الخطاة الكبار: دوستويفسكي وأبي وأنا
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
1. الخطيئة والعذاب
في الحلم أقف مع دوستويڤسكي على المشنقة، كأنني أرى من خلال عينيه بينما ينتظر هو ورفاقه تنفيذ حكم الإعدام، لاتهامهم بجرائم سياسية. الزمن 22 ديسمبر، عام 1849، وفي المشهد الذي يتجلى على أرض ميدان سيمينوڤسكي بمدينة سان بطرسبرج كما يبدو من أعلى المشنقة، يتراءى أول ثلاثة من المحكوم عليهم مقيدين إلى أوتاد أمام كتيبة الإعدام. ويظهر فيودور ميخائيلوڤيتش في المجموعة التالية، متيقناً أنه سوف يلقى حتفه بعد دقائق قليلة. على المشنقة (كما يصف چوزيف فرانك المشهد في كتابه العمدة عن سيرة حياة دوستويڤسكي) يلتفت دوستويڤسكي إلى نيكولاي سبيشنيف – والذي سيكون بعد عشرين عاماً مصدر الإلهام لشخصية ستافروجن العدمي في رواية الشياطين – قائلاً: «سوف نكون مع المسيح» فيرد عليه سبيشينيف بابتسامة غريبة، «بل حفنة من تراب.»
بالطبع لم تطلق كتيبة الإعدام النيران على المتهمين. وكانت مراسم الإعدام مسرحية متكاملة التفاصيل كما رسمتها تعليمات القيصر شخصياً. فقد تهادى رسول القيصر على فرسه على نحو درامي إلى الميدان ليعلن أن نيكولا الأول، برحمته الواسعة، قد استبدل السجن والنفي إلى سيبيريا بحكم الإعدام. فقضى دوستويڤسكي أربع سنوات في الأشغال الشاقة، مشفوعين بأربعة أخر في صفوف حامية نائية في سهوب الجنوب – كل هذا عقاباً لجريمة التآمر بطباعة وتوزيع منشورات تخريبية.
انهار أحد رفاق دوستويڤسكي صريعاً جراء مراسم الإعدام الوهمية بعد أن تهالكت أعصابه خلال ثمانية شهور من الحبس الانفرادي. ولكن دوستويڤسكي، رغم اضطرابه الشديد، فقد ولد من جديد. وهذا لا يعني أنه قد أصابه التغير والتحول بعد. فهذا ما سوف يستلزم السنوات الأربع التالية في «الكاتورجا»، وهي نظام معسكرات السخرة الشاسعة في براري سيبيريا، وهي السنوات التي حظيت بشيء من التجسيد المتخيل في روايته السير ذاتية «مذكرات من منزل الأموات»، والتي نشرت بعد عامين من عودته من المنفى في 1861. هناك، داخل قلعة أومسك حيث معسكر السجن العسكري الرهيب، مر دوستويڤسكي بما اعتبره الكثيرون لاحقاً واحدة من أعظم تجارب اليقظة الأخلاقية الروحية في الأدب العالمي، ويمكن القول إن فيدور ميخائيلوفيتش قد أصبح دوستويڤسكي إثر ذلك.
في الصفحات الأولى من رواية مذكرات من منزل الأموات، يقدم لنا دوستويڤسكي لمحة عن بداية هذه اليقظة الروحية. فراوي دوستويڤسكي، باعتباره من النبلاء المتعلمين (حتى وإن كان من المستويات الدنيا) تفصله عن بقية رفاقه من المساجين – باستثناء حفنة قليلة – الفروق الطبقية والامتيازات الاجتماعية، وسرعان ما أدرك أنه لا يعرف أي شيء عن هؤلاء الرجال أو كيف يفكرون أو يشعرون. فكان عليه أن يعيد النظر، هذا إذا لم ينبذ نهائياً، افتراضاته الاشتراكية الطوباوية وأي تصورات تبسيطية مخلة عن الفقراء والمقهورين. فقد واجه في الحقيقة أشكالاً متطرفة من الفساد الأخلاقي، ومهاوٍ من اليأس والقنوط لم يتخيلها من قبل.
فأحد السجناء – كما يخبرنا الراوي – قيل إنه: «غرس سكيناً في جسد رجل بمنتهى اللا مبالاة، لا لشيء إلا من أجل بصلة» وآخر، كما أخبرنا، «يَجزُ رقاب الأطفال الصغار، بدافع المتعة، لكي يشعر بدمائهم الدافئة على يديه، ويستلذ بخوفهم، ورعشتهم الأخيرة التي تشبه رعشة اليمام تحت حد السكين» وآخرون، كما تسنى له أن يفهم، كانوا يرتكبون جرائمهم على وجه التحديد «لكي يحظوا بالأشغال الشاقة ومن ثمَّ يتخلصون من حياة أكثر قسوة خارج السجن» فضلاً عن سجين آخر يحكي كيف ضرب زوجته بوحشية واغتالها لأنها اعترفت له بحبها لرجل آخر، فكان أن رد أحد مستمعيه ببرود: «مم … بالطبع، إن لم تضربهن – فلا ترتجي منهن خيراً!» (هذا المشهد الأخير الذي يمتد بطول الفصل يمثل إحدى صرخات دوستويڤسكي العديدة نيابة عن النساء المقهورات).
من الجائز أن استحالة سبر أرواح رفاقه المساجين كان أكثر ما يوقع الاضطراب في نفسه. إذ يقول راويه قرب بداية الرواية: «لم أرَ أوهى إشارة على الندم بين هؤلاء الرجال، ولا أقل ما يوحي بأنهم يتأملون في جرائمهم»، «من ناحية أخرى، من يستطيع أن يدعي أنه سبر أغوار تلك القلوب الضائعة وقرأ بها المخبوء عن العالم بأسره؟ … لا، فكما يبدو، لا يمكن فهم الجريمة من وجهات النظر التقليدية المعروفة سلفاً»
في الحقيقة، يبدو أن ما يواجهه الراوي في السجن من تعقيدات «الإنسانية» وفوضاها الأخلاقية يتناقض وأنماط التفسير العقلانية التي تعلَّم أن يستند إليها، وهو ما حدا بدوستويڤسكي أن يتجه إلى نوع من التأمل الفلسفي يشير على ما يبدو إلى منحى جديد في فكره وكتابته. وفي محاولته لتقسيم المساجين إلى «الطيبين» و «الأشرار» و«أولئك اليائسين تماماً»، يتراجع الراوي ويعترف: «ومع ذلك، ها أنذا أحاول أن أصنف سجننا بالكامل إلى فئات؛ ولكن هل هذا ممكن؟ فالواقع متنوع بشكل غير محدود مقارنة بكل استخلاصات الفكر المجرد، مهما كانت براعتها».
وإزاء حساسيته البالغة للعداوة التي يكنها المساجين الفلاحون تجاه النبلاء المتعلمين من أمثاله، كان يتوق إلى شيء من التواصل الإنساني الملموس لكسر الحواجز الطبقية، ولكن دون أن يخدع نفسه بشأن محو هذه الحواجز. «كلنا بشر، كلنا كائنات إنسانية. ولكن الفكرة مغرقة في التجريد».
يواصل الراوي تأملاته، «يحدث أحياناً في السجن أن تعرف رجلاً لسنوات عديدة وتنظر إليه باعتباره وحشاً، وليس بشراً، وتكن له كل احتقار. وفجأة تأتي لحظة عابرة تنفتح فيها روحه، بدافع لا إرادي، فترى فيها ثروات من المشاعر ودفء القلب، وذاك الفهم الصافي لعذاباته وعذابات الآخرين، وكأن عينيك قد أبصرتا فجأة».
ولكن لا شيء يمس شغاف قلب دوستويڤسكي مثلما تفعل الشعائر الأرثوذكسية الروسية استعداداً للأسبوع المقدس الذي يسبق عيد الفصح، عندما «يقتاد الحراس المسلحون المساجين لبيت الرب»، فيتذكر الراوي وهو محشور بين رفاقه خلف أبواب السجن، كيف كان يقف في الكنيسة وهو طفل، يتطلع إلى «الناس البسطاء وهم يزحمون مدخل الكنيسة»، ويفكر «أنهم لا يصلون مثلما نفعل، بل يصلون في خشوع، وحماس، وهم يحنون رؤوسهم على الأرض».
والآن يجد نفسه في نفس الوضع، ولكن مصفد في الأغلال ومجلل بالخزي، ويرسم لنفسه مشهداً كأنه بريشة الفنانين العظام. فيسرد علينا كيف كان «المساجين يصلون بخشوع، وكيف يحضر كل منهم ما يملكه من النقود الشحيحة للكنيسة لكي يشتري شمعة أو يتبرع بها. فلربما تفكَّر أو شَعَرَ في قرارة نفسه وهو يتبرع بها ’ أنا أيضاً إنسان‘. ’ كلنا متساوون أمام الرب‘ ويواصل الراوي تفاصيل المشهد، وخلال شعيرة المناولة، «عندما يمسك القس بالكأس وهو يرتل ’…وتقبلني كما تقبلت اللص،‘ يخر جميع السجناء سجداً في أصفادهم المصلصلة».
هذا النور الذي يومض بين الفينة والأخرى يخفف من كآبة الوصف الوحشي لحياة السجن – البرد القارس، والثكنات المكتظة، والطعام الرديء، والخوف، وجلسات التعذيب اللا إنسانية، والروائح النتنة والموت في مستشفى السجن. ورغم ذلك يأبى دوستويڤسكي أن يضفي أي طابع مثالي أو عاطفي على «الروح الإنسانية» لرفاقه السجناء. فلا يدع قارئه ينسى أن معظم هؤلاء الرجال بإمكانهم ارتكاب أبشع الجرائم. فهم أفراد يتسمون بالتعقيد، مجرمون وبشر، خاطئون ومعذبون.
قد يفضل بعض القراء دوستويڤسكي بدون كل هذه الأبعاد الدينية – فيرغبون في دوستويڤسكي المهتم بالأبعاد النفسية، المولع بالجريمة، دوستويڤسكي العلماني الفلسفي – ولكن هذا يشبه أن ترغب في ماركس بدون نظريته عن التاريخ. فإيمان دوستويڤسكي الديني المتجذر – بكل صراعاته الداخلية الحادة وتناقضاته المزلزلة – يمثل محوراً مركزياً في أعماله. وقد شكل هذا الإيمان، في أفضل أحواله، نوعاً من النزعة الإنسانية المسيحية الجامعة؛ أما في أسوأ أحواله، كما هو الحال في سنواته الأخيرة، فقد كان في خدمة نزعة قومية روسية أرثوذكسية عدوانية.
في عام 1869، أثناء انتهائه من رواية «الأبله» – وهي محاولته غير المُرضية أن يصور إنساناً شديد الطيبة تصويراً حياً، إنساناً يشبه المسيح، ولكنه بشر غير معصوم من الخطأ – بدأ دوستويڤسكي في التخطيط لرواية جديدة ضخمة متعددة الأجزاء، أو سلسلة من الروايات، كان سيسميها حياة خاطئ عظيم. ولم تكتمل هذه الرواية أبداً، إلا أن عناصر عديدة منها تظهر في روايتي «الشياطين» و «الأخوة كارامازوف». وكما يسجل دوستويڤسكي في مذكراته، يمر بطل روايته «الخاطئ الكبير» بأزمة إيمانية تغير مجرى حياته تماماً، فيجوب روسيا وأوروبا بحثاً عن «فكرة»، ويقضي بعض الوقت في أحد الأديرة تحت توجيه القديس الروسي تيخون. وكما رسم دوستويڤسكي لبطله فسوف «يجد الراحة والسلام في نهاية المطاف في المسيح، ولكن حياته بأكملها ستكون نهباً للعواصف والاضطرابات».
ويقال إن تيخون التاريخي ابن مدينة زادونسك قد خاض تجربة «ليلة الروح المعتمة»، فعلى لسانه جاء المبدأ الذي يشغل قلب الرواية التي كان دوستويڤسكي يخطط لها، وهو أنه «لا توجد أي خطيئة، أياً كان نوعها، ولا يمكن أن توجد على وجه الأرض خطيئة، لن يغفرها الرب لمن تاب توبة مخلصة».
اليوم تبدو كلمة خطيئة في الحقيقة وكأنها ذات وقع عتيق. ومع ذلك فربما كان لها استخداماتها، حتى بالنسبة لأعتى المتشددين في التحرر من الدين. فما زال السؤال يطرح نفسه: ماذا نفعل بشأن «الخطاة الكبار» الذي يعيشون بيننا؟ لا أعني تلك الحالات المتطرفة، التي يمثلها الشر الذي لا سبيل لإصلاحه، ولا صلاح لها إلا باستئصال شأفتها من المجتمع. ما أعنيه هو تلك الحالات الأكثر عدداً، أولئك الأشخاص الذين يتسببون للآخرين عن عمد في أذى ومعاناة بالغين، على الرغم من «صفاتهم التي تشفع لهم»، أو «ملائكتهم الأكثر طيبة» – أي قدرتهم على المشاعر الطيبة، والتعاطف والحب.
وربما مروا هم أنفسهم بتجارب فادحة من المعاناة، ولكن لأسباب لا يفهمونها على الأرجح –لأننا نتكلم هنا عن شيء أعمق، دون مستوى العقلانية في الأغلب– فهذه الأرواح التي تبدو عادية من ناحية أخرى (ونحن من ضمنهم، من باب الأمانة) تُصَدّر معاناتها نحو الخارج وتنزلها بالآخرين، بما في ذلك الضعفاء والأبرياء، سواء كانوا غرباء أو أقرباء. فكيف نرتبط بهؤلاء الأشخاص، ونعايشهم، عندما نحبهم –أو عندما نريد أن نحبهم– وعندما يكون من نحبهم، ونحن معهم، هم الضحايا؟
هذه أسئلة أبدية، ولن يكون هناك أية إجابة نهائية لها، ولا صيغ نمطية معدة سلفاً. ولكن دعونا نعترف، على الأقل، أن هذه الأسئلة حقيقية وملحة – وربما أكثر إلحاحاً في هذه اللحظة التاريخية التي يجب أن يقرر فيها البشر في هذا البلد وفي كل مكان حول العالم إذا ما كان بإمكانهم أن يتعايشوا معاً كمواطنين، وجيران، وأعضاء في العائلة الإنسانية.
2. اعتراف
عندما بدأت الأحلام تراودني عن دوستويڤسكي، أدركت أنها صارت ضرباً من الأفكار المسيطرة على ذهني. ومن ثم ماذا كان يمكن أن أفعله، لو تكرمت عليّ بالإجابة، في أجواء الجائحة التي حاقت بنا، إلا أن أستسلم لها؟ فعلى مدار سنتين كنت أقرأ كل رواياته الكبيرة، ثم استغرقت في قراءة سيرة حياته التي كتبها چوزيف فرانك. لم يكن هناك مفر من ذلك، الحل الوحيد كان المضي قدماً.
ربما كان علي أن أوضح، قبل أن أضيف المزيد، أنني فقدت والديَّ أثناء الجائحة. لا أعني أنهما ماتا ضحايا لوباء كوفيد-19، ولكن ماتا خلاله – تكاد المحصلة أن تكون واحدة بالنظر إلى سنهما، حيث ناهزا التسعين، وحالتهما الصحية والذهنية المتدهورة، في وقت العزل والإغلاق، قبل أن تجلب اللقاحات بعض الانفراج. فقد حدد الوباء بما فرضه من عزلة ووحدة وحبس إجباري وغياب موحش للأقارب نهايتهما. فقد كانا سجينين.
لا أعني أن هذا شيء مهم في حد ذاته، أو أن الشخص الذي يكتب عنه يتمتع بأية أهمية. فأنا مجرد رجل أمريكي أبيض في منتصف العمر، متزوج ولدي ولدان في عمر الشباب، وأملك منزلاً في مدينة من المدن المزدهرة غرب بوسطن حيث أعيش منذ خمسة وعشرين عاماً. ومثلي مثل كثيرين بالطبع لا أنتمي إلى هذه الولاية. فقد ولدت ونشأت في جنوب ولاية كاليفورنيا، بالقرب من مدينة لوس أنجلوس، وتمتد جذوري إلى عائلة من الطبقة العاملة الريفية في مدينة صغيرة بولاية تكساس، وأحمل على كاهلي ميراثاً من التربية المسيحية المحافظة التبشيرية المميزة لتلك الولايات الجنوبية التي تعرف بالحزام الإنجيلي. ولكن لا شيء يحمل أهمية خاصة في ذلك أيضاً. فأنا لن أقص عليك قصة حياتي – فقط بعض الوقائع المتعلقة بالموضوع الذي أعالجه.
بادئ ذي بدء، أود التنويه أن والديَّ كانا يحبان بعضهما حباً عميقاً، فقد تقابلا وتزوجا قبل أن يبلغا العشرين من عمرهما. وكان أبي ينتمي لأسرة من المزارعين غير الملاك الذين يعملون مقابل حصة في المحصول، وكان جدي لأمي ريفياً يعمل ساعياً للبريد. يجب أن أوضح أيضاً أن كليهما كانا متقلبين عاطفياً، بل طائشين، وتنتابهما نوبات انفجارية من الغضب الجامح وشجارات مخيفة ممتدة تستنزف الأعصاب. كانت هذه المشاهد بينهما معتادة لا حصر لها، وهو ما كان ينهك أعصاب أولادهما – أنا وأخواتي البنات الثلاث الأكبر سناً. لقد انفصل والداي عدة مرات، ولكن مع وساطات رعاة الكنيسة وكبرائها كانا «يتصالحان» على نحو ما.
يجدر بالذكر أن كليهما، ولا سيما أمي، كانا متدينين ورعين، رقيقي الحاشية عطوفين، كريمين حنونين، وفضلاً عن ذلك يتمتعان بحس دعابة عظيم. كانت أمي تحب الضحك، والتضاحك مع الآخرين، كأن الضحك، مثل الصلاة، والتنفس، من ضرورات الحياة، وترياق لكل الآلام. كان الضحك، وجل الصلوات، بالطبع، من نصيبها – كما كان جل المعاناة من نصيبها أيضاً.
أريد أن أوضح أمراً هنا، ألا وهو أن أبي لم يكن رجلاً سيئاً. فملائكته الطيبون، في نهاية الأمر، كانوا أفضل من كثيرين غيره. ولكنه ارتكب بعض الأمور السيئة، بعضها كان غاية في السوء، لا يمكن غفرانه.
سوف أحاول أن أشرح هذا على نحو بسيط ومباشر بقدر الإمكان. فذات صباح على مائدة الإفطار عندما كنت في الصف الرابع الابتدائي (فقد كنت الطفل الوحيد المتبقي في المنزل، إذ كان أخواتي البنات قد تخرجن في المدرسة الثانوية)، رأيت أبي يرتكب ما يمكن أن يسمى جريمة من جرائم العنف، تصرف شرير وحشي. كانت أمي هي الضحية. لم تُمحَ تلك الذكرى من مخيلتي، وظلت حية على نحو غريب، وما زالت تراودني دونما داعٍ وبلا سابق إنذار. تعيش بداخلي، في جسدي.
لا أتذكر كيف بدأت الواقعة. أدرك فقط أنهما كانا يتشاجران بحدة كالمعتاد، كان ثمة ما يشي باليأس في صوت أمي، فتقبَّضت أحشائي على ذلك النحو المألوف ففقدت شهيتي للطعام. ثم حدث التالي: تناول أبي قطعة صغيرة من الورق كانت قد قدمتها له، وبها كتابة ما، فلفها على شكل كرة، وأخبر أمي أنها ستبلعها من نفسها أو سوف يجبرها على ذلك.
ثم هب على قدميه، وأحكم قبضته عليها في كرسيها المقابل لي عبر المائدة، فراحت تصرخ، ثم صار صراخها مكتوماً، ومشوشاً، ثم لم يسمع إلا أنيناً بينما كان يحاول أن يحشرَ لفة الورق في فمها، كانت تقاوم، وكان هو يصيح بما لم أفهمه، ثم أمسك فكها بأحد يديه وراح يحشر الورقة المكورة في فمها، الذي كان ينزف حينئذ بغزارة بينما كانت تصده. حدث كل شيء بسرعة، وببطء شديد أيضاً، أو ربما كان ذلك في مخيلتي فقط. أذكر أنني نهضت واقفاً على قدمي، وكنت أصرخ بصوتي الخفيض البائس شيئاً من قبيل «توقف يا أبي! توقف يا أبي!» لكنه لم يتوقف، كأنه لم يسمعني، أو لم ينتبه لوجودي من أصله. ثم انتهى كل شيء. غادر الغرفة، دون أن يعتذر، ورأيت لفافة الورق المبتلة الدامية على المائدة. لن أعرف على الإطلاق ما كان مكتوباً على الورقة، ولكنني أعرف أن أسنان أمي الأمامية قد انغرست في اللحم الواصل بين شفتها وذقنها، وأن دمها كان يسيل نازفاً، وكانت تنشج وهي تنادي عليه –وهي تصيح أنها، هي نفسها، آسفة– كانت صرخاتها لا تشبه أي صوت آدمي سمعته من قبل.
وأذكر أنه كان قد رحل، عندما كنت أقف على باب البيت الأمامي وهي تودعني وأنا ذاهب للمدرسة – التي كانت قريبة عند زاوية الشارع، فكنت عادة أذهب مشياً – فاحتضنتني، بينما كانت تضع منشفة وجه مبللة بها ثلج على فمها، وطمأنتني أنها ستكون بخير، وأنها تحبني، وأن كل شيء سيكون على ما يرام.
كنت قد رأيته من قبل وهو يتعامل معها بعنف جسدي بالطبع. فرأيته يدفعها بقوة على السرير. ورأيته يهددها وهو يتشاجر معها، ويميل بجسده نحوها مسدداً إصبعه نحو وجهها. ذات مرة، عندما كانا يعيشان في تكساس قبل ولادتي، سمعتْ إحدى أخواتي صراخاً فهُرعتْ إلى غرفتهما لتجدها محاصرة وظهرها للحائط، ويداه تخنقانها. لكنني لم أر مثل هذا العنف وهذه الوحشية كما حدث ذاك الصباح. منذ تلك اللحظة، أدركت أن عالمي قد تحطم تماماً. فأياً كان ما تبقى من سلطة أخلاقية لدى أبي بعد ما رأيته وسمعته، فقد تحطمت تماماً وذهبت أدراج الرياح. لقد حول أمي إلى كتلة تتلوى من اللحم –أسنان وشفاه ودماء– أمام عيني، وغادر دون أن يوجه كلمة واحدة لي، كأنني لم أوجد. لو مرت هذه الواقعة دون عقاب، وواصلت حياتنا مسيرتها كما كانت من قبل –أي لو استمر في وجوده كأبي وأنا ابنه، الملزم بإرادة الرب أن أحترمه وأطيعه، كما أمر الإنجيل– إذن لما وجد نظام أخلاقي في الكون كما كنت أراه من منظور الطفل ذي السنوات التسع الذي كنته.
لم يتكرر هذا المشهد مرة أخرى ولا أعرف السبب أياً كان – الإحساس بالخزي؟ الندم؟ الخوف من العواقب؟ ولم يتحدث أبي إلي عنه أبداً. ولكن منذ ذلك اليوم، كانت كل مشادة، أو صوت مرتفع أسمعه عبر جدران غرفة نومي يرسل رعدة خوف في أوصالي الصغيرة. ما زلت أحسها حتى الآن.
لا يعني هذا أنني لا أحتفظ له بذكريات طيبة، ولكنها ترجع لما قبل هذه الواقعة، عندما كنت أصغر كثيراً. كانت أمي تدعني أسهر لوقت متأخر حتى عودة أبي للمنزل من العمل، وبعد أن يتناول عشاءه كان يرقد على الأريكة، وكنت أمدد جسمي على صدره العريض الذي يشبه البرميل وأذهب في النوم على إيقاع تنفسه وصوته وهو يُمسّد ظهري ويحكي لي حكايات عن طفولته، مع إخوانه وأخواته الأكبر سناً في مزرعة ولاية تكساس في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، حتى صارت تلك الذكريات، والتي كانت أفضل ذكرياته التي تشبث بها، تخصني شخصياً. ولكن مع التقدم في العمر، ومع اتساع مداركي وفهمي، تعلمت أن أخافه فقط – فخنق خوفي مشاعري تجاهه، وتحول الخوف إلى حنق شديد.
علي أن أعترف أنه راودتني فكرة قتله لبعض الوقت في بدايات سنواتي العشرينية. ففي الصيف السابق على عامي الأخير بالجامعة، هجر أبي أمي من أجل امرأة أخرى. حينئذ بدأت الأحلام تراودني أنني أقتل أبي بيدي المجردتين –كان جسمي قوياً ورياضياً، وكان هو في منتصف العمر وقد وهن جسده، وكان الأمر الأكثر إثارة للرعب أنني كنت واعياً بقدرتي على قتله، وتخيلت أنني أفعلها. بالطبع لم يتجاوز الأمر حدود الأحلام– فقد بقيت الابن المطيع، وتكيفت مع الترتيبات الجديدة، وكنت مهذباً مع زوجته الجديدة، كان الله في عونها.
امتد طلاق والديَّ لسنوات – كان لديهما أعمالٌ تجارية، كان لأمي نصيب في تأسيسها. وقبل تسوية الحسابات بينهما، عانت أمي من انهيار عصبي، وأُدخلت مستشفى للأمراض النفسية، وتم علاجها من اكتئاب حاد وقلق، فضلاً عن بعض «الأعراض الذهانية»، على حد تعبير الطبيب المعالج. ثم تعافت، بمساعدة الأدوية والجلسات العلاجية ومحبة ودعم أصدقائها وأولادها – وقبل ذلك كله بفضل إيمانها.
ربما كانت أكثر السمات إبهاراً في أمي، بل ربما كان إنجازها الأعظم في الحياة، هو إيمانها المسيحي الذي كان متجذراً في الأمل والمحبة – رغم أنه لم يخلُ من ليالي الروح المظلمة – وليس في الرهبة والخوف من العقاب المميزين لتربيتها الأصولية الصارمة في غرب ولاية تكساس. كان مزمورها المفضل هو المزمور السادس والأربعين: «اَللهُ لَنَا مَلْجَأٌ وَقُوَّةٌ. …. كُفُّوا وَاعْلَمُوا أَنِّي أَنَا اللهُ».
وكان مسيح الأناجيل، مسيح التعاطف والمحبة الشاملة غير المشروطة، حقيقياً بالنسبة لها، حاضراً في كل صلواتها. وقد تأتّى لها بمعجزة ما النجاة، بشكل عام، من أشكال التعصب التي أصابت البيئة التي نشأت فيها. (للأسف لم يٌصِب أبي مثل نجاحها). كانت تحب جيرانها، أياً كانوا، حباً عملياً، وليس مجرداً. وكانت «متواضعة الروح»، واعية وعياً حاداً بخطاياها، على ما كانت عليه تلك الخطايا، راجية غفران الرب، وغفراننا جميعنا. علمتنا فضيلة العفو والتسامح. فكانت تقول: «إذا وُجد أمرؤ كريه للغاية، فهو الأكثر احتياجاً للمحبة على وجه الخصوص».
بعد ثماني سنوات مما يمكن أن نطلق عليه التيه، ترك أبي زوجته الثانية، وعاد إلى أمي، زاحفاً على ركبتيه، وطلب، بروح مخلصة على ما أعتقد، عفوها وغفرانها، وكذلك عفو أولاده. وكان أن قبلته بعد كل ما فعله. أظن أن ليس بالإمكان كتابة أمثولة ذات مغزى عن الزوج الضال أفضل من هذه. وعليه فقد تزوجته للمرة الثانية، وعاشا بقية أيامهما معاً، وصرنا أسرة سعيدة تقريباً.
ماتت أمي في عصر يوم السبت الموافق 6 يونية 2020، في إحدى المستشفيات في جنوب ولاية ناشفيل، حيث عاش والدايَ في سنواتهما الأخيرة بالقرب من أختي الكبرى وابنتها. كان الخرف قد نال من أمي إذ بلغت التاسعة والثمانين من العمر، وتعرضت لسقطة مؤذية في دار المسنين التي كانا يقيمان فيها، فأصيبت بكسر في الحوض، نتج عنه نزيف داخلي. وخلال شهري ربيع عام 2020 كانت تتنقل بين غرف المستشفيات ومؤسسات الـتأهيل، وتحت ظروف العزل الدائم بسبب الجائحة، لم يسمح لها بأي زوار. لم يتح لأبي أن يراها مرة أخرى منذ ذلك الوقت – فقد كف بصره، وفقد السمع عملياً، وعاش وحيداً معزولاً في غرفته الصغيرة بدار المسنين التي لا يسمع فيها إلا ضجيج قناة فوكس الإخبارية.
عندما أصبح واضحاً أنها لن تشفى، وأن بإمكان أسرتها أن تزورها، ألقيت بأشيائي في السيارة وقطعت الطريق من بوسطن إلى ناشفيل في ثماني عشرة ساعة، راجياً أن أدركها قبل فوات الأوان. عندما وصلت إلى هناك، كانت، لشدة دهشتي، مستيقظة في غرفتها، تتحدث بمعنويات عالية. كان ذلك آخر مساء لها وهي في وعيها، حتى أننا تبادلنا بعض الضحكات.
في الصباح التالي كانت تغط في نومها منسحبة إلى غيبوبة عميقة. كان تنفسها رغم ذلك هادئاً، منتظماً، دون أي أجهزة مساعدة. كنت قد حمّلت الإنجيل على جهازي اللوحي [التابلت]، وعلى أمل أن تستطيع سماعي، رحت أقرأ عليها بصوت مرتفع آياتها المفضلة، كل تلك المقاطع التي اعتادت أن تقرأها لي في طفولتي وأنا أغفو في فراشي. ورحت أردد الترانيم القديمة المفضلة لديها، تلك الترانيم التي كانت دائماً تتذكر ترتيل أبيها إياها، فقد كان قريباً لقلبها، وتتمتع مثله بصوت جميل.
في التاسعة مساء، من ليلة الجمعة تلك، وجد أبي في نفسه الشجاعة ليتصل هاتفياً، فوضعت الهاتف بالقرب من أذنها. وها نحن ثلاثتنا مرة أخرى، رحت أستمع في أجواء الغرفة المظلمة لصوت أبي وهو يجاهد من أجل أن يلقي بكلمة الوداع على المرأة التي أحبته، كما لم ولن يحبه أحد قط.
عدت إلى غرفتي في الفندق في وقت متأخر من تلك الليلة لأقتنص قليلاً من النوم واستيقظت في الثالثة صباحاً وأنا أبكي. عدت إلى المستشفى مبكراً، وعندما رأيتها أدركت أنها النهاية. كان تنفسها لا يسمع إلا بالكاد، استطال وجهها الشاحب وغارت عيناها، دون أي علامة على الألم. جلست أنا وأختي بجانبها، نتبادل الحديث لكي يتسنى لها سماع صوتنا، إلى أن سمعناها من حيث لا ندري تأخذ نفساً عميقاً مطولاً، ثم آخر، وآخر، على فترات متطاولة، لكن دونما نزع، ولا نهيج – وقفنا بجانب فراشها، نردد كلمات مطمئنة، ونحن نمسك بيديها. رحت أمسد جبهتها وشعرها المُسرح للوراء على خدها، وأغني لها، حتى رحلت.
كان «موتاً طيباً»، كما يقال، وكأن الرب الرحيم قرر أن هذه الخادمة الطيبة المؤمنة قد عانت بما يكفي طوال حياتها، فلم لا نكفيها مزيداً من الألم وهي تغادرها؟
نعم، إن كان هناك رب رحيم يقرر مثل هذه الأمور، فمن المؤكد أن هذا ما كان ليقرره.
3. الحكم
«أريد العدالة، وإلا سوف أُهلك نفسي، أريد العدالة ليس في مكان ما في المطلق، بل هنا والآن، على الأرض»، هذا ما يقوله إيڤان كارامازوف لأخيه الأصغر آليوشا، وهما يجلسان في حانة الحي في فصل «التمرد»، ذلك الفصل المحوري في رواية «الإخوة كارامازوف».
إيفان هو الخاطئ الأكبر في رواية «الأخوة كارامازوف»، رغم أن هناك من ينافسه منافسة شديدة، ليس أقلهم أبوه الفاسق الفاسد، فيودور باڤلوڤيتش، وأخوه الماجن الشرس ديمتري. ومع ذلك، فإيفان (باعتباره صورة دوستويڤسكي عن المفكرين الراديكاليين في عصره) هو الوحيد الذي يشطح بعيداً إلى حد التمرد ضد الرب، ويندفع قدماً في الهاوية الأخلاقية، التي يصبح فيها «كل شيء مباحاً» من منظور العقل. فإيفان، وقد استحوذت «الفكرة» عليه، هو من أعطى «التصريح» بالقتل لقاتل أبيه – وإدراك إيفان المتأخر لجرمه يطلق رصاصة الرحمة على جنونه المترنح. ولكن في الحانة، في مواجهة آليوشا، الذي كان لا يزال راهباً مبتدئاً تحت رعاية الأب زوسيما المقدس (الذي يمثل تحية إجلال لتيخون)، يكشف إيفان عن عذابه الداخلي الذي يشكل مصدر تمرده: ألا وهو مشكلة العدالة الإلهية إزاء وجود الشر ومعاناة الأبرياء، ولا سيما الأطفال.
ومثلما كان دوستويڤسكي نفسه، يبرز إيفان كأحد مفهرسي البشاعات الوحشية، فقد فرغ لتوه من إخبار آليوشا عن أحد ملاك الأراضي الموسرين الذي أطلق كلابه على طفل من الأقنان يبلغ من العمر ثماني سنوات فمزقوه إرباً على مرأى من أمه، لمجرد أن الطفل رمى حجراً على أحد الكلاب؛ وعن الفتاة ذات السنوات الخمس، التي عذبها والداها بأن حبساها في مرحاض صقيعي بارد طوال الليل وتركاها ملطخة ببرازها وأجبراها على أكله لأنها قضت حاجتها في فراشها ولوثته. يقول إيفان لأخيه فيما يشبه الحمى، «أنصت، إذا كان على جميع البشر أن يتألموا من أجل أن يدفعوا آلامهم ثمناً للانسجام الأبدي، فما ذنب الأطفال بكل هذا؟».
وإن جاز لنا، من باب الجدل، أن نسلم أننا جميعاً خاطئون، فما يريد إيفان أن يعرفه هو، «علاقة الأطفال الصغار بأي تضامن في الخطيئة؛ وإذا كان صحيحاً حقاً أنهم متضامنون مع آبائهم في كل الآثام التي اقترفها الآباء، فإنَّ مثل هذه الحقيقة ليست من هذا العالم، ولا يمكنني فهمها على الإطلاق».
إن إيفان ينكر أي «انسجام علوي» – أي وعد بحقيقة نهائية أو خلاص، وأي رؤية طوباوية – إذا كان ذلك الانسجام يتطلب تعذيب الأبرياء وقتلهم: «لقد بالغوا في الثمن الذي طلبوه مقابل الانسجام؛ فلا طاقة لنا بهذا الثمن الباهظ من أجل تذكرة الوصول [لهذا الانسجام الأبدي مع العذاب] …. وهذا ليس معناه أنني لا أقبل الرب، يا آليوشا، أنا فقط أكتفي بأن أرد إليه التذكرة».
إذا كانت «الخطيئة الكبرى» لإيفان هي «تمرده» ضد الرب المسيحي (أو تصوره المغلوط عنه، على أي نحو) واعتناقه للفوضى الأخلاقية، فماذا عن دوستويڤسكي؟ وماذا كانت خطاياه؟ لقد كان واعياً على نحو مشهود بمكانته كـ «خاطئ»، بل ربما «خاطئ عظيم».
كان دوستويڤسكي يعاني من الاكتئاب وأحياناً من نوبات القلق الحاد، ومن المعروف عنه تقلباته المزاجية الرهيبة، وسرعة تهيجه واستثارته، ونوباته الانفعالية المتفجرة – رغم أنها، على ما يبدو، لم تتميز بالعنف الجسدي. ونعلم أيضاً ميله القهري للمقامرة وكيف دفع آنا، زوجته الشابة الثانية، بعد طول معاناة إلى حافة اليأس. (وقصتها جديرة بالذكر) كذلك نعرف عذاباته جراء شكوكه الدينية؛ فرغم كل شيء، كان إيفان كارامازوف و”أسطورة المفتش الكبير” دائماً مُقنِعين للغاية. ومع ذلك، إذا كان لي أن أحكم، فخطيئة دوستويڤسكي العظمى كانت تشبه خطيئة إيفان – وهي خطيئة الكِبْر الفكري، والأيديولوجية التي تنبذ الجانب الإنساني، وفوق ذلك كله، ممارسة التأثير المحرض على القتل.
مع صعود شهرته في سبعينيات القرن التاسع عشر، أصدر دوستويڤسكي بمفرده مجلة شهرية اسمها «يوميات كاتب» نالت نجاحاً مبهراً، وفيها فضفض بكل ما في نفسه: اعتناقه في مرحلة ما بعد سيبيريا للحكم القيصري المطلق (الإصلاحي بالطبع)، ونزعته القومية الروسية الأرثوذكسية المسيحية العدوانية (كان يدق الطبول من أجل حرب إمبريالية ضد الأتراك)، وربما كانت أكبر خطاياه هو عداءه للسامية، حيث عزا انحدار أوروبا إلى تأثيرات اليهود المادية، فكان يشير إليهم بازدراء بلفظ «الييد» Yid، ويستنكر وجود «نزعة ييدية» Yiddism متسللة افترض أنها تهدد روسيا.
كانت هذه الآراء منشورة علناً وهو في ذروة شعبيته، ولم تكن قاصرة مثلاً على مراسلاته الخاصة (فضلاً عن وجودها أيضاً في المراسلات)، فكان ينشرها في الصحف الأكثر انتشاراً خلال مسيرته الإبداعية وفي الفترة التي كان له فيها حظوة ونفوذ داخل الأسرة الملكية نفسها. وفي رده دفاعاً عن نفسه على القراء اليهود المستائين في عدد مارس 1877 من مجلة «يوميات كاتب»، كتب (باستفاضة كاشفة) زاعماً أن استخدامه للفظة «نزعة ييدية» يشير إلى ظاهرة اجتماعية واسعة الانتشار، تشكل تياراً معاصراً، غير قاصر على اليهود بأي حال، وأنه لا يكن أية كراهية لليهود. حقاً؟
من المستحيل أن نوفق بين شخصية دوستويڤسكي في مسيرته المتأخرة وبين النموذج المثال ذي الطابع المسيحي ذي النزعة الإنسانية للحب الكوني الثاوي في القلب من رواية «الإخوة كارامازوف» – ومن المدهش أنها الرواية التي ولدت في نفس السنوات. إذ يبدو أنه كان منقسماً على نحو شيطاني في دخيلته، بأشكال ربما لم يكن هو نفسه يعيها، مثل أي شخصية من شخصياته المضطربة والمثيرة للاضطراب. خلاصة القول إن دوستويڤسكي، في آخر أعماله الأدبية وأعظمها، لم يملك إلا أن يناقض ويقوض، عن وعي أو دون وعي، أسوأ قناعاته الأيديولوجية.
إن كان هذا الاستخلاص يبدو من باب الاستسهال والتيسير، فدعونا نمعن النظر في شخصية آليوشا شديدة التعقيد على نحو غير متوقع – إذ غالباً ما يتم التقليل من شأنها كصورة مسطحة ثنائية الأبعاد للتقوى – فهو يجسد بجلاء المثال المسيحي ذا النزعة الإنسانية لدى دوستويڤسكي وآماله لمستقبل روسيا، وفوق كل ذلك يتم تقديمه باعتباره بطل الرواية. ثمة أمران جديران بالملاحظة، الأمر الأول: هو الغياب الظاهر للعيان لأي سياسات قومية – أو أي خصوصية أرثوذكسية بهذا الصدد – في شخصية آليوشا؛ فشخصيته نقية من التعصب وكراهية الأجانب أو التصلب العقائدي ومن الطائفية؛ ونجده يفضل أخلاقيات حية، ملموسة وعملية؛ فينظر ويهتم بالبشر كبشر، وليس ككيانات لاهوتية أو أيديولوجية.
الأمر الثاني: والذي يتم التأكيد عليه على طول الرواية، هو رفض آليوشا الحاسم أن يدين أي شخص: ولا حتى أباه المتوحش، الذي أساء معاملة أمه التقية المنكوبة (فقد ماتت عندما كان طفلاً)، ولا إيفان الملحد العدمي. إذ يبدو أن آليوشا يدرك بحدسه الفارق بين الحكم والإدانة فأن تحكم على فعل ما أنه غير أخلاقي أو إجرامي، أو تسمي الخطيئة باسمها، فهذا شيء، وأن تدين إنساناً ما باعتباره هالكاً لا خلاص له، فهذا شيء آخر تماماً. فتحت رعاية الأب زوسيما يرفض آليوشا أن يدين أي إنسان.
هل رفض الإدانة يناظر مفهوم الغفران؟ هذا لا يعني تبرير الجرم أو الصفح عنه؛ أو أن نقول: «لا توجد مشكلة، نحن في حال طيبة، وكل شيء على ما يرام». ولكن أن نقول: «في الحقيقة، الأمور ليست على ما يرام، ومع ذلك بالرغم من جريمتك، وبالرغم من الأذى الذي تسببت فيه، والذي يجب أن تسأل عنه، فإنني أقبلك كرفيق في الإنسانية. لأنني أنا أيضاً، من باب الأمانة، قادر على التسبب في المعاناة، بل وعن عمد. فأنا أيضاً خاطئ. وها أنا أقبل إنسانيتك الموصومة لأنني أنتمي إليها أيضاً».
لا أستطيع أن أكبح رغبتي في أن أرى دوستويڤسكي، الإنسان، يعيش ملتزماً بأفضل المثل المتجسدة في فنه. ولكن في ضوء ما نعلمه، وما كان معلوماً وفي متناول معاصريه من القراء، عن ميول دوستويڤسكي السياسية وانحيازاته المتعصبة – ومهما كان أثر آليوشا شبيه المسيح في تقويض أفكار مؤلفه شديدة العتمة – فسوف يظل دائماً ثمة شيء غير مقنع في الرؤية المسيحية الإنسانية التي تقدمها «الإخوة كارامازوف»، إذ تبدو كتعبير عن الإيمان إنجيلاً أجوف.
وهذا ينطبق أيضاً على كثير من صور التعبير عن الإيمان المسيحي. فمن الصعب، إن لم يكن من المستحيل، تلافي التناقضات أو النفاق في أي صورة من صور التعبير عن المثال الأخلاقي القيمي – ومن ثم فالمخرج المريح هو تجنب الأحكام الأخلاقية. وعليه فحتى المنافق، والخاطئ الكبير، بإمكانه كتابة عمل صادق.
يقول الأب زوسيما الأكبر: «إخواني، فلتحبوا الإنسان في خطيئته، لأن هذه المحبة هي أرقى صور المحبة على الأرض لأنها تشبه محبة الرب».
4. الغفران
ولد أبي في شهر يوليو 1932 في بلدة صغيرة اسمها «بْلوسَم»، إلى الشرق تماماً من مدينة باريس بولاية تكساس، وكان الخامس بين ستة أبناء. عمل والداه كمزارعين مستأجرين، ومزارعين بحصة في المحصول، وعمال يومية. لم أعرف أياً منهما؛ فقد ماتا في سن مبكرة. هذا ما يفعله الفقر بالناس.
كانت عائلة الأب تحمل اسم ستيفينسكي قبل هجرة الأجداد إلى الولايات المتحدة عام 1881 مما يعرف الآن بجمهورية التشيك. وكان أبي أول من حصل على درجة جامعية في تاريخ الأسرة كلها، فقد التحق بكلية آبيلين المسيحية عام 1949، وعمل في حقول النفط لكي يدفع مصاريفها. وقابل أمي، التي كانت زميلة دراسة في كلية أبيلين، وتزوجا في سن الثامنة عشر؛ ثم تم تجنيده عند التخرج؛ وبعد ذلك حصل على درجة الماجستير في المحاسبة من جامعة تكساس على نفقة برنامج للامتيازات كان يقدمه الجيش الأمريكي بعد الحرب العالمية الثانية. أما بقية قصة حياته، لمن كانوا يعرفونه وقتئذ، فكانت من قبيل الأساطير.
في عام 1966، قبل عامين من مولدي، انتقل لمدينة لوس أنجلوس لحصوله على وظيفة هناك، مصطحباً زوجته وبناته الثلاث الصغيرات – وهناك انخرط الفتى المزارع القادم من تكساس في معترك الحياة والتجارة وأحرز نجاحاً. فأسس تجارة صغيرة ناجحة وأرسل ابنه ليتعلم في جامعة هارفارد. لم يكن ذلك لأنه كان مولعاً بجوهر التعليم في هارفارد – فلم يهتم بذلك إلا عندما كتبت رسالتي وكان موضوعها عن كتاب «دعونا الآن نمتدح النابهين من الرجال»، أظن أن ما راق له هو العنوان.
لم يعد أبداً لتلك البلدات الصغيرة، حيث نشأ وترعرع، إلا مرات نادرة. صحبته خلال زيارتين إلى هناك، وأذكر على وجه الخصوص زيارة عام 1999، عندما قمت بمفردي برحلة استمرت أسبوعين أتنقل بالسيارة في ربوع تكساس بحثاً عن جذوري، قبل أربعة أشهر من مولد ابني الأول. عندما وصلت إلى مكان بيت العائلة القديم بالقرب من جبل أوليف، الذي يقع شمال مدينة «بْلوسَم» ‑ التي أصبحت الآن إحدى مقاطعات الولاية – البيت القديم الذي قضى فيه أبي أفضل سنوات صباه، تلك السنوات التي لطالما أخبرني قصصاً عنها – وجدت، كما توقعت من قبل، أن ما تبقى من بقايا منزل المزرعة الصغير قد أزيل تماماً، فرحت أتجول حول البقعة التي كان يشغلها، وقد حددتها الآن جزيرة من الحشائش الطويلة والزهور البرية. ومع ذلك لم يختفِ كل شيء: كانت شجرة الصنوبر السامقة التي زرعها أبوه، هانك، أمام درج المنزل الأمامي ما زالت قائمة، بالرغم من شقٍ عميق في جذعها حاق بها جراء التعفن.
لم يتحدث أبي كثيراً عن هانك. فقد كان كثير الحديث عن أمه، لينا چوزفين – أو چوزي كما كانت تُدلل – التي ربت ستة أطفال في كنف الفقر. كل ما أعرفه أن هانك كان نجاراً، واشتغل بأعمال البناء، وأي عمل باليومية، وكل ما تيسر له، وكان يتغيب فترات طويلة بحثاً عن عمل. وأخبرتني إحدى عماتي أنه كان يحب شرب الخمور، وكان عصبي المزاج، ولكنها لم تقل أي شيء آخر، ولم أسألها.
في عيد ميلاد المسيح [الكريسماس]، الذي قضيناه في ناشفيل، قدمت لأبي قطعاً صغيرة من لحاء شجرة هانك، ونُدَفاً من القطن التقطتها من على جانب أحد الحقول جنوب «بْلوسَم»، حول مدينة باردستاون، حيث كان والداه يعملان مزارعين بحصة في المحصول في سنوات الكساد الأولى. كانت تلك واحدة من المرات القليلة التي رأيت الدموع تطفر من عينيه. كان دائماً ما يقول إنه يتذكر أمه وهي تجره خلفها على جوال من القطن بينما كانت تجمع القطن تحت شمس حقول شمال شرق تكساس، وهو عمل مضنٍ يقصم الظهر.
آخر مرة رأيته كان بعد وفاة أمي بثلاثة أيام، في البهو الصغير لبيت رعاية المسنين – لم يكن مسموحاً لي بالدخول أبعد من ذلك، وكأنها زيارة سجون. كنت قد أحضرت بعض الاستمارات والأوراق من دار خدمات ما بعد الموت لكي يوقعها. بالطبع كان كلانا يرتدي كمامة، وكان أبي يجد صعوبة في الاحتفاظ بها على أنفه. لم أره من قبل على هذا القدر من الوهن، وكان أكثر هدوءاً. عندما هممت بالمغادرة، تصافحنا، وربت على ظهره المنحني برقة – وأخبرته، لسبب لا أعلمه، أنني سوف أكون بجانبه، أيضاً، كما كنت بجانب أمي، إذا لم يَحُل أي شيء دون ذلك. توقف وهو يهم بالذهاب ونظر إلي، وقد خلع الكمامة عن وجهه. كان جلد وجهه قد تهدل، وافترت شفتاه الشاحبتان، اللتان اختفت حمرة الدم منهما، عن شبح ابتسامة متجهمة، وكانت عيناه تعكسان شيئاً مثل الخوف لا يمكن أن يخطئه الناظر.
كان قد تم تطعيمه باللقاح في أوائل الربيع، كما تم تطعيم أختي وبنتها، حتى يتمكنا من زيارته. لم أكن قد حصلت بعد على لقاحي بالكامل حتى الأسبوع الأول من شهر يونية، أي بعد سنة بالضبط من وفاة أمي، ولكنني بادرت وحجزت تذكرة رحلتي لكي أذهب وأراه عندما يسمح لي. مبكراً في صباح آخر يوم من شهر مايو، اتصلت أختي لتخبرني أنه فارق الحياة. حيث مات، على نحو غير متوقع، في الليل. إذ كانت معه في اليوم السابق، وكنا مبتهجين لذلك. ولكنه لم يسمعني البتة أقول إنني سامحته.
هل غفرت له حقاً؟ لا أعلم. هل هذه المقالة هي عقابي أم غفراني؟ ربما لم يكن الأمر بيدي لكي أغفر له، ربما كان الأمر بيد «الرب»، أياً كان ما تعنيه هذه الكلمة. وربما هناك الكثير من الأشياء يصعب جداً أن تطلبها من طفل. ربما كان كل ما يمكن أن أفعله، كل ما يمكن أن يُطلب بشكل معقول، هو أن أحبه فقط. ليس كطفل لديه كل الرغبة وكل الحق في أن يحب أباه – فقد أصبح ذلك مستحيلاً – ولكن كمسيحي، بل، معذرة، كحب أي إنسان خلوق لإنسان آخر. هل يمكن أن أحبه كأخٍ، كرفيق في المعاناة، كرفيق في الخطيئة؟ هذا هو السؤال الوحيد المهم. هل يمكن أن أحكم على الجرم – وأن أحب الرجل مع ذلك؟
5. إخوة
يسأل آليوشا أخاه، وهما يجلسان وجهاً لوجه في الحانة، كيف انتهت أسطورة المفتش الكبير. والمفتش، كما قد تذكرون، هو التجسيد الروائي كما رسمه ڤ لما أسماه سايمون ويل لاحقاً «الروحانية الشمولية» لكنيسة استسلمت للإغواء الثالث للمسيح في التيه: وهو الإغواء الذي تمثله السلطة الدنيوية المطلقة. فيجيبه إيفان، وهو يصف المشهد في زنزانة السجن حيث يواجه المسيح (إن كان هو حقاً ما يقصده دوستويڤسكي) الرجل العجوز الذي يحرق الهراطقة باسمه:
انتظر المفتش الكبير ساكناً بعض الوقت إجابة من سجينه، إذ أثقل صمت السجين على نفسه …. كان الرجل العجوز يود لو تفوه السجين بأي شيء، حتى وإن كان ينضح مرارة، أو رعباً. ولكنه اقترب فجأة من الرجل العجوز في صمت وقبله برفق على شفتيه الشاحبتين الهرمتين. هذه هي الإجابة كلها. أصابت العجوز رعدة … [وقال له]: «اذهب ولا تعد إلى هنا مرة أخرى…».
بعد عدة دقائق، عندما يسأل آليوشا إيفان إن كان ما زال يؤمن بفكرة أن «كل شيء مباح»، يجيبه إيفان إجابة مفعمة بالمشاعر: «ظننتُ، يا أخي، عندما غادرت هذا المكان، أنك من كل هذا العالم، على الأقل، ستكون بجانبي … ولكنني أرى الآن أنه لا مكان لي في قلبك أنت أيضاً، يا ناسكي العزيز. أما مقولة أن «كل شيء مباح» فلن أنكرها، وماذا بعد؟».
يكتب دوستويڤسكي: «نهض آليوشا وتوجه نحوه في صمت وقبله برفق على شفتيه».
«فصاح إيفان «سرقة أدبية!» وانتابته فجأة حالة من الطرب النشوان».