بايدن وترامب: جدوى الانتخابات في ظل الدولة العميقة
أسابيع ساخنة بين حملات انتخابية ومناظرات واقتراع وفرز للأصوات، ومعركة دارت رحاها بين الحزبين الأمريكيين الرئيسيين، تابع أحداثها بشغف العالم أجمع، وخاصة عالمنا العربي. ثم جاءت لحظة انتهت فيها المعركة ومرت أحداثها ككل شيء آخر بالحياة. هدأ الغبار، وفاز بايدن على ترامب؛ وبدأ كل طرف في ترتيب أوراقه.
ووسط كل ذلك تثور تساؤلات طرحها الكثيرون وعلى رأسهم الصحفي المخضرم في السياسة الأمريكية ومؤسساتها «مايك لوفغرين»؛ في كتابه «الدولة العميقة: سقوط الدستور وصعود حكومة الظل». هل هناك في الحقيقة شيء اسمه انتخابات أمريكية؟ وهل هذه الانتخابات ذات أهمية على الصعيد الداخلي والخارجي كما يظن معظم العالم؟ وهل فعلاً يختار الشعب الأمريكي -بإرادته الحرة- قادته الذين يحكمونه؟ أم أن هناك جهات تحكم البلاد ولا يؤثر عليها شخص حاكم البيت الأبيض أو شخوص شاغلي مبنى الكونجرس؟
في مستهل تعريفه وحديثه عن الدولة العميقة في الولايات المتحدة ينقل «لوفغرين» رسالة بعث بها «فرانكلين روزفلت» إلى الكونجرس الأمريكي في أبريل/نيسان 1938 قال فيها:
حكومتان في واشنطن
كان روزفلت يتحدث عن ابتلاع أطراف ذات قوى وسلطات منفردة للدولة نفسها، ويؤكد بعباراته حديث «لوفغرين» من أن هناك دولتين أو حكومتين قائمتين بالبلاد، إحداهما ظاهرة للعيان ومستقرة في المباني الكلاسيكية التي تحوي الإدارة الأمريكية في العاصمة واشنطن. بينما الأخرى غامضة ولا يُعرف لها شكل؛ ولا يراها زائرو البيت الأبيض أو مبنى الكونجرس الأمريكي، ولا يوجد لها وصف في الأدبيات الانتخابية والأوراق الرسمية.
الحكومة الأولى هي قمة جبل الجليد؛ الذي يمكن السيطرة عليه (نظرياً) عبر الانتخابات وباقي الآليات الديمقراطية. بينما الحكومة الثانية هي الجزء الأضخم من جبل الجليد والمتواري عن الأنظار تحت سطح البحر، ويعمل ذلك الجزء بتوجيه بوصلته الخاصة بغض النظر عمن هو رأس السلطة رسمياً؛ وأياً كان ساكن البيت الأبيض وصاحب أقوى عروش العالم.
وفي حين يمضي الكونجرس والسلطة التنفيذية في معارك –يؤكد المؤلف على أنها مستمرة منذ خمسينيات القرن التاسع عشر- أصلها حزبي وتحمل عنوان «من يستطيع عرقلة الآخر بصورة أكبر»، حيث يعمل الحزب المخالف للرئيس على محاولة عرقلته وتعطيل معظم سياساته وميزانياته المحلية، وإظهار الرئيس في شكل العاجز عن تنفيذ برنامجه. تدور في ظل وكواليس كل هذه المعارك الظاهرة تحركات لهيئات وقوى تستطيع منح الرئيس -أو استغلاله- سلطات مطلقة لفعل ما يشاء من عمليات قد تتعارض حتى مع القانون والدستور الأمريكي. وتحمل أسماء لبرامج وإجراءات يمكن أن تنال حتى الموظفين الفيدراليين والمواطنين الأمريكان، سواء في الداخل أو في الخارج.
ويصف المؤلف تلك الأفعال بأنها «استعراضات هائلة من القوة المرعبة، تقوم بها جهات إنفاذ القانون العسكرية الفيدرالية وعلى مستوى الولايات والمحليات. ففي الخارج يمكن للرئيس أن يبدأ الحروب متى شاء، وأن ينخرط فعلياً في أي نشاط آخر مهما كان دون الحاجة لشيء غير مجرد استئذان أو إخطار للكونجرس. وتصل تلك الأنشطة لحد ترتيب أمور مثل هبوط إجباري لطائرة تقل رئيس دولة ذي سيادة فوق أراضٍ أجنبية». ويمكن عند أي بوادر ممانعة من الكونجرس أن يتم إشهار سلطة تلك الحكومة الخفية في وجهه، وهي العبارة المقدسة «الأمن القومي».
تستطيع الحكومة الخفية توفير ميزانياتها الخاصة لأعمالها؛ حتى في ظل أكبر الأزمات الاقتصادية التي قد تواجهها الحكومة العلنية. ويدلل «لوفغرين» على ذلك بأنه:
مكونات الدولة العميقة الأمريكية
الدولة العميقة تتألف من كيان هجين من المؤسسات العامة والخاصة التي تحكم البلاد، ومرتبطة بالدولة المرئية التي يختار الشعب زعماؤها شكلاً فقط وليس حقيقة. وتلك الدولة العميقة مزيج من وكالات الأمن القومي وإنفاذ القانون، بجانب أفرع من وزارة الدفاع ووزارة الخارجية ووزارة الأمن الداخلي ووكالة المخابرات المركزية ووزارة العدل. كما تضم أيضاً وزارة الخزانة نظراً لاختصاصها القضائي على التدفقات المالية، وجهازها البيروقراطي الواسع المُخصَّص لفرض العقوبات الاقتصادية الدولية، وتكافلها مع وول ستريت (مكمن الثروة والمال الأمريكي). كل هذه الوكالات والأفرع يتم التنسيق بينها عبر مجلس الأمن الوطني باعتباره ممثلاً للمكتب التنفيذي للرئيس الأمريكي.
كما تنتمي بعض أجزاء القضاء للدولة العميقة، مثل محكمة مراقبة الاستخبارات الأجنبية، والتي تعتبر أعمالها غامضة حتى بالنسبة لمعظم أعضاء الكونجرس، وحيث تجري إجراءات حساسة في قضايا الأمن القومي. والمكون الأخير في تلك الحكومة الخفية هو بعض أفراد الكونغرس، مثل بعض القيادات وبعض أعضاء لجان الدفاع والاستخبارات.
جدوى الانتخابات
وبعد استعراض قوة ونفوذ الدولة العميقة نصل للسؤال:هل الانتخابات لها قيمة؟
وللإجابة عن هذا التساؤل نراجع استطلاعاً للرأي أُجري في العام 2013، وكشف عن أن ثقة الجمهور في الحكومة تناقصت بشكل مطرد خلال العقود السابقة. وأوضحت استطلاعات الرأي المتكررة أن الشعب الأمريكي يعتقد أن هناك شيئاً خاطئاً، وأن التضخم وانخفاض دخل الأسرة وتراجع مستوى المعيشة هو بسبب قرار حكومي تنقصه الكفاءة.
يعرف الشعب الأمريكي من حالته المادية أن القرارات الحكومية التي تتحكم وتوجه تلك الحالة هي قرارات معيبة وغير مجدية، ورغم ذلك ينجح صانعو تلك القرارات في الانتخابات… لماذا؟ وما الذي يتحكم في التعيين الفعلي وترشيح وانتخاب هؤلاء السياسيين والمسئولين الذين ثبت عوار إدارتهم لشئون الشعب؟
من الناحية العملية، يسمح النظام السياسي الأمريكي بانحصار المنافسة بين حزبين سياسيين فقط. هذان الحزبان يعتمدان كلياً على الشركات والأثرياء، لتمويل أغلى الحملات في العالم. حيث يبلغ إجمالي الإنفاق على الحملة السياسية الانتخابية ما بين 18 و20 دولاراً لكل ناخب، وهو ما يعني مليارات الدولارات المنفقة لتوجيه الآراء وإدارة العقول والبشر والتحكم باختياراتهم. بينما في بريطانيا؛ لا يتعدى حجم الإنفاق حوالي 80 سنتاً أمريكياً فقط لكل ناخب بريطاني. ومع قدرات الحزبين الأمريكيين الكبيرة على توظيف من يصممون القوانين الانتخابية ومناطق التصويت، تكون الإرادة الشعبية الحقيقية هي مجرد شكل فقط وليست حقيقة على أرض الواقع.
ويقدم المؤلف دليلاً علمياً يؤكد فكرته، وهو نتيجة الدراسة التي قام بها باحثان من جامعة برينستون وجامعة نورث ويسترن، حيث فحصا ما يقارب 2000 استبيان للرأي الأمريكي حول مسائل السياسة العامة بين عامي 1981 و2002، واكتشفا كيف ترتبط تلك التفضيلات بنتائج السياسة. وخلص الباحثان إلى أن «تفضيلات النخب الاقتصادية لها تأثير مستقل على تغيير السياسة أكثر بكثير مما تفعله تفضيلات المواطنين العاديين».
وعلى عكس ما قد تقود إليه نظريات العلوم السياسية المجردة، فإن المواطنين العاديين ليس لهم تقريباً أي تأثير على ما تفعله حكومتهم في الولايات المتحدة. فالنخب الاقتصادية ومجموعات المصالح وممثلي الأعمال التجارية لديهم درجة كبيرة من التأثير على صنع السياسات الحكومية، وتوجيهها نحو تفضيلات تلك المجموعات والنخب، ونحو مصالحهم.
وإجمالاً، إذا اصطف الشعب الأمريكي في جهة وفي الجهة المقابلة اصطفت النخب الثرية؛ فإن الموقف الذي تتخذه النخب هو الذي سيسود في النهاية. وأن غاية الانتخابات في النهاية هو تغيير الجياد التي تجر العربة، أما العربة نفسها فتمضي دون تغيير.