إنسان ما بعد الموحدين: بين عقول صغيرة ونصوص عظيمة
النص مهما كان عظيمًا يصغر إذا قرأه عقل صغير.[1] وهذه العقول الصغيرة تقرأ النصوص الآن لإثبات وجود الله، رغم أن مشكلتنا ليس أن نبرهن للمسلم على وجود الله، بقدر ما أن نشعره بوجوده، ونملأ به نفسه باعتباره مصدرًا للطاقة.[2]
وكثيرًا ما تساءلت حول مصير أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وعلي وخالد وأمثالهم من رجالٍ، لو لم يكن محمد -صلى الله عليه وسلم-، هل كانوا ليصبحوا كنظرائهم في الجاهلية؛ إغارة وخمر وميسر وفخر بالنسب وبالكرم ثم لا شيء، إنما تربية محمد -صلى الله عليه وسلم- لهم هي التي خلقت شخصياتهم وجعلتهم رجالًا خالدين يبتكرون ويبدعون ويواجهون الأحداث العظيمة بقلوب عظيمة وعقول مفتحة، ويحلون ما يُعرض من مشاكل حلولًا مبتكرة.[3]
فعندما قرأت عقولهم العظيمة القرآن، تحوّلوا تلقائيًا إلى أمة تعرف الشورى وتكره الاستبداد، إلى أمة يسودها العدل الاجتماعي ولا يعرف فيها نظام الطبقات، إلى أمة تكره التفرقة العنصرية، وتكره أخلاق الكبرياء والترفع على الشعوب.[4] وذلك لأن عقولهم كانت في مستوى القرآن، فكانت حضارتهم ثمرة فهمهم للقرآن.
ولكننا في مجتمع يقرأ النصوص العظيمة بعقول صغيرة، فيصفق فيه الناس للمتبع، ويستعيذون بالله من المجتهد، ويحاربون كل من أتاهم بما لا تهوى أنفسهم، فحكّموا تقاليدهم ولم يحكّموا عقولهم.[5] فـ«هجروا القرآن إلى الحديث، ثم هجروا الحديث إلى أقوال الأئمة، ثم هجروا أقوال الأئمة إلى أسلوب المقلدين، ثم هجروا المقلدين وتزمتهم إلى الجُهَّال وتخبطهم».[6]
فمتى إذن بدأت تلك العقول الصغيرة بكل تلك الهجرات العقلية إلى الجُهّال وتخبطهم؟
ابن رشد وابن الصلاح والعقاب
يرى المؤرخ «محمد عبد الله عنان» أن هزيمة الموحدين في موقعة «العقاب» في 15 صفر سنة 609هـ، 16 يوليو/تموز سنة 1212م، كانت بداية نهاية الحضارة في الأندلس، وأن اسم الموقعة «العقاب» لم يكن اسمًا لمعركة، بل «صفة» حيث أراد التاريخ أن تكون المعركة «عقابًا» لما وصلت إليه الأندلس من تخلف وانحطاط وجمود عقلي واضمحلال فكري، تلخصه النكبة التي تعرض لها الفيلسوف، الطبيب، الفقيه، القاضي، الفلكي، والفيزيائي «ابن رشد».
فعندما أراد ابن رشد وابنه الصلاة في أحد مساجد قرطبة قام عليه الغوغاء، وطردوه وابنه من المسجد ومنعوهما من الصلاة، حيث روى الأنصاري عن أبي الحسن بن قطرال عن ابن رشد أنه قال:
وهنا يقول عنان «وأما في التواريخ الإسلامية فإنها تعرف بموقعة العُقاب، من مفردها عَقبة، وذلك فيما يُرجِّح لوقوعها بين الربى والتلال المانعة، وليس بمعنى المعاقبة على الذنب، وإن كان بعض الكتاب والشعراء قد نسبوا إليها مثل هذا المعنى، في معرض التلويح بغضب الله وعقابه للموحدين، لأنهم حادوا عن جادته، وبغوا وتجبروا، واعتمدوا على كثرتهم ولم يعتمدوا على عونه. ومن المُسلَّم أن خسائر المسلمين في معركة العقاب كانت فادحة جدًا. والروايات الإسلامية تُجمع كلها على أن الجيش الموحدي قد هلك معظمه».[8]
وفي هذا قال أبو إسحق إبراهيم بن الدباغ الإشبيلي معلقًا على موقعة العقاب:[9]
ولم يكن المشرق ببعيد عما يحدث في المغرب من نكبة لابن رشد، فقد تم اتهام علماء المسلمين بالكفر والزندقة بسبب اشتغالهم بالفلسفة، حيث «ثبت أن أبو حامد الغزالي على الأقل كان صاحب السبق إلى فتح باب تكفير الفلاسفة لمن جاء بعده، حتى بلغت الظاهرة (تكفير الفلاسفة) ذروتها مع ابن الصلاح الفقيه الشافعي الدمشقي صاحب المقولة الشهيرة: من تمنطق فقد تزندق. وأيضًا فتواه في مشروعية الاشتغال بالفلسفة حيث يقول: الفلسفة أس السفه والانحلال ومادة الحيرة والضلال ومثار الزيع والزندقة، إلى أن يقول: فالواجب على السلطان -أعزه الله- أن يدفع عن المسلمين شر هؤلاء المشائيم ويخرجهم من المدارس ويبعدهم».[10]
ووسط هذه الأجواء الظلامية التي تشبه تمامًا عصور الظلام في أوروبا، التي تم فيها إحراق الكتب واضطهاد وحرق العلماء أحياء بتهمة الهرطقة أوروبيًا/الكفر عربيًا، سقطت مدينة إشبيلية عام 1248م. وبذلك سقط الجناح الغربي للمسلمين، ليتبعه بعد عشر سنوات سقوط الجناح الشرقي، بسقوط بغداد على يد هولاكو عام 1258م.
حتى قال ابن خلدون:
إنسان ما بعد الموحدين
كانت محصلة قراءة العقول الصغيرة للنصوص العظيمة، أن استجابت تلك العقول لنادى الكون بالتخلف والانحطاط كما قال ابن خلدون، فأدى هذا إلى إيجاد ما أطلق عليه المفكر الجزائري مالك بن نبي «إنسان ما بعد الموحدين».
حيث يرى «ابن نبي» أن انحطاط وتخلف المسلمين يُؤرَّخ له بـ «سقوط دولة الموحدين»، الذي كان في حقيقته سقوط حضارة لفظت آخر أنفاسها، ثم يبدأ تاريخ الانحطاط بإنسان ما بعد الموحدين».[12]
ووصف ابن نبي «إنسان ما بعد الموحدين» بصفات من أهمهما:
1. التسامي والتزمت:
التسامي وهو عقدة أو نزعة نفسية دفاعية، من شأنها أن تجعل صاحبها يمتدح الذات بالتمسك بما أنتجه السلف، وذلك لمقاومة ضغوط الآخر الحضارية عليه، حيث يقول ابن نبي «وجدت هذه العقدة في الثقافة الأوروبية على عهد (توماس الأكويني)، فاتخذت صورة تنحية كل ما من شأنه أن يدل على وجود تأثير إسلامي، واليوم تحدث الظاهرة نفسها في الثقافة الإسلامية التقليدية، في صورة مقاومة لضغط الأفكار الغربية». [13]
وهو ما نجد صداه لدى أستاذ علم النفس التونسي «فتحي بن سلامة» فيما أطلق عليه «المسلم الأعلى»، وهو نموذج جديد من الفرد المتطرف الذي يعاني من عقدة الذل والمهانة، ومقابل هذا يحاول التسامي بأن يصبح أكثر إسلامًا بالالتزام الحرفي بما أنتجه السلف، وبالتزمت والتعنت في رفض الآخر، والتضحية بالذات، طلبًا للتسامي. وهذا جعل المسلم ينظر للحضارة وهو خاضع للقيود النفسية التي صنعتها بيئة ما بعد الموحدين، فنظرته «تجعل للأمر حد احتمالين: إمّا طاهر مقدس، وإمّا دنس حقير».[14]
2. يعيش بين ثنائيتين:
إنه الصراع الذي يعيشه المسلم منذ اتصاله بالحضارة بمجيء الحملة الفرنسية، صراع بين النقل والعقل، والعلوم الشرعية كعلوم القرآن والحديث والفقه، والعلوم الحديثة كالطب والهندسة والكيمياء، ونظم الحكم الديمقراطية والخلافة.
ما جعل «الفرد في المجتمع الإسلامي عاجزًا عن التقدم، والتخلي عما تعارف عليه الناس، عاجزًا عن اجتياز مراحل تاريخية جديدة، عاجزًا عن ابتكار المعاني والأشياء الجديدة وتماثلها، فالميل إلى المحافظة هنا ليس إراديًا، بل هو حقيقة افتقار ونقص».[15]
3. ظاهرة اجتماعية–ثقافية:
يفقد إنسان ما بعد الموحدين الفاعلية والإيجابية، فيرى أن الحضارة ما هي إلا تكديس للمنتجات، وليست بناء وهندسة، حيث يمكن أن ترى «تحت الخيام سيارات فاخرة رابضة يبيض فيها الدجاج ويفرخ».[16]
أي أننا مغرمون بالنظر إلى الأوروبي في مظهره فحسب، فإنسان ما بعد الموحدين لا يرى تطور الحضارة وإنما يرى نتيجتها، «فهو لا يرى المرأة التي تجمع قبضات العشب لأرانبها، إنما يرى التي تصبغ أظافرها وشعرها، وتدخن في المقاهي والندوات. وهو لا يرى الصانع والفنان منكبين على عملهما ليحققا فكرة في صفحة المادة، ولن يلاحظ كيف يتعلم الطفل معنى الحياة، واحترام الحياة… هو يدلل قطة، أو يغرس زهرة. بل لن يلفت نظره لذلك الفلاح الكادح، وهو يقف في نهاية خط محراثه ليحكم على عمله متفاعلًا مع التربة تفاعلًا هو الخميرة التي تصنع منها الحضارات».[17]
4. القابلية للاستعمار:
يرى ابن نبي أن الاستعمار ليس من عبث السياسيين ولا من أفعالهم، بل هو من النفس ذاتها التي تقبل ذل الاستعمار، والتي تمكن له في أرضها، ولا ينجو شعب من الاستعمار وأجناده إلا إذا نجت نفسه من أن تتسع لذُل مستعمِر، وتخلصت من تلك الروح التي تؤهلها للاستعمار.[18]
هنا يركز مالك على هذا المصطلح، لأن كثيرًا من المسلمين يحاولون تعليق تخلفهم وضعفهم وقلة حيلتهم على الاستعمار، فأراد أن يُرجع المشكلة إلى أصولها المغيبة عن الذهن، ويردها إلى سببها الأول وهو القابلية للاستعمار، أي إلى الخسائر التي ألحقناها بأنفسنا قبل أن نتحدث عن الخسائر التي ألحقها بنا الآخرون، مطابقة لقوله تعالى عن هزيمة المسلمين في غزوة أحد: «قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ».[19]
وإذا كان القرآن الكريم قفز بالإنسان العربي من حالة البداوة إلى الحضارة، عندما كان عقله في مستوى النصوص، فإن القراءة الضيقة السطحية للنصوص العظيمة سواء قرآنًا أو سنة أنتجت «إنسان ما بعد الموحدين»، الذي تسبب في سقوط إشبيلية وبغداد، وقام بنقلة ارتدادية معاكسة للحضارة، أدت لسقوط كل بلاد العرب وليس فقط إشبيلية وبغداد.
- أدونيس، “غبار المدن بؤس التاريخ”، بيروت، دار الساقي، صـ 3/9 فصل13.
- مالك بن نبي، “وجهة العالم الإسلامي”، بيروت، دار الفكر المعاصر، صـ 54.
- أحمد أمين، “فياض الخاطر”، دار المحرر الأدبي، جـ 5- صـ 142.
- محمد الغزالي،” كيف نتعامل مع القرآن”، نهضة مصر، صـ 28.
- أحمد أمين، “فياض الخاطر”، صـ 143.
- محمد الغزالي، “فقه السيرة”، دار الكتب الإسلامية، صـ 40.
- فرح أنطوان، “ابن رشد وفلسفته”، صـ 22.
- محمد عبدالله عنان، “دولة الإسلام في الاندلس: العصر الثالث”، صـ 314.
- المرجع السابق، صـ 19.
- أحمد فايز العجارمة، “الرشدية عند الجابرية”، دار البيروني، صـ 103.
- حسين عاصي، “سلسلة مؤرخي العرب والمسلمين: ابن خلدون مؤرخاً”، صـ 205.
- مالك بن نبي، “وجهة العالم الإسلامي”، صـ 36.
- المرجع السابق، صـ 55.
- المرجع السابق، صـ 66.
- المرجع السابق، صـ 34.
- المرجع السابق، صـ 66.
- المرجع السابق، صـ 67.
- مالك بن نبي، “شروط النهضة”، دمشق، دار الفكر، صـ 31.
- محمد العبدة، “مالك بن نبي: مفكر اجتماعي ورائد إصلاحي”، صـ 81.