ما بين الحب والسلام مصالحة ومصارحة
إلى قارئي على أريكته الدافئة مرتاح الخاطر نابض القلب يتبع خفقاته، وإلى ذاك الطفل المكسوّ بتراب ودم، رث الثياب أشعث الشعر، يقضم كسرة خبز في المخيم يلتقط نفسه المتقطع بين الغارة والغارة.
إلى الذين يواجهون تخبطات الحب والحرب بالدندنة.
إلى أم تغزل..
أب يفلح..
وابن يعاني ويلات الحياة..
وحبيبة تعزف سيمفونية يكممها الكبرياء والحياء
إلى الذين يؤمنون بأثر الفراشة.. ويتشبثون بأجنحتها الرقراقة..
وإلى الذين آنسوا الظلام ومغارات الرحيل..
في صباحك قبل ارتشاف قهوتك السوداء كعيني، افتح شبابيك قلبك، أنصت تجد صوتي في دعاء الكروان ونغم الحساسين! أتسمعني؟
انظر، أنا لا تتيهني بحور الحب كلها. اللهم إلا بضع قصائد لصدقها. لا تفاعيل البسيط ولا الطويل تقنعني.
القلم لا يسجل خواطر النفس كما الحقيقة عدا حبر جبران ومطران وقيس نشيجه والعويل، وأبيات درويش لما لعن حبيبته التي تغيبت عن موعده.. وشوق مريد البرغوثي في بودابست المجرية ومن بعدها عمان تنازعه نفسه إلى رضوى المصرية! تخيل أن تعود إلى مسكنك الذي ألفته حيث أهلك وأمك وتشعر بالغربة! نفاه السادات عقب معاهدة السلام مع إسرائيل. ترك مريد زوجته في بلدها وقلبه ممزق في جسد طفل خمسة أشهر سماه تميم!
ويحكي تميم، الشاعر الفلسطيني المصري، عن ذكريات طفولته المشتتة في بقاع الأرض يختلس حنان الأب عنوة عن الحكومات رغم أنف الحدود والسياسات:
هؤلاء مساكين الحب ونزقه، هم أصحابي بكوا الوله وأصابهم الوهن! وحدهم تلين لهم مسامعي وأسترق لهم وأردد خلفهم خلسة وتهامسًا رعشة وتأثرًا. وأشهق لآلام العاشق ويبكيني الحنين!
ربما إذا صدق هؤلاء زعمهم. وجاءت حكايتي، ربما حينها لحنت شطرًا ومطلع قصيد. وأنشدت بيتًا وحشيت بيتًا على بحر باسمي، أرسيت به قواعدي الصادقة اللا حساب فيها ولا أعذار. ولا قناع غدر وفراق أو دمع وهرب ونار!
لا عطش في بحري، لا تفاعيل ممدودة، لا قوافي محنكة مدروسة، بلا أوزان!
هو بحر حرٌ، متمرد، جذل، بهيج.. أبيض كفُل وياسمين، ورديّ قوي لا يموت ولا ييأس كعنقاء تطير في أراضي السندباد!
إليك صغيري، الآن أوصيك ألا تخاف برودة الحرب، فالحرب لا تدوم. لا تهزك رياح عاتية من الفقر والجوع والعذاب. مهما طال الغائب لابد يومًا أن يعود! فلا تهرب. الأزمات لا يحلها غير العتاة الشداد. صُن كرامتك ولا تمد يدك لجارٍ و لا سلام صوري يغتالك خلف الجدران. امسح الغبار عن وجهك، طهر جرحك واربطه بقماش نظيف، قم. اقفز. وإن قطعوك للتنازل عن أرضك شلوًا شلوًا تماسك.
وتميم يقول أيضًا:
لا تصرخ في صمت بل انتفض. لا تبكِ في صمت. وانشد للحب بأن يهدأ. لا وقته. فالحب جريمتنا العظمى. تقتلنا بأيدٍ ناعمة وتفتت القلب المتفاني!
اقترب أربت على رأسك وامسح على شعرك أبسمل وأهمس في أذنيك أن تهدأ أيها الناجي من غارات القنابل وغارات العشق مماثلة لا رحمة فيها. لا برد بعد اليوم ولا دموع. لا شيء غير الدفء والسكينة وطول السنين.
كف عن التحايل والخداع. إنما النفس أحق بالمصارحة والمكاشفة والانصياع! واجه.. لا بأس من الانهزام للأهواء هذه المرة. فكيف يتصالح طرفي الخصام دون المصالحة مع النفس؟! كيف السلام مع العدو والحرب على أوتادها في القلب. تفاوض لذاتك ولا تجرم في حقها.
كرهت الأرانب الجحور تريد حديثًا شفافًا كيرقة حمراء براقة لامعة. كما كرهت الأسلاك الشائكة والبنادق والدبابات والشوم والدروع الواقعية!
85 ألف طفل في حلب لا يختلفون عن حالة عمران الشهيرة، يتحسسون موضع الألم لا تصدق عيونهم سريان الدماء على أيديهم، يرتعبون من النزيف وينذهلون. يحتفلون بالنجاة عيدًا، على ركام بيوتهم والحطام!
وفي فلسطين الأطفال التي لا تموت تحت الأنقاض ترى انتهاكات الأعراض، فيتعرون ويُبرحون ضربًا وتُربط أيديهم إلى الخلف، وياللتعب العمود الفقري بهذه الوضعية! ويعانون من الوعكات الصحية والأمراض الفيروسية العصبية الخطيرة التي لا علاج لها إلا في مستشفيات الصهاينة أو خارج البلاد وطبعًا التعسفات لا تسمح بالآدمية أبدًا، فلن أحدثك عن النفسية والضغط من وطأة التحقيقات العنيفة التي يجريها الاحتلال معهم!
تقول «اللجنة الشعبية لرفع الحصار عن غزة»: «المعاناة الإنسانية في قطاع غزة تتفاقم والحصار يشتد وتداعيات الانقسام الفلسطيني مستمرة، رغم تفاهمات القاهرة».
بالطبع تعلم، يا قارئي، أنهم يطهون على الشموع. الكهرباء تُقسم فترات محدودة على شوارع القطاع تتراوح بين أربع وخمس ساعات فقط!
والأوضاع في الضفة ليست على خير حال، فالاعتقالات على أوجها واقتحامات القرى لا تتوقف، فإذا عاد الابن المراهق لأبيه فلا يصرخ في الظهيرة خلف جنود الاحتلال يجرجرونه الابتعاد بأن «طخوني وأعطوني ابني».
احتجزوا الفتى لأن شكله عربيّ أكثر من اللازم، لا غرابة أن تكتظ سجون الاحتلال مرحبة بـ 120 طفلًا فلسطينيًا شهريًا، والأطفال الأصغر عمرًا بعد الدوام إذا لم تنهدم المدارس فوق رؤوسهم يلعبون على الدراجات البنفسجية، خلفهم دُكان يعرض ألعاب ودمى بلاستيكية. بائع خضار ذابل. عجوز يتربع على مصطبة قذرة أمام حوش الدار في يمناه سبحة يتنظر الفرج أو الأجل لا يجد فرقًا جوهريًا بينهما.
أصوات من خلفهم تلعن الانقسام، وأصوات محذرة من الخنوع والرضا بالتطبيع والمهادنة!
ترى الآن وقفة داعمة للمصالحة في بيت لاهيا شمال القطاع، تتباين الوجوه القمصان والعباءات. رؤوس حليقة أخرى خاطها البياض وغطاها العقال، وقصات شبابية على أحدث صيحة. حتى الألوان لها ظلال مختلفة تعكس حكايات دفينة ومأساة خاصة تنفرد في الوجع وتتشابه في النمط العام. إن العالم كله موجوع، يا صديقي.. لا فرق بين صاحب بزة أو جلباب أو قميص معرق كريه. الجميع يحمل لافتة عريضة كُتب عليها بالأحمر الصريح إنهاء الفرقة والانقسام.
رسالة من هنادي الحبيبة إلى زوجها مهربة من عيون الاحتلال:
يهربون النطف كما تُهرب الرسائل فتولد الأطفال ويتكاثر الأسرى، إنها حرب الأمشاج والتقدم الطبي يا صديقي!
الحجات ينسجن الخيزران، ويتأففن من بنات هذه الأيام لا يشغلهن سوى التصوير المسمى «السيلفي».. مرابطات يُلقى القبض عليهن لأن «المقلوبة» تثير حنق الصهاينة في القدس! الكعك المقدسي يرعبهم لأنه يشهد على أصالة الأرض وعروبتها. موسم الزيتون يخسف بأدمغتهم، لا يمكن للمستوطنين التحمل أكثر من ذلك، يرونهم يجنون الزيتون الأسود والأخضر ويطحنونه تحت الدرّاسة. ويغنون: «دير المية على الصفصاف فلسطينية وما بنخاف»! لا يمكن السماح بإغاظتهم، سيحرقون المزارع، اشتعلت البيادر في نابلس! وارتفع الدخان لأعالي الجبال.
يا قارئي.. خذ مني، تقبل نُصحي.. لا تنجرف لتيارات الهوى. لا تربط نفسك بمخلوقة لن تستطيع حمايتها ولا البقاء معها. لا تأتِ بجنين إلى العالم يعاني بؤسًا كبؤسك. سيولد أشيب، ما نفع زيادة أعداد المشردين واللاجئين والجوعى؟
أتعلم ما مشكلتنا؟ أننا رأينا النهاية والفراق قبل أن نرسم البداية ونخطط للقاء!
أمن فرط ذكاوتنا أم نحن المجانين؟ أسوأ حظنا أم رحمة رب العالمين؟
ستذبل قبل أن تزهر.. مشاعر حب صادقة ودمعة عين ناطقة.. وقافية وأنشودة.. نبرر فشلنا جزعًا: طريق الحب مسدودة!
سوف تنسى بكاءك على الوسائد ليلًا لما تضحك الصبح وتغني! تعرف المسح الفوري للأحداث – التحايل على القلب والدماغ – فلا تسجل القريب من الذكريات؟ هذا الفن أتقنه جيدًا.. سأخبرك عن مثل شعبي بسيط نستخدمه مع الأطفال دون الرابعة كوسيلة إلهاء عن حاجة مؤلمة أو مؤرقة أو حين يبكي المفزوع هلعًا. فتقول له: «بص العصفورة» فينصرف انتباهه عن مواجعه ومخاوفه ورغباته اللحوحة إلى رؤية العصفورة البديعة الجميلة ويطيب ويهدأ.
حلو العلاج بالعصافير، حلو اتباع المباهج والانشغال عن الأحزان.. ولو قليلًا!