بين ثورتين
يبدو القتل عند نجيب محفوظ في «ليالي ألف ليلة» خطيئة متدفقة، يشترك فيها أبطاله، هكذا بيسر وخفة، يسيرون جميعا من دم إلى دم.
رغم ذلك، ظلت حكاية صنعان الجمالي، وحكاية ولده الفاضل من بعده، صدمة لم أتجاوزها في المرة الأولى التي قرأت فيها الحكايات.
كنت حينذاك أنظر للعُبّاد بشفقة أن تزلّ أقدامهم في مزالق الحياة، وكان يغضبني حتى في حكاية من وحي الخيال أن يحدث ذلك. زاد محفوظ في الليالي الحيرة حيرة، حين ألبس الشرطي «جمصة البلطي» الذي هو مظنة الفساد لباس التوبة، والقوة والمعجزات.
لولا أن هذه الرواية كتبت عام ١٩٤٦، أي قبل ثورة يوليو بسنوات، لشطح خيالي بشبهة مجاملة روائية لجيل الضباط الذين علا نجمهم آنذلك، ولم تكن هذه الشطحة إلا هربا من البحث عما وراء الحكايات.
التاجر الهادئ الذي يحبه العامة، ولا يدع صلاته، يزوره عفريت يسأله قتل حاكم الحي الفاسد، ويترك له علامة تفصل حلمه عن يقظته: جرحا في يده.
محفوظ في لياليه يرينا العالم مكشوفا من جهتيه، عالم الجن الذين يوحون إلى البشر، ويحيكون المؤامرات طلبا للتسلية، وقد يساعدونهم في بعض الخير إن وافق هوى أو منفعة، نراه متداخلا تماما مع عالم البشر الطامحين، المشتهين، الطارقين كل باب، وسبيل.
الفكرة التي مست روح صنعان، لم تكن من حديث نفسه، وإلا لافترضت فيه شرا يداريه، ولسهُل فهم التغيرات التي عصفت به.
كانت فكرة وافدة من عفريت وافد، داس رأسه خطأ في الظلام.
أراد قمقام (العفريت) أن يتحرر من سحر قيَّده به حاكم الحي، ووجدها فرصة أن يتحرر من السحر بقتل الرجل، وهو على كل حال ظالم فاسد مستحق للقتل.
الصدفة البحتة فتحت بابا ثقيلا في نفس التاجر الطيب. تتغير أحواله سريعا، أو هكذا أراد لنا نجيب محفوظ أن نشعر، تتفجر خيالاته كأنما انقلب باطن الأرض بحممه كلها على ظاهرها، تعصف الحمم برأسه، فتكون الجريمة الأولى؛ اغتصاب بسيمة، فتاة في العاشرة، وقتلها.
ما أراد ذلك، إنما أراد قتل الحاكم الفاسد.
كأنما أشعل أمر القتل، أو كأنما أشعل «التفكير» في القتل، فتيلا، جعل الاقتراب من كل قتل سهل!
همّ إثر همّ، وقمقام لا يرحم.
يدعوه حاكم الحي، فيستأنسه بحديث سرعان ما يقطعه خنجر صنعان.
تحرر العفريت، وتجادلا لينقذه، فرفض العفريت لأن إيمانه «بعد تحرره من قيد السحر» يمنعه من ذلك. ويجيبه عن سبب اختياره له بأنه رجل مؤمن يغلب خيره شره، كان واجبا عليه أن يخلص الحي من ظلم الحاكم لا أن يداهنه، وقد منحه قمقام فرصة الخلاص!
أي خلاص، وصاحبنا صنعان لم يطلب خلاصا سوى مما لحقه الآن، أما قبلُ؛ فتجارته عامرة، وقد تآلف مع من تآلفوا مع فساد يكفّر السكوت عنه عباداتٍ متفرقة يؤديها.
لا مناص من سيف الجلاد، ليرحل صنعان ولم نكد نستقر في الرواية بعد.
ثورة بالإكراه. هكذا يمكن أن نختصر ما فعله صنعان بالحاكم، لكن هذه الثورة لم تأت صافية، بل سبقتها ثورة أخرى عصفت بنفسه هو، فأنزلته من سماء إيمانه، إلى وحل الخطيئة الممهورة بالدم.
أتكفر الثورة الثانيةَ الأولى؟!
من يدري؟!
أتفسدنا الثورات، فتردي إيماننا في الوحل سعيا للخلاص؟!
من يدري؟!
سنوات وحكايات ستمر، قبل أن ينزلق الابن.
سيسقط قبله آخرون، في وحل الشهوة، والخطيئة، والدم. وسيبقى هو يراقبهم من سلم السبيل، لا النساء تغويه، ولا القتل من أدواته، رغم أنه المحب للخوارج معارضي الحاكم.
حتى تبدأ لعبة عفريت جديد!
هذه المرة، بطاقية الإخفا، والأمر واضح: طاقية لا يظهر أثرها إلا إن خالفْتَ ضميرك.
لعبة ساخرة مضى معها النهار فلم يبع من حلواه شيئا، واحتاج لغلّة اليوم يعود بها إلى أهله، فاقترض (سرق) ثلاثة دراهم دون أن يراه أحد!
السرقة/القرض، فتحت بابا ما وَرَده رجال محفوظ إلا هلكوا، باب النساء المحرم.
ثم يكون القتل بعد النسا،. بريئا كما قَتَل الأب بريئا.
لكن بريء الابن اتُهم فيه بريء آخر، فهما اثنان لا واحد.
عاش الأب عمره متصالحا مع فساد حاكم الحي، وعاش الابن حياته فاضلا ثائرا في وجه نفس الفساد. والغواية والنهاية واحدة.
تظل الليالي، بين حكايات قوية، وأخرى ضعيفة، تتلطف بنا حينا، مع دنيا زاد أخت شهرزاد، لكنها تعود من جديد فتضع الجميع أمام الاختبار الذي لا ينجحون فيه.
لن أطيل فلست بمقام عرض الرواية، وإن كان لا بد من بعض ذلك لتذكر وتعين؛ إنما أردت أن أقف هنا على ثورتين، ونحن نعيش ثورة، أو ثورتين. أما الرواية فأكبر من ذلك بالتأكيد.
فهمت تغيرات فاضل أسرع مما فهمت تغير أبيه، ففاضل الذي أغلق حياته في مسار واحد، وراقب الحياة من سلم السبيل، ما أيسر أن يزِل حين يأمن ألا يراه أحد. كبت الشر لا يعني زواله، هو موجود، يبحث وئيدا عن منفذ ولا يعدم الماء السبيل.
قبل قرن تقريبا من صدور الرواية، كان روبرت ستيفنسون قد عالج الخير والشر في روايته «دكتور جيكل ومستر هايد»، وبشيء قريب من طاقية فاضل؛ الشر الذي يظهر وينمو حين يكون البطل في صورة غير تلك التي يعرفه عليها الناس. لم تتفق النهايتان لكن المسار قريب، معين على الفهم.
لنعد لصنعان إذًا، أو لأقُل: لنعد للثورة وتغيراتها، مستعينا صنعان.
ينبغي القول هنا إن ثورات ليالي ألف ليلة هي ثورات فردية دائما، وقد عرض نجيب محفوظ بعد ثلاثين عاما تقريبا لثورة أخرى، في تجربة أكثر عمقا مع الحرافيش.
كان صنعان رجلا صالحا، مسه طائف من الشيطان؛ أن ادفع الظلم بقتل الظالم.
أنى للتاجر الذي لا يحسن إلا البيع والشراء، والذي بال في سرواله حين رأى العفريت، أن يقتل؟!
من هنا تبدأ الحكاية.
من الفكرة.
الفكرة مهما كانت غريبة، ومستهجنة، فإنها قادرة على فتح الباب للتغير.
ثم تتبع الفكرة الفكرة.
ولأننا بشر لسنا ملائكة، تأتي الأفكار بشقيها، وتفعل فعلها في النفس بهما معا، فقد ننتبه لخير الفكرة دون شرها، وندعها تكبر حتى يظهر شرها فجأة بعد حين فنسأل: كيف ترعرع في وادينا الطيب، كأن طِيب الوادي أمان من زحف الشر!
تُغيِّرنا الحياة، وتغيرنا الثورات أكثر، لأنها تعصف بكل ثابت فينا. والعاصم عند نجيب محفوظ هو الإيمان. والإيمان عنده شيء غير العبادات التي يؤديها أبطاله، فعبادة صنعان، سرعان ما نسيها تحت وطأة «التفكير» والقلق، ليخرج من بيته من دون صلاة الفجر لأول مرة في حياته.
لقد عرَّفنا محفوظ «عبد الله البلخي»، شيخ الطريق في الرواية، بعد أن عرفنا السلطان وشهرزاد، وقبل أن يعرِّفنا صنعان وأهل الحي. عرِفنا أن أهل الحي جميعا قد مروا به مرة في حياتهم، ثم انقسموا على ثلاثة طرق، ثم شاهدناهم جميعا متأرجحين بين مقامات عدة، مقام الصبر ومقام الحيرة، ومقام العبادة، ثم مقام الحب والرضى.