من النشاطات الخارجية، ثم أخذ يُفصِّل في الرد على كل «شبهة»، واحدة تلو الأخرى.
يرفض المؤلف القول بأن العالم صار أكثر أمنًا، فالحروب لم تتوقف في شتى بقاع الأرض، والقدرة على الفتك بالبشر وإفنائهم صارت أسهل وأسرع، ولا يُعد توازن القوى الذي يتبناه الواقعيون مبررًا لتقليص التدخلات الأمريكية، كما أنهم يتجاهلون كل ما هو غير ملموس كقوة الإيمان والإيديولوجيا، ولا يعبئون بالفواعل غير الحكومية.
أما القوة الناعمة، فلم تنجح في السنوات الأخيرة في ردع روسيا عن إشعال حرب في جزيرة القرم ولا عن التدخل في سوريا، ولم تفلح العقوبات في إثناء كوريا الشمالية عن برنامجها النووي، كما أن العقوبات التي فُرضت من قبل على نظام صدام لم تجدِ نفعًا، بل اتُهمت الولايات المتحدة بأنها أسهمت في معاناة الشعب العراقي.
وبخصوص الادعاء بأن الولايات المتحدة غير ناجحة في تدخلاتها العسكرية فلكل جواد كبوة، وليس ثمة دولة نجت من إخفاق أو اثنين. وأخيرًا، تاريخيًا لم تكن الحرب عائقًا عن التنمية الداخلية، فمشاريع السكك الحديدية بدأت إبان الحرب الأهلية، وقوانين إلغاء التمييز العنصري صدرت أثناء حرب فيتنام.
في الفصل الثاني، يستقرئ الكاتب وقائع 15 عامًا من الحروب في أفغانستان والعراق وضد تنظيم القاعدة، مؤكدًا أهمية دراسة تلك الحروب جملة واحدة وفي سياق واحد، لا بوصفها نزاعات منفصلة عن بعضها، لأن رسم استراتيجية مستقبلية ناجحة يرتبط بدراسة نجاحات وإخفاقات تلك المرحلة وما قبلها أيضًا، لأن هذه الحروب لم تكن وليدة القرن الحادي والعشرين وإنما ممتدة الجذور في القرن العشرين.
يلقي الكاتب باللوم على إدارتي بوش وأوباما لحربي العراق وأفغانستان، لكونهما فشلا في إقناع الشعب الأمريكي بأن الحرب سيطول أمدها، ولم يبذلا جهدهما لتعبئة الرأي العام بالخطب والتضحيات الرمزية والترويج للإنجازات العسكرية في ميدان المعركة، ومع طول الوقت أعرب أكثر من نصف الشعب الأمريكي عن أسفه للتدخل في العراق، وختم الفصل بأنه لا بد من حشد الموارد والقدرات داخليًا لاستخدام القوة الخشنة خارجيًا.
اليد الأمريكية العليا
في الفصل الثالث، يستعرض كوهين ملامح القوة الأمريكية التقليدية وغير التقليدية، وتفوقها على منافسيها، فالقواعد الأمريكية منتشرة في شتى بقاع الأرض، ولديها القدرة على نشر قواتها إذا دعت الحاجة.
وفي المقابل يصف منظومة الدفاع الأمريكية الحالية بالقصور الذاتي، وينعتها بأنها «ضحية النجاح في الحرب العالمية الثانية»، وأن التهديد الوجودي كان دافعًا للتطوير ولم يكن هناك ترف الالتزام بالإجراءات البيروقراطية التي أضحت تعيق الإبداع الآن بداعي المراقبة والمساءلة.
بجانب امتلاك الإمكانيات الاقتصادية والديموجرافية التي تؤهل أمريكا لتستمر كقوة عظمى، نجحت الولايات المتحدة في تكوين تحالفات وائتلافات مع دول أخرى، كبريطانيا الحليف التاريخي، والهند لتحقيق التوازن مع الصين.
الصين: الخطر الأبرز
يبدأ الفصل الرابع بالحديث عن التنين الصيني الذي مثل صعوده الظاهرة الأبرز في السياسة العالمية في القرن الحادي والعشرين، باعتباره التحدي الأكبر للولايات المتحدة، والذي يجب تحقيق التوازن معه ومنعه من هدفين؛ فرض الهيمنة على جيرانه الإقليمين، وسعيه لإعادة تشكيل نظام دولي جديد.
يتنامى الاقتصاد الصيني ومعه تنمو القوة العسكرية لتنافس أمريكا، ولا يزال الإنفاق الصيني على التسليح غامضًا، بالإضافة إلى امتلاك الصينيين لثقافة استراتيجية متميزة، تتقن الحروب غير المباشرة والحروب النفسية.
تتنامى أطماع الحزب الشيوعي الحاكم في بحر الصين الجنوبي وربما يكون هذا هو الدافع الأكبر لاندلاع مواجهة بينها وبين الولايات المتحدة مستقبلًا، ولكن كوهين يرى أن أفضل الخيارات هو تجنب الحرب تمامًا، مع السعي لإيجاد رادع قوي للصين يختلف تمامًا عن نمط الردع إبان الحرب الباردة، ويتلخص في تطويق الصين عبر تحالفات مع جيرانها الإقليميين وهيكلة قوات في محيطها الحيوي، وإيجاد تعبئة قادرة على إفشال أي هجمات محتملة.
التنظيمات المتطرفة
ينتقل الكتاب للحديث عن التنظيمات المتطرفة، وإذا كانت المواجهة العسكرية مؤجلة مع الصين إلى الآن، فهي مستمرة منذ سنوات مع حركات وتنظيمات تنتشر في عدة دول، والتي يرفض البعض إلى الآن تسميتها «حربًا».
يطرح الكاتب عدة طرق للمواجهة؛ أولًا، التأكيد على أن المواجهة مع المتطرفين هي حرب طويلة الأمد، لم تنتهِ بمقتل أسامة بن لادن ولا غيره من قادة تلك التنظيمات، وثانيًا، العودة إلى استراتيجية القبض على القيادات بدلًا من الاغتيال بواسطات الطائرات من دون طيار، والإبقاء على معتقلات مثل جوانتنامو مفتوحًا، ووضع اتفاقات «استثنائية» للتعامل معهم، وثالثًا، السعي لتشتيت تلك التنظيمات ودعم الانقسامات والانشقاقات داخلها، ورابعًا، يأتي دور القوة الناعمة بتوجيه رسائل إعلامية لإقناع العالم الإسلامي بأن الولايات المتحدة لا تعادي معتقداته، لكنها تعادي الأيديولوجيا الجهادية، وأخيرًا فربما تضطر الولايات المتحدة إلى المشاركة في عمليات عسكرية لاستهداف الجهاديين، لكن لا بد من التعلم من تجربتي العراق وأفغانستان لتفادي التداعيات المريرة في مرحلة ما بعد إسقاط النظام.
دول خطرة
التحدي الاستراتيجي الثالث لأمريكا هو مجموعة الدول «المعادية»؛ روسيا وإيران وكوريا الشمالية، التي تتفق في كونها تحت حكم استبدادي يعتمد على القهر للاحتفاظ بالسيطرة، وتمتلك أسلحة نووية ويتشاركون في عدائهم للولايات المتحدة، وتعد كل من روسيا وإيران قوى تعديلية تسعى لتغيير موقعها في النظام الدولي القائم.
تأتي روسيا «البوتينية» على قمة الدول الخطرة بنزعتها المُعدَّلة وسعيها لاستعادة الهيبة والسيطرة في محيطها الجيوسياسي من ناحية، والرغبة في كسر شوكة حلف شمال الأطلسي (الناتو) من ناحية أخرى.
يرى كوهين أن سلوك روسيا الخارجي يهدد قواعد السلوك المتعارف عليها في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وقد برز هذا بوضوح في الاعتداء على أوكرانيا رغم أن كلًا من الولايات المتحدة وبريطانيا قد ضمنتا حفظ حدودها في إعلان بودابست عام 1994، ويصف كوهين الطريقة الروسية في الحرب أنها «تستفز المعارضين الضعفاء جدًا بطريقة تثير رد فعل يمكن أن تستغله لصالحها، وتستأسد على أعداء غير قادرين على التهديد بحرب مفتوحة ضد موسكو.
أما عن إيران، فيرى كوهين أنها «خليط محير من القوة والضعف»، ودائمًا ما يحمل قادتها وجهات نظر معادية للغاية تجاه أمريكا، فهي تهدد المصالح الأمريكية لكونها تمتلك مشروعًا نوويًا طموحًا، ولأنها تهدد استقرار عدد من الدول الحليفة لأمريكا وتشن حربًا بالوكالة ضد دول الخليج في اليمن.
يصف كوهين كذلك كوريا الشمالية بأنها «مشكلة استراتيجية كبرى» لكونها لا تستجيب لأي رادع أخلاقي أو مادي، فهي لا تمتلك مشروعًا نوويًا فحسب بل تسعى لتصدير تكنولوجيتها النووية، عندما قامت ببناء مفاعل نووي في سوريا، وكذلك أرسلت خبراء إلى إيران.
يرى الكاتب أن هناك أربعة أهداف للقوة الخشنة في مواجهة الدول الخطرة، وهي:
- ردعها عن القيام بمغامرات عسكرية كبرى
- طمأنة الدول الحليفة في مواجة تلك الدول الخطرة.
- الاستعداد لخوص الحروب الهجينة وغير التقليدية.
- القدرة على استخدام القوة بشكل استباقي لاسيما في مواجهة إيران وكوريا الشمالية.
الفضاء الحر والمشاعات غير الخاضعة للرقابة
ينتقل المؤلف للحديث عما سماه «الفضاء الحر والمشاعات غير الخاضعة للرقابة» ويقصد بها المناطق الواقعية أو الافتراضية التي لا تخضع لسيادة أي دولة، كالأراضي التي تقع تحت سيطرة دولة من الناحية الاسمية لكن تهيمن عليها واقعيًا مجموعات متمردة من العشائر أو القبائل وربما العصابات أو الحركات المسلحة، ويشدد على أهمية التدخل العسكري في المناطق التي تعم فيها الفوضى والأهم متابعة هذا التدخل لسنوات وربما عقود، كي لا يتكرر ما حدث في ليبيا من إسقاط نظام القذافي والانسحاب دون الإشراف على عملية بناء الدولة الجديدة.
هذا عن المشاع الأرضي، لكن ثمة مشاعات بحرية ستحتاج أمريكا قوة أكبر نوعيًا من أجل استعراض القوة على سطح البحر وفوقه وتحته، كذلك الفضاء الخارجي فالسماء مشاع وامتلاك عدة دول للتقنيات المضادة للأقمار الصناعية يجعل النظم الفضائية الأمريكية عرضة للهجوم دائمًا، وكل هذا يحتاج إلى قيام الولايات المتحدة برصد وإعداد ردود على خصومها الحقيقيين والافتراضيين.
استراتيجية استخدام القوة
يختم المؤلف كتابه بتوضيح قواعد استخدام القوة الخشنة، ويستهل الفصل بنقد القواعد التي وضعها وينبرجر (وزير الدفاع في عهد ريجان) واحدة تلو الأخرى، بوصفها انهارت ولم تعد صالحة للتفعيل الآن، وفي المقابل يطرح قواعد بديلة يراها كوهين أكثر منطقية:
- عليك بفهم حربك على ما هي عليه، وليس كما ترغبها أنت أن تكون.
- التخطيط مهم، والقدرة على التكيف أكثر أهمية.
- سوف تفضل أقصر الطرق، ولكن كن على استعداد لأطولها.
- عندما تخوض قتالًا اليوم، كن مستعدًا للتحدي غدًا.
- الاستراتيجية البارعة أمر مهم، لكن المثابرة عادة ما تكون أكثر أهمية.
- يمكن للرئيس أن يشن حربًا، لكن لكي يفوز بها، عليه أن يحصل على دعم الكونجرس والشعب.
في النهاية، يمكن تقييم الكتاب بشكل عام من رؤيتين؛ رؤية المواطن الأمريكي الذي إن اختلف مع المؤلف في أفكاره جزئيًا أو كليًا فإنه حتمًا سيحترم غيرته الشديدة على بلاده وسعيه الدؤوب لحفظ مكانة بلاده كقوة مهيمنة في الساحة الدولية، والرؤية الأخرى للمواطن العربي الذي سيصاب بحسرة مزدوجة، الأولى، لكون بلاده حقل تجارب ومطمعًا للقوى الكبرى كما أوضح الكتاب، والثانية، لندرة من يفكر بطريقة كوهين وينظر ويتمتع بالحرية الكافية لينتقد حكومته بكل أريحية!