بين الدين والدولة
أثبتت المسارات السياسية بعد الربيع العربي البون الشاسع بين النخب العربية في فهم علاقة الدين بالدولة. فخلافًا لما عليه الحال الدول الأوروبية وغيرها من دول العالم، يعكس الخلاف القائم لدينا نموذجي تفكير مختلفين وقائمين على مرجعيات متناقضة ونظرة مختلفة للعالم؛ وقد أشار عبد الوهاب المسيري بذكاء لهذه الظاهرة في كتابه المعلمي «العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة»، حين اعتبر أن الخلاف بين الشيوعية والرأسمالية خلاف أنظمة تعتمد المرجعية العلمانية الشاملة ذاتها.
تعود العلاقة الإشكالية بين الدولة والدين في بلادنا إلى نشأة كل منهما. علينا أن نقول بداية أن الدولة الحديثة -ولا يوجد في العالم اليوم دولة غير حديثة- هي منتج تاريخي ذو سياق أوروبي محدد امتدّ فيما بعد إلى أمريكا الشمالية، والتي هي امتداد أوروبي أولا وأخيرا؛ سياق تفاعل بشكل أساسي مع الثورة الفرنسية ثم تنظير فلاسفة التنوير والتراث الدستوري الفرنسي والأمريكي.
وأقصد بالدولة الحديثة تلك التي حددها ماكس فيبر، وغيره من فلاسفة التنوير، في تنظيراته للدولة، وهي دولة ذات سمات محددة بغض النظر عن مكان وجودها في العالم اليوم، أو طبيعة نظامها السياسي والاقتصادي، أجملها وائل الحلاق فيما يلي -بعد التأكيد مرة أخرى على سياق الدولة الحديث الأوروبي-:
1. سيادة الدولة على مجالها
2. احتكار الدولة التشريع، وما يتعلق بذلك من احتكار ما يسمى العنف المشروع.
3. وجود جهاز دولة بيروقراطي.
4. تدخل الدولة الثقافي الهيمني في النظام الاجتماعي من خلال نظام صارم في المدارس ومخافر الشرطة والأعياد الوطنية وغيرها.
بتعبير آخر، حلت «الدولة» بسماتها السابقة محل الله. الدولة هي إله العصر الحديث، هي مصدر التشريع، ومصدر السلطات، ومصدر العنف والرحمة والعقاب، ولها تُقدَّم التضحيات والقرابين، ولها طقوس ورموز خاصة أقرب للعبادات هي منشأ ومرجع ذاتها، ومن أجلها ولأجلها سيفعل «السياسي» (وهو مفهوم نظَّر له كارل شميت وارتبط نشوءه بنشوء الدولة الحديثة إلى حد بعيد) كل ما يستطيع من أجل قوتها وتسيدها.
الدولة هي إله العصر الحديث، هي مصدر التشريع، ومصدر السلطات، ومصدر العنف والرحمة والعقاب، ولها تُقدَّم التضحيات والقرابين
تحتكر الدولة الحديثة المعنى، ومع أنه لا يوجد دولة من دون مواطنين، إلا أنها هي نفسها تعطي لمواطنيها معنى وجودهم وتجعل حياتهم «ممكنة» أيضا. ومن السهولة بمكان أن نتخيل في العصر الحديث رجلا ملحدا يتمتع بكامل حقوقه متقلدا أعلى المناصب السياسية والعلمية؛ إلا أنه من الاستحالة بمكان تخيل وجود شخص لا ينتمي لدولة على الإطلاق مهما كان شكل الديانة التي ينتمي لها.
ترافق التنظير للدولة مع تنظير آخر عن الأخلاق، ولعل سؤال: «لماذا علينا أن نكون أخلاقيين؟» من الأسئلة المميزة للعصر الحديث؛ بينما كان في ما قبل الدولة الحديثة من بديهيات القول، فنحن يجب أن نكون أخلاقيين بلا سبب، لأننا «ينبغي أن نكون كذلك». وبشكل عام نستطيع القول أن التنظير حَكَمَه إطار عام مفاده أن الصراع بين الدين والعقل حُسِم إلى غير رجعة لصالح العقل، وعليه لا يكون أي شيء صحيحا وقابلا للتطبيق ما لم يكن «عقلانيا وضعيا» بما في ذلك الأخلاق نفسها التي جرت محاولات حثيثة لفصلها عن الدين باعتبارهما شيئين منفصلين.
ليس الدين مطابقا للأخلاق بكل الأحوال، وقد يحدث أن يشرع الدين كبرى الانتهاكات الأخلاقية، وهو ما نراه في مناطق كثيرة بحسب ما شرحه عزمي بشارة في كتابه عن الدين والعلمانية، وقد تكون العبارة الشهيرة للمفكر برنارد راسل دالة على حجم التنظير في هذا الموضوع: «وحدهم الودودون يؤمنون بإله ودود، وهم ودودون على كل حال!» وهذا نقاش آخر.
بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وانهيار الإمبراطوريات العثمانية والروسية والمجرية، صعدت القومية لتشكل الهوية الجديدة المعترف بها للكيانات السياسية الناشئة. كما جرت قبل ذلك «قومنة» للكنائس نفسها في أوروبا، وتراجعت أهمية الدين وحوصر لينتهي به المطاف معزولا في زوايا كنائس يقل مرتاديها باطّراد.
لا يمكن تخيل قطعة من الأرض اليوم دون أن تكون خاضعة لنظام دولة حديث
أثَّرت موجة «ما بعد الحداثة» وما أفرزته من ثورة للهويات، في القومية نفسها، وبات ينظر على نطاق واسع إلى الأنظمة القومية المركزية كتركيا وفرنسا كأنظمة متخلِّفة تجاوزها الزمن لصالح فكرة «المواطنة» كما يوضح الفيلسوف الكندي ويل كيمليكا في كتابه عن أوديسا التعددية الثقافية.
لا يمكن تخيل قطعة من الأرض اليوم دون أن تكون خاضعة لنظام دولة حديث. ولا يوجد دولة لم يتم استيعابها ضمن المنظومة الدولية بمؤسساتها المختلفة. وجاءت العولمة لتقضي على أي أمل لأي دولة بإنشاء نظام دولة حديثة مختلف.
إذا كان ما سبق صحيحا، فإن الدولة الحديثة بأصولها وشكلها ومسارها الموصوف أعلاه تختلف عن ما نعتقد أنه نظام حكم إسلامي. لم ينشغل فلاسفة المسلمين بتطوير نظرية «كاملة» في الدولة؛ ومن قرأ كتاب الماوردي عن «الأحكام السلطانية» وهو من أشهر ما كتب في باب السياسة الشرعية يجد ذلك.
ليس حق التشريع من اختصاصات الدولة في الحكم الإسلامي (وأنا هنا أستعير عبارة وائل حلاق للتفريق بين الحكم الإسلامي والدولة الحديثة)، بل هو من اختصاص الله، ولا يكفي للدولة لكي تكون شرعية أن تكون منتخبة انتخابا حرا ونزيها، ولا حين توجد في الأمم المتحدة، بل تكون شرعية حين تحكم بأمر الله وتطبق حكم الشريعة -والتي اقتصرت في زماننا على مجموعة قوانين-، ولا يعني التشريع لدى المسلمين القانون فحسب؛ فليس هنالك من فرق «قانوني» بين الصلاة والصيام والزكاة والحج والمعاملات التجاربة والأسرة وغيرها، كما أوضح ابن تيمية في «السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية».
لا يعني التشريع لدى المسلمين القانون فحسب؛ فليس هنالك من فرق «قانوني» بين الصلاة والصيام والزكاة والحج والمعاملات التجاربة والأسرة وغيرها
الدولة ليست مرجعية ذاتها في الإسلام، والموت في سبيلها أمر لا يستحق الثناء بحد ذاته، إن لم يؤد إلى الهلاك يوم القيامة؛ فمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو سبيل الله. وأكاد أجزم أنه حتى أكثر المسلمين المتدينين في سوريا حبا وإيمانا بهذا البلد، لم تخالج نفسه وهو يتعرض لأخطار الموت هذه التناقض: «هل أنا أموت في سبيل الله أم في سبيل الوطن؟!».
تبدأ مشكلتنا من كون مسار «تطورنا» إن صحت العبارة انقطع بالاستعمار الأوروبي للعالم العربي والإسلامي بدءا من القرن التاسع عشر، وفُرِض نموذج الدولة الأوروبية علينا لإدارتنا من قبلهم، وتفريغنا من نماذج الحكم التي اعتدنا عليها وتفاعلت معها الشريعة على مر القرون.
حدثت إذن عملية «شرقنة» للشرق بحسب تعبير الراحل إدوارد سعيد، فالمعرفة الأوروبية بالشرق – والذي غالبا ما عنى الإسلام في الأدبيات الأوروبية – وُظِّفَت دائما في ميزان قوة يميل منذ عدة قرون لصالح الغرب؛ فنحن – بحسبهم – هو ما درسوه هم عنا، وليس عندنا ما يستحق الذكر ولا الثناء، فقد صنعونا على صورة ما يعرفونه عنا.
ورث المسلمون دولة حديثة جاهزة عن الاستعمار الأوروبي، ولم يسعوا فيما نعلم للتخلص من هذا النموذج، وقد اعترف الإسلاميون بالدولة الحديثة كحقيقة واقعة، وجادل كثير منهم عن حجية هذه الدولة مستشهدين بـ «دولة» الرسول في المدينة، واعتقد الكثيرون منهم أن الدولة الحديثة قابلة للتحويل مع الزمن لتصبح إسلامية؛ دون إدراك هذا التناقض الصارخ في الأسس، وهو ما أنتج بالمحصلة نماذج إسلامية (في الدول التي تقول أنها تطبق حكما إسلاميا) فاشلة لا تستحق المديح، عداك عن محاولة الاتباع.
من الصعب جدا إذن أن يحكم الإسلام – أو أي دين آخر طبعا – الدولة الحديثة بالشكل الذي نعرفه عن الإسلام والدولة الحديثة دون أن تعيش هذه الدولة الناشئة تناقضا داخليا جوهريا في مرجعيتها وهويتها، وتعيش حالة صراع – مجازا أو حرفيا – داخل وخارج حدودها نتيجة لذلك.
بالرغم من صعوبته البالغة، فإن التوفيق بين الإسلام والحداثة ليس مهمة مستحيلة. ومن المفيد القول بأن منبع هذه الصعوبة ليست أزمة الإسلام بقدر ما هي أزمة الحداثة نفسها. وليس الطلاق بين الإسلام والدولة الحديثة بائنا بينونة كبرى؛ فالدولة الحديثة وإن استغنت عن الدين، ولكن الإنسان لم يفعل ذلك. وإن كان العالم قد نزع عنه السحر كما أراد ماكس فيبر، إلا أن قابلية الإنسان للانسحار لم – ولن – يتم انتزاعها.