بيني وبين أبو ذكري
علاقتي بالمُفَكِر والأديب أ. عبد الرحمن أبو ذكري علاقة فريدة من نوعها؛ فهي تحوي جل ما أؤمن به عن تجليات العلاقات الإنسانية الثرية؛ فهي -على مستوى الفهم الجواني للشخص المهموم به، وتقاطع مساحات التلاقي من هموم فكرية ومشارب معرفية، بل وتعلم منه الكثير- لا تستلزم بالضرورة الكثير من اللقاءات، ولا يتطلب تلاقي القلوب الكثير من المعرفة «المعلوماتية» عن الإنسان؛ فلا يلزم العلاقة الثرية معرفة الكثير عن الشخص من تفاصيل روتينية يومية، قدر ما يستلزم أن تكون التجربة الإنسانية قريبة إلى حد ما في تكوين أفكار ومشاعر، وبالتالي وجهة للسعي على غرار ما انطبع فيها من أقدار الله عليها، وما نشأ على إثر ذلك من صياغة للنفس الإنسانية. وأحسب أن هذا الرصيد متحقق بقدر كافٍ للقول باطمئنان إن علاقتي بأ. أبو ذكري علاقة ثرية لتقاطع الكثير مما ذكرت بين ذاتي وذاته.
لم أقابله سوى مرات قلائل، لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، مما جعلني أتشكك في البداية فيما أكن له من مشاعر تقدير وودٍّ، وما أثق فيه تجاه سعيه في الحياة، وهذا جعلني أقلب الأمر على وجوه عدة، وأتركه ليأخذ من وجداني حتى استقر الأمر إلى ما أكتبه عما بيني وبينه في هذا المقال. وبحق فأنا أعتبره أستاذًا لي؛ فبرغم قلة ما أخذته منه إلا أن كان بالغ الأثر في صياغة المسار الفكري الذي أعايشه في هذه المرحلة من حياتي.
ومن أهم ما صاغه أ. عبد الرحمن مفهوم المكابدة، وحتى وإن كنت قد سمعته كثيرًا من غيره، ولأنني أؤمن بالفكر الحي النابع من النمو الرباني المستمر بتفاعل ذات المُفَكِر بيقظة وانتباه مع أقدار الله المحيطة به إجمالًا دون فرض قيود مسبقة على عملية الحياة ذاتها –كحال المُفَكِر البوسني والمُجَاهِد علي عزت بيجوفيتش– ودون وضع عملية حظر على تفاعل ذات المُفَكِر الحياتية وفقًا لإجراءات وضعية يعتسفها اعتسافا على الحياة، كأن يقرر مثلًا تفريغ نفسه لأفكاره وعدم الخلطة مع الناس وفقًا لما يسعه قدر الله في ذلك، ويضحى مُفَكِرًا في قضايا العالم داخل حجرته الصغيرة، أو غيرها من الصورة الكثيرة للمعنى نفسه من التعامل مع الحياة معاملة اعتسافية إلا أن أ. أبوذكري قد وضع يدي على مفهوم المكابدة، كبنية دلالية مكثفة أستعيض بها عن التوصيف كل مرة عما أقوم به لنفسي.
ومما صاغه لي كذلك أن ما أقوم به ليس نبتة دون جذور، فما يصفه بـ «تجديد درس الكلام الإسلامي» وأصوغه أنا في إحياء قضية التصور وتحدياته في الواقع الراهن، لم يتولد بين عشية وضحاها –وإن كان ما زال في طور النمو مقارنة بالتراكم المعرفي الهائل المعني بمراكمة الجزئيات دون التفات لما حدث من تغير جذري في تربة التوحيد في ظلال عملية التحديث الممتدة في القرن الأخير – جعلني أطمئن لخطاي في هذا الاتجاه، ووضع لي حدًا حقيقيًا بين الكثير من المسارات الأخرى التي لا تناسب تكوني وقضاياي، وهمّش من قضايا وضخّم الأخرى مما أعانني على شحذ زمام نفسي والوثوق فيما أسير فيه إلى حد بعيد، فما أقوم به سار فيه الكثير من الأعلام كالإخوان قطب وبيجوفيتش والمسيري والأنصاري وغيرهم.
ونظرًا لأننا لا تجمعنا لقاءات دورية برغم ما أكرره أنني مؤمن أننا على صلة وثيقة لاعتبارات أعمق كثيرًا من صور التلاقي المتكررة، وجدت أن من مسئولياتي عقد حوار تفاعلي معه من خلال التأمل الجاد فيما يكتب، ومحاولة الفهم الضمني للنمط المتكرر في كتاباته ومنشوراته على صفحته الخاصة على الفيسبوك، وبما أنني عقدت العزم على قراءة عامة لأهم رموز الساحة الإسلاميين في سلسلة مقالات «قراءة في المدونة الإسلامية»؛ وجدت أن أهم من ألتقي معه هو أولى بالعناية –وهذا لا يعني الإهمال في حق الغير في القراءة والتمحيص– ولكن في النهاية هذا قسمي فيما أرى وأشعر ولله الأمر من قبل ومن بعد.
لقد قرأت معظم ما كتب أ. أبوذكري بداية من كتابة «أفكار خارج القفص» مرورًا بمعظم مقالاته –إن لم يكن جميعها– وصولًا لمنشوراته عبر الفيسبوك، وكتبت مقالة معلقًا فيها على كتابه بعنوان «ما بين كتابين: هروبي إلى الحرية وأفكار خارج القفص» منشورة على موقع إضاءات وموقع يقظة فكر، ولقد أرسلت له طالبًا تقيمه للمقال، فرد علي قائلًا: «لست بصدد تقييمك ولكنك فهمت مُرادي إلى حد بعيد»، ورده هذا جعلني أطمئن للمشترك الأصيل بين همي وهمه والوثوق فيما يقدم والتفاعل معه تفاعل التلميذ لأستاذ سبقه في سلوك الطريقة وخبر المسارات المختلفة لذا فالتفاعل الجاد لما يقدم مسئولية علي.
وبشكل عام، كثيرًا ما تسبب لي كتابات أ. أبوذكري حالة من الربكة؛ إذ أن ما يقدمه أكثر حسمًا لكثير من الأمور التي ما زلت أتفحص فيها وأقلبها في ذهني ووجداني، وأكدح لإيجاد صحبة معينة وتربة صالحة تنمو فيها تلك البذور الفكرية وتترعرع، كما أجد فيما يكتب حالة وجدانية جياشة تأسرني وتأخذ بتلابيب ذاتي، لا أستطيع الانفكاك من قوة جذبها لأيام. وفي الوقت ذاته دون سابق إنذار تتطاير تلك الحالة دون مقدمات، فأمكث بعدها متسائلًا ما الذي يحدث بالضبط؟ هي حالة مربكة فعلًا خاصة لما أحمله لهذا الإنسان وفكره من تقدير، وما أوجبه ضميري علي لفهم تلك الحالة نظرًا لتقاطع الهموم المعرفية وبل طريقة التوليد نفسها على طريقة المكابدة الحية لا التشقيق المعرفي الجاف، إذن لماذا لا أجدني قاطعًا لكثير من القضايا كما هو حاله؟ ولا أجد فيما أكتب بالتالي الحرارة ذاتها نظرًا لعدم حسم الكثير من القضايا؟ ولماذا مع كل هذا السريان القوي في ذاتي يتبخر منها بعد فترة دون سابق إنذار؟
في البداية اكتفيت بالتفسير البسيط القائل لعله أكبر مني سنًا وأكثر مني قوة في الشعور وأصدق في المكابدة، لذا تأتي كتاباته على هذه الشاكلة، ولكن – مع عدم نفي للتفسير الأول – تطاير الحالة مرة واحدة دون سابق إنذار جعلني أتشكك في المقدرة التفسيرية للمقولة الأولى لعدم إحاطتها بالحالة، إذن ما الذي يفسر حالتي مع كتابات الأستاذ؟
في منشور له على الفيسبوك، كتب فيه ما يلي:
ومع اختمار الفكرة إلى حد ما داخلي وقدرته البيانية في سبقي لما يعتمل في صدري، أجد أن مقولتي الياسمين ومُرَكَز عطر الياسمين «أكثر تفسيرية» للفارق الحالي بيني وبين الأستاذ؛ فما يكتبه الأستاذ على غرار مكابداته المبنية على الذاتية الشديدة وعدم الخلطة والترحال وفقًا لما يقول عنه أن الفرص تختلق ولا تنتظر، يجعل مما يكتب قوي ومُرَكَز، سريع في إلهاب الوجدان – كالشعر الصوفي (راجع مقالي «عن الشعر الصوفي: خواطر ذاتية» المنشور على إضاءات)، وهو أشبه كذلك عن حالة الحب قبل الزواج المفعمة بالمشاعر، وهذا –في ظني –ما يحيل كتابته بعد حالة الهياج إلى رذاذ متطاير، وهو نوع من الكتابات –على غرار ما أحياه ممثلًا الياسمين في كليته – يكسب المتلقي كثافة شعورية دون عملية تأسيسية هادئة بطيئة المفعول متجذرة الأثر.
هل معنى ذلك أن كتاباته لا قيمة لها؟ في ظني أن هذا السؤال لا يخرج إلا من ساذج، لا يعي كثيرًا الحياة على تركيبها وتنوعها وثرائها؛ فالمعادلة البرمجية صفر/1 قد تُبرمج الحياة ولكنها لا تفسرها، وهذا الاستنتاج يحسب لصالح الأستاذ؛ إذ إنه يدلل على صدقه فيما يكتب، وبرهن في خفاء أنه فعلًا يكابد الكتابة ولا يكتبها مثلما قال أحمد مطر: «أنا لا الأشعار الكلمات فالأشعار تكتبني». فالرجل يكتب ما يعيش ويتسق مع ما يؤمن به لذا تخرج كتاباته صادقة نافذة، وهذا ما جعلني أفهم لما يغضب بعض من متابعيه من كتاباته، فهذا يدل على أن المكتوب قد اقتحم القلوب، فمنها ما زاده حياة ومنها ما رشق كالسهم في قلبه ليصرخ ساخطًا على مُطلِق الكلمات. وإذا ما كان ما يكتبه الأستاذ لا أهمية له، لم يكن للحلاج وابن عربي وجلال الدين الرومي في التراث الصوفي قدرهما ولم يكن لعبد الحليم – برغم عدم تفاعلي مع أغانيه وأفلامه – وفريد مكانتهما. ووجدت في علاقة بيني وبينه خير تمثيل بين الياسمين ومُرَكَز عطره نموذجًا «أكثر تفسيرية»، فهو يحيط التفسير الأول –كونه أكثر خبرة وأكبر سنًا وأصدق شعورًا – ويشمله كما تشمل الرئة خلاياها والنطفة الإنسان.
وهذا الفارق بيني وبينه جعلني أكثر قبولًا للفارق بين حالي وحاله، فأنا بشكل ما أكثر تفاعلًا مع القضايا الحياتية التي يحياها معظم الناس، فأنا رجل متزوج يعيش في القاهرة له ربيبة، يكابد تفعيل ما يؤمن به في هذا الواقع وليس غيره في محاولة لإيجاد صور للأفعال أكثر اتساقًا مع ما أؤمن به في مساحات كسب الرزق وتعليم ربيبتي وغيرهما، لذا فالمتغيرات في حالتي أكثر والحسم أقل لما أراه أمامي من تحديات، إضافة إلى ظروفي الصحية المتقلبة، وغير ذلك كله أقدار الله إجمالًا المحيطة بي والتي آمنت مؤخرًا أن التسليم في جلها أكثر اتساقًا مع ما استقر في ضميري من إيمان وإن كان هذا التسليم فعل مكابدة مستمر بالغ المشقة. وتلك الحياة تختلف كثيرًا عما يحياه الأستاذ من صور للحياة مختلفة لذا تنتج نسقًا فكريًا أكثر حسمًا وأكثر تركيزًا وإن كان –في تقديري– لا يعبر عن الياسمينة في كلها ولكن عن مستخلص رائحة الكثير من الياسمين. وهذا بدوره جعلني أصنف كتاباته في كونها كتابات معِينة وليست تأسيسية؛ فعطر الياسمين مهم للحياة ولكنه غير كافٍ كما يقول المثل الإنجليزي «necessary but not sufficient».
إذن لماذا يكتب مثلًا عن العشق من لا يعايشه على حقيقته؛ فلماذا يتغنى عبد الحليم بالحب وهو لم يختبره في الحياة، ولماذا يوجد نزوع بشري عامة للخروج من مساحات المسئولية إلى حالة فيها قدر من عدم الاكتراث لما يتفاعل معه معظم الناس والتي قد تأخذ ذروتها فيما سماه المسيري بـ «الحالة الجنينية» أي –في هذا السياق- التعبير عن معانٍ جياشة دون الابتلاء فيها ومعايشتها عن حق؟ وهل يمكن لإنسان أن يكون صادقًا مع نفسه وهو يعبر عن تلك الحالة؟ إذ إن كان صادقًا فلم لا يتفاعل مع أقدار الحياة ويقبل المسئولية ولا ينتقي منها بشكل اعتسافي ما يحلو له بل يتفاعل معها بحق ويترك نفسه لأقدار الله يختار له من الصور ما يشاء؟
وفي الحقيقة لا أميل إلى قبول أسئلة كتلك خاصة إذا ما كانت تتعلق بحالة حية كالإنسان في تركيبه، وأتوقف على مقولة بيجوفيتش «الحياة أسمى من الفكر»، والحالات الإنسانية فريدة في كيفية تشقيق عدد لا نهائي من الصور لقدر محدود من المعاني. ويمكن مثلًا الجمع بين صورة الصدق والوقوف دومًا على حالة بعينها -دون اقتحام المزيد من المسئوليات- بحالة السيارة المغروس إطارها في الرمال؛ فقد يعتري السالك إلى الله حالة ما يحاول جاهدًا الخروج منها، ويقدر الله عليه محاولته الصادقة في الخروج مع ثبات حالة على وضع بعينه من صور الحياة –كعدم الزواج والتغني بالحب – وقد ينفد عمره وما زال في حالة الصدق وكذلك في حالة المحاولة في الخروج من المغرس بينما تظل الإطارات تدور بقوة دون تخطي السيارة تلك العقبة. والفارق بين الإنسان الصادق وغيره في حالة كهذه أن الأول يرضى بقدر الله عليه في هذه الحالة ويسعى لإيجاد الأعمال المناسبة له –كالتغني بالحب – والآخر قد يسخط فيحبط عمله ويسقط دينه بالكلية. ولا علم لي بحياة الأستاذ الخاصة حتى يمكنني تعيين هذا التساؤل وإسقاطه على حاله ولكنني أطرحه كتساؤل عام وصلني من رذاذ منشوره الأخير واستشففته من تفاعلي معه ومع كتاباته إجمالًا. وختامًا فهذا ما استقر بيني وبين الأستاذ وهذا ما تفتقت عنه مكابداتي للفهم في تلك المساحة من أقدار الله عليّ.
والله أعلم