بين النظام والثورة
ويبدو عجز مجتمع ما عن الثورة وعن بلورة حركته الإحيائية عجزًا عن التديّن الحقيقي، والعكس بالعكس، كما يذهب بيغوفيتش؛ ولو تفشَّت مظاهر التديُّن القشريّة وخطابه العُصابي. ذلك أن كلا من الدين والثورة يولدان في مخاضٍ من الألم والمعاناة الفرديّة والاجتماعيّة، ويحتضران في منازِل الرخاء والرفاهية والترف. أو بعبارةٍ أخرى: يولدان في غمار الحركة/الثورة، ويحتضران في كنف النظام المستقِرّ. إذ تدوم حياة الدين والثورة في الواقع بدوام النضال والجهاد (وهو ما لا يدوم للأبد في دار الابتلاء)، حتى إذا تحقق القدر الموسوم من قيمهما التي تبنّتها الحركة في الواقع؛ يبدأ الموت بالتسرُّب إليهما. ذلك أن مرحلة التحقُّق العملي (وتجسيد بعض قيم الدين والثورة واقعًا) تُنتج مؤسسات وتنظيمات وبنى هرميّة سلطويّة، هذه المؤسسات نفسها هي التي تقضي عليهما في نهاية الأمر؛ فالمؤسسات الرسمية لا هي ثورية ولا هي دينية، حسب بيغوفيتش. ولذا؛ كان خصوم الثورة من “المتديّنين” هم دائمًا من المنتمين للدين الرسمي/الحكومي فقط، وليس للدين الحق!
وإذا كان شريعتي يستخدم هذا الناموس لقراءة نموذج التشيُّع باعتباره حركة تجديدية ظهرت بعد تحوّل الإسلام من حركةٍ موَّارةٍ إلى نظامٍ مُستقرٍ، بدرجةٍ ما؛ بعد توسُّع الفتوح في أواخر عهد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه؛ وهو ما كان الفاروق واعيًا به وتجلّى في الكثير مما روي عنه. فإن الشواهد التاريخية على تحقُّق الناموس بشكل مطرد، عبر المسيرة الإنسانية؛ أكثر من أن نُحصيها. فللأنظمة أعمارٌ وأطوار كالبشر. وكل الأنظمة البشريّة تخضع لهذه القاعدة بلا استثناء؛ في الاقتصاد والسياسة والاجتماع … إلخ. ووحدها الأنظمة الذكيّة، التي تملك ذاكرة جمعيّة تراكُميّة لا تُهيمن عليها الأهواء كل الوقت؛ تستطيع مُغالبة عوامل الوهن والشيخوخة لفترة، ومقاومة دواعي الانهيار لأجلٍ، بل وإطالة أعمارها بتصدير أزماتها. وحتى هذه المقاومة فإنها مؤقتة؛ فالكون كله يسير سيرًا حتميًا نحو البرودة، والوجود الإنساني وثماره في المقدِّمة منه. وما من حركةٍ إنسانيّةٍ، مهما كانت أصالتها وجذريتها وقدراتها الحركيّة؛ إلا وآلت آخر أمرها إلى نظامٍ ثابت وكيان اجتماعيّ جامد (أو تنظيم له نفس السمات)، قد يُهيمن على المجتمع (أو منتسبيه) بقوّة بادية النشاط والقُدرة؛ إلا أنه في حقيقة الأمر قد بلغ من الركود مبلغًا صار معه شغله الشاغل هو الحفاظ على بنية وجوده المادّي بأية صورة ومهما كان الثمن (أحرص الناس على حياة … أي حياة!)، بل صار مهووسًا بمحاربة السيناريوهات الافتراضيّة لانهياره المرتقَب!
ويطرد شريعتي مع النموذج مؤكدًا هزيمة التشيُّع (وكل حركة إنسانيّة من ثم) في لحظة انتصاره وتحوّله لدولة مع الصفويين؛ فقد هُزمت الحركة في اللحظة التي زالت فيها جميع الموانع والعراقيل من طريقها، وصار الأعداء أصدقاءً؛ ليتوقَّف الشيعي عن الحركة بدعوته مُتحولًا إلى وجودٍ اجتماعي سلطوي غالب وحاكم، فوقي جامد راكد؛ مُجسدًا بوضوح ناموس تبدُّل الحركة إلى نظام، وهو الناموس التاريخي الذي تبرُد بموجبه كل عقيدة نابضة دافعة ولو كانت في أصلها قادرة على تحريك أمة بكاملها، تبرُد وتتكلَّس في نظامٍ ونسق اجتماعي رسمي (بانتظار مُجدِّد)، وبعد أن كانت العقيدة إيمانًا ينعكس على العمل الإنساني بوضوح؛ انحدرت فصارت عصبيّة جاهليّة لا نصيب لها من العمل أو انتماءًا إثنيًا يُعوِّض الفراغ النفسي أو لافتة حزبيّة خداعيّة للارتزاق.
إن الفارق الأساسي بين الإيمان المتحرِّك (بالانكليزية موفمنت Movement) والإيمان المؤسسي المتحجِّر (بالانكليزية انستتِوشن Institution) هو عينه الفارق بين الحركة الإنسانية على مُقتضى الإيمان الذي يعتَمِل حارًا في النفوس، وبين التطويع السلطوي السكوني لمقولات هذا الإيمان عجزًا عن حقيقة تمثُّلها في الواقع، وهو كالفارق بين إيمان أهل الصدر الأول الذي دخل به الناس في دين الله أفواجا، وبين متون العقائد اللاهوتيّة المستغلِقة التي يلوكها كهنة المذاهب الكلاميّة، ليُدخلوا الناس في أحزابهم؛ فيخرجوا من دين الله أفواجا. إن الأول إيمانٌ وقر في القلب وصدَّقه العمل وتحرك به الوجدان فتحرّك به الإنسان ابتغاء مرضاة الله، بينما الثاني علمنة حقيقية للدين وتفريغٌ له من الروح والوجهة والمضمون والفعالية الاجتماعيّة؛ ليستكين الإنسان لواقعه مُتوهِّمًا الغنى في الفهم النظريّ مع بضع كلماتٍ باللسان. ويُمكننا تلمُّس الفارق نفسه في كل نحلة؛ في الزرداشتية إبّان اضطهادها في العهد الإشكاني ثم صيرورتها دينًا رسميًا للدولة في العهد الساساني، وهو ما ينطبق على المسيحية قبل وبعد الإمبراطور قسطنطين. هذا التحوّل لا يتحقق إلا بتبدُّل الدين من وجودٍ جوّاني ضروري لحياة الإنسان، ينعكس برّانيًا على فعاله وحركاته؛ إلى محض مؤسسة رسمية قهريّة برّانية (شرطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو حرس الثورة، أو شرطة الأخلاق/الآداب … إلخ، أو أيًا كان اسمها)، ليسقُط دور وازع القرآن بالكُليّة، فلا يبقى إلا وازع السلطان. هذه العصبية البرّانيّة ليست دينًا في حقيقة الأمر، بل هي إلحادٌ عُنصري تزيا بزي الدين؛ هي عبوديّة حقيقيّة للسلطان. وهو ما ينسحب ليس على التعصُّب العُنصري البروتستانتي أو الصهيوني فحسب، بل ينسحب على أطياف التعصُّب الإسلامي كافة (السلفي والشيعي والأشعري إلخ)، وبذات القدر؛ باعتبارها جميعًا تجليّات لعلمنة التديُّن (راجع مقالنا: السلفية وعلمنة التديُّن).
وينسحب ناموس تحوّل الحركة إلى نظام على كل الحركات الإنسانية، وهو ما تتبَّعه محمد أسد في مسار الدعوة الوهابية مثلًا؛ إذ كانت بداياتها كحركة تحرُّرية تدعو للتخلُّص مما ران على تصوّرات المسلمين من ضلالات الشرك، ثم انحدرت، بتحالُفها مع السعوديين؛ إلى جهازٍ سياسي له تشكيلات قهريّة ورسوم وبروتوكولات دولتيّة، وأعراف ومقولات معصومة لا يجوز تجاوزها بحال. هذه الحُجُب والقيود “الدينية” الرسميّة هي التي أثقلت كاهِل الحركة الإحيائية بأعباء السياسة، وحولتها لكيانٍ مُعقد يُعاني العالم الإسلامي كله من جرّاء تضخُّم حجمه وتقلُّص محتواه وضحالة مضمونه. ويبدو أن الوعي بناموس تحول الحركة إلى نظام ومآلاته كان أكثر نُضجًا ووضوًحا عند الحركة السنوسيّة مثلًا؛ فقد رفضت رفضًا باتًا التحوّل إلى دولة، واستلزم الأمر إعدام الإيطاليين لعمر المختار وشتات السيد أحمد السنوسي؛ حتى يتفاوض ابن عمه محمد بن إدريس السنوسي مع الإيطاليين ويؤسس دولته قصيرة العُمر على أنقاض الحركة. والأمثلة التاريخية في مسيرة المسلمين كثيرة ومطردة؛ حين تصير الرغبة في إقامة نظامٍ مُستقِر موتًا للحركة، وتمسي ذروة مجد النظام وعنفوانه بداية للانهيار الاجتماعي لمنظومة القيم الحركيّة المُدّعاة، وذلك كما كانت حقبتي الرشيد العبّاسي وسليمان العثماني ذُروتا مُلك العباسيين والعثمانيين، وبداية انهيارهما بذات الوقت. بل وفي حالة الزرداشتية؛ التي انهارت وهي في أوج عظمتها وجبروتها، وخضعت للإسلام برغم امتلاك فارس لأقوي الجيوش في العالم وقتها واعتبارها إحدي القوتين العظميين آنذاك. الأعجب من ذلك كله أن الإسلام كان حينها في أضعف حالاته المادّية على الإطلاق، وكان هو الأقل عددًا وعُدَّة وثروة، والأضعف حضارة … لكنه الأقدر حركيًّا بوقودٍ من دعوته الغضّة!
ولأن الفراغ حالة كونيّة مُستحيلة التحقٌّق؛ طوى كل نظامٍ مُتآكِل نطفة حركة جديدة تتشكَّل في رَحِم مجتمعه. أما في حالة عجز المجتمع عن بلورة حركته التجديدية الخاصة، لأسباب معرفيّة أو سوسيولوجية؛ فإن ذلك يؤدي لتمدُّد حركات أو أنظمة خارجيّة في فضاءه/فراغه، وهذا ما حدث في مصر يوم 25 يناير 2011، وما بعده. لقد تعفَّن النظام فعليًا قبلها بفترة طويلة، وفي ظل انعدام قدرة المجتمع على تطوير جماعاته الوسيطة الفعّالة لتحل محل النظام ودولته المترهِّلة؛ آلت الحركة الاحتجاجية إلى تسلُّط حفنة من الملتحين السُذج لفترة قصيرة، قبل أن تختطفها الفاشيّة العسكريّة بتمويل خليجي. لقد أثبت المجتمع المصري عجزه عن بلورة حركة تجديدية حقيقية، ومن ثم سهُل تمدُّد الرجعيّة الرأسمالية الخليجية في فضاءه على أكتاف العسكر المصريين. ويضرب شريعتي مثلًا مُشابهًا بالزرداشتية، التي تحوَّلت من مذهبٍ روحي وقوّة إيمانيّة مُتحركة إلى صنمٍ مُصمت وبناء فخم خاو ومتآكل من الداخل، حتى تكفي لسقوطه أن تصرخ به حركتان ناشئتان قادهما ماني ومزدك، لتأتي الصفعة الحقيقيّة على يد عربي من بطون البادية؛ صفعةكانت كافية لينهار ذلك القصر المنخور تمامًا، ولتتمدد الدعوة الإسلامية في الفراغ الفكري والاجتماعي للزرداشت. ويذهب شريعتي إلى أنه حتى لو لم تتقوَّض الزرداشتية في القرن السابع بالفتح الإسلامي، ولو نجح أنوشيروان في قمع المزدكيين، ولو استطاع الزرادشت إيقاف الزحف البوذي القادم من الشمال الشرقي، ولو تمكنت المؤسسة الدينية الزرداشتية من اجتثاث جذور النفوذ المانوي في إيران، والذي كان مُتغلغلًا فكريًا و ثقافيًا حتي تخوم الصين؛ لو وقع ذلك كله، واستطاعت الزرداشتية مواجهة تلك الأخطار جميعًا؛ فإن مصيرها برغم ذلك كان إلى زوال على يد المسيحية، التي كانت مرشحة حينها وبقوَّة للانتشار في إيران، خصوصًا في المناطق الغربية والشمالية الغربية؛ ولألقت المسيحية بالزرداشتية في أحد مواقد نارها. ومن أبرز أمثلة شغل الفراغ؛ مثال إحلال الأيوبيين محل الفاطميين في مصر. إذ كانت الدولة الفاطمية قد تجاوزت نقطة ذروتها وبدأ مُنحناها في الهبوط بسُرعة، واضطرت من ثم للاستعانة بنور الدين محمود، لئلا يفجؤها الانهيار بغير بديل يتلقَّف منها الدفَّة؛ لتنتقل السلطة بعدها تدريجيًا إلى ممثلي نور الدين محمود، أسد الدين شيركوه وابن أخيه صلاح الدين؛ تدشينًا لنظامٍ جديد. الشاهد الأهم هو أن القوى المؤهلة لتتمدُد في فضاءٍ جديد تكون دومًا أكثر حيويّة منها في فضائها الأصلي؛ حتى يبدأ نظامها في اعتياد بيئته الجديدة والانحدار للبرودة هو الآخر. ومن اللافت أن الدعوة الإسماعيلية قد ارتدّت، بعد إزاحة الفاطميين من السلطة؛ إلى حركةٍ مرّة أخرى، لكنها حركة مُغلقة/باطنيّة هذه المرّة، حركة ذات رسوم وبروتوكولات وبنية هرميّة صلبة (مثل اليهودية في الشتات)، حركة بطعم دولة تحتضر. والراجح أن سبب غلبة ذلك الارتداد، على التفكُك والتشظي؛ هو هيمنة الهاجس الدعوي المذهبي على دولة الفاطميين، وقوّة مؤسساته؛ حتى في لحظات انهيار دولتهم. ذلك الهاجس الدعوي الذي لم تعُد الدولة المترهلة ترفًا قادرة على الوفاء بمطلباته فحسب، بل صارت عبئًا حقيقيًا عليه؛ عبئًا وجب التخلُّص منه. وحتى حين تم التخلُّص منه؛ يبدو أن الفكر الإسماعيلي لم يكُن قادرًا على استعادة شبابه مرَّة أخرى، ناهيك عن تجديد حركته؛ لتنغلق في صورتها الباطنيّة بين الرغبة وانعدام القدرة.
ورُبّما كان صعود المعتزلة في العصر العبّاسي، ثم اضمحلالهم وإحلالهم بأهل الحديث؛ من الأمثلة الدالة في التاريخ الإسلامي. إذ خالف المعتزلة كثيرًا من أصولهم النظريّة/الحركيّة حين وصلوا للسُلطة، ونكّلوا بخصومهم؛ أحيانًا لمُجرَّد استعراض نفوذهم فحسب! إن السلطة تفرض منطقها على كل حركة تتسلَّق سُلّمها، مهما طال الزمن؛ هذا المنطق الذي تفرح به الحركة أول أمرها وتُقبل عليه في شبق الحالم بالتمكين الدنيوي هو نفسه المنطق الذي يُخادعها ليقضي عليها بالموت البطيء في كنف السلطة وترفها. وهو مآل ليس منه مهرب؛ إذ لا بُد لكل حركة إنسانيّة من الاضمحلال لتولَد غيرها، كما لا بُد للإنسان نفسه من التقلُّب قوةً وضعفا، وغنى وفقرا، وموتا وحياة. وأقصى ما تحلُم به الحركة الإنسانيّة، أية حركة؛ أن يطول عُمرها نسبيًا في بناء قواعدها الاجتماعيّة والمعرفيّة؛ فهذا هو ما يؤخر شيخوختها الحتمية بعض الشيء، ويُبقي بعض آثارها في ميزانها، بعد أن تدول دولتها؛ تصديقًا للناموس الإلهي: فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.