بين كونديرا ومحفوظ: هل يستحق الإنسان مصيره؟
لطالما كان ذلك التساؤل محوريًّا عبر التاريخ الطويل للأدب، وللفلسفة، ولطالما سال الكثير من مِداد أقلام المفكرين في محاولتهم لإيجاد إجابة. هل الإنسان يستحق ما تؤول إليه حياته من عذابات أو من نِعم؟ هل يُعد الإنسان حقًا مسؤولًا عن مصائر حياته؟ أم أنه ليس أكثر من ورقة شجر تذريها تيارات الهواء وتلقي بها حيث تشاء؟
وترجع أهمية الإجابة عن ذلك التساؤل إلى ما بعد الإجابة، إلى ما يترتب على الإجابة عن ذلك السؤال، وإلى ما يتطلب من الإجابة على معضلات فلسفية، أخلاقية منها وميتافيزيقية وغيرها، في سبيل الوصول للهدف المنشود. ومن ثم تظهر أهمية أخرى وهي الحياة التي سنجد أنفسنا بصددها جراء إيجاد إجابة عن ذلك التساؤل الشائك.
لأنه ليس ثمة شيء يتكرر
يعد ميلان كونديرا، الفرنسي ذو الأصول التشيكية، أحد أهم أدباء القرن العشرين، وقد ترجمت معظم أعماله إلى اللغة العربية. يفتتح ميلان كونديرا روايته ربما الأهم «كائن لا تُحتمل خفته» باسترجاع لفكرة الفيسلوف الألماني فريدريك نيتشه عن العود الأبدي. ويأخذ الفكرة لمستوى آخر ويضعها محل تأمل وتساؤل، تلك الفكرة المجنونة لنيتشه كيف يمكننا أن نتصور العالم إذا ما أصبحت حقيقة معيشة؟ أن نتخيل العالم بكل أحداثه وصراعاته وحروبه يعاد تكراره مرارًا بلا نهاية. ويضرب كونديرا مثالًا لحرب نشبت بين قبيلتين أفريقيتين في القرن الرابع عشر أدت لهلاك ثلاثمائة آلاف زنجي، ومرت مرور الكرام دون أن تؤثر في التاريخ ولا تترك أي أثر يذكر.
ماذا سوف يحدث لو أن العود الأبدي حقيقة، وأن تلك الحرب سوف تعاد مرات أخرى بلا توقف، ما الذي سوف ينجم عن ذلك؟ ويجيب كونديرا بمنتهى الفتور أن النتيجة ستكون جبالًا من الجماجم والهياكل العظمية، ولن يسفر ذلك أيضًا عن أي تغيير في مسار التاريخ وسوف يمضي كما هو، كما لو أن شيئًا لم يحدث..
ثم يعود كونديرا ويضرب مثالًا آخر بموقف حدث معه هو شخصيًّا، عندما كان يتصفح مجموعة من الصور لأدولف هتلر، الذي تسبب في مقتل العديد من أفراد عائلة كونديرا نفسها إبان الحرب العالمية الثانية في معسكرات الاعتقال النازية. ويعبر كونديرا عن شعوره في تلك اللحظات بأنه تذكر حينها أيام طفولته الغابرة ثم شعر بتصالح غريب مع هذا الشخص الذي في الصور، هذا الشخص الذي لم يعد موجودًا ولن يمكنه العودة أبدًا.
ذلك الفتور الأخلاقي الذي ضرب كونديرا في تلك اللحظات هو ما يقول عنه كونديرا نفسه بأنه يجعل كل شيء مسموحًا به سلفًا، وأن خطايا الإنسان كلها مغفورة قبل أن يرتكبها أصلًا. حيث إن العالم مؤسس على فكرة انعدام العود، وأن كل شيء يحدث داخل العالم لمرة واحدة فقط ولا يتكرر، فكيف يمكننا أن ندين خطأً لا يمكن تكراره؟
تلك المسألة تحديدًا تعد هي الفكرة المحورية في فلسفة كونديرا التي عبر عنها في مختلف أعماله.
ففي روايته كائن لا تُحتمل خفته يعود كونديرا ليتحدث بعمق عن تلك القضية من خلال طرحه لنفس الفكرة ولكن من الاتجاه المعاكس، أي أنه بما أن الإنسان لا يعيش سوى مرة واحدة، ويختبر المواقف الحياتية لمرة واحدة، ويضطر للاختيار بين اختيارات متعددة تتوقف عليها مصير حياته مرة واحدة، فكيف يمكن أن يكون مسؤولًا مسؤولية حقيقية عن تلك القرارات التي حددت مصيره؟
نحن نوجد فجأة في الحياة، ونعيشها كلها دفعة واحدة، كومضة برق، كعمود دخان يظهر قليلًا ثم يضمحل، دون نموذج سابق يمكننا الاقتياد به، ودون فرصة لإعادة الكرَّة وتصحيح أخطائنا. فكيف لنا أن نعتبر أنفسنا مسؤولين عن حياتنا، وعن مصائرنا، ألا يعد ذلك ظلمًا ما بعده ظلم؟ أو أننا نحمل أنفسنا فوق ما نحتمل؟
هكذا يقول كونديرا.
ثم يعود كونديرا ليوضح حقيقة العالم الذي سوف نجد أنفسنا بصدده إذا سلمنا بذلك الافتراض. عالمٌ هزليٌّ لا مكان فيه لشيء حقيقي، كل ما يحدث فيه عبثي وعرضي ويجب ألا يبعث فينا أكثر من السخرية والضحك: «لم يعد ثمة سوى مقاومة وحيدة ممكنة: هي ألا نأخذه على محمل الجد».
بيد أن تلك النهاية لما تصوره كونديرا، وعلى عكس ما تظهر، لا تضمن للإنسان الراحة والهدوء وصفاء البال. ذلك التحرر من أعباء اتخاذ القرار والتسليم بحقيقة سير العالم العشوائية التي تحول بين الإنسان وبين أي مسؤوليات أخلاقية يفرضها عليه ضميره أو حدسه، وتحرره منها، لا تلبث إلا أن تزيد من يأس الإنسان ومعاناته على الأرض، فيعود كونديرا ليعبر عن ذلك من خلال رثائه لحال الإنسان في تلك الوضعية التي يجد نفسه فيها غير قادر على أن يأخذ أيًّا مما يدور في العالم على محمل الجد. وأن الحياة كلها أصبحت لا تعد أكثر من مزحة ثقيلة الدم.
لأننا لا نملك إلا الحاضر
ربما أكثر ما دفعني لكتابة تلك الكلمات هو ذلك التباين الشديد بين ما ذهب إليه نجيب محفوظ مقارنة بميلان كونديرا، حيث إن ذلك التضاد لا يقوم إلا بإبراز المعاني وتحديدها بشكل أكثر دقة، تلك القاعدة اللغوية العربية البسيطة.
هكذا اختتم نجيب روايته ملحمة الحرافيش، التي تعد من أهم رواياته ومن أكثرها ثراءً بخلاصات أفكاره وفلسفاته، وأهمها فكرته الرئيسية بخصوص مسؤولية الإنسان عن قراراته وعن مصائر حياته، شقائها وهنائها.
كما لقبها نجيب، الحرافيش ملحمة طويلة تدور أحداثها على مدى العديد والعديد من الأجيال المتعاقبة في إطار الصراع الأبدي بين الخير والشر. تبدأ الرواية بالشخصية الأسطورية الأولى، المثل والمثال، الذي سيظل حتى النهاية هو ما يمثل النموذج الذي يحتذى به، والذي سيظل العالم يشهد على نبله ويتباكى على أيامه التي تأبى أن تعود.
وتدور أحداث الرواية في إطار المحاولة لاستعادة ذلك النموذج المثالي الذي عرفوه من قبل، حيث يتحقق العدل ويتقرر السلام ويعيش الناس مظللين بالخير والهناء. بيد أن كل المحاولات دائمًا ما كانت تبوء بالفشل، دائمًا ما كان يسقط الإنسان في هاوية الخطأ نتيجة لاتباعه أهواء نفسه، لاستسلامه لخزي الماضي الذي لا يعود ولطموحات المستقبل التي لا نملك منها سوى آمال. فينسى الإنسان حاضره ويضل طريقه ويضيع.
وعلى عكس كونديرا، الذي تتسم رواياته بطابع الأحلام والتخيلات وقصصه التي تنطلق من افتراضات، فإن نجيب محفوظ يعتمد بشكل أساسي على الواقعية الاجتماعية، فبعد أن بدأ مشواره الأدبي بمجموعة روايات تاريخية لم تصعد به إلى تلك المكانة التي نالها لاحقًا، اتجه إلى مشروعه الأساسي في صناعة روايات من متن المجتمع المصري وحكاوي الحارات الشعبية، فذهبت به إلى أن أصبح من أهم رواد المدرسة الواقعية في الأدب عالميًّا.
وبطبيعة الحال، يتسم سرد المدرسة الواقعية بالانغماس في الحياة اليومية للإنسان بشكل أساسي، تلك الحياة التي تعج بالكثير من الاختيارات والتي تتطلب اتخاذ قرارات عديدة شديدة الصغر والتي يبدو أنها ليست ذات أهمية، أو تسقط عادة من حسابات الإنسان ولا يلتفت إليها بكثير من الاهتمام لكثرة ما يقوم بها الإنسان في يومه، فتنتهي إلى أن تصبح أشبه بالقرارات الآلية التي يقوم بها الإنسان بلا وعي.
ولكن الأمر في حقيقته أشبه بلوحة فسيفسائية كبيرة، تتكون أجزاؤها من قطع شديدة الصغر تبدو بلا معنى إذا بقي كلٌّ منها على حدة، لكن ما أن تجمعت تكوِّن اللوحة الكبيرة. والحال كما هو في حياة الإنسان.
هكذا يخبرنا نجيب، أن الإنسان برغم ما تتسم به حياته بالعشوائية والعبثية، والتي لا ينكرها نجيب أبدًا وهو جدير بالذكر، وكثيرًا ما نالت الحياة من ضربات نجيب الساخرة في رواياته المختلفة، ولكن على الرغم من ذلك لا يعتبر نجيب أن ذلك مبرر لأن نستسلم لتيارت الحياة ونعتبر أنفسنا مغلوبين على أمورنا، وأننا لا نمتلك القدرة الحقيقية على تغيير مصائر حيواتنا. بل يؤكد نجيب مرارًا أن مصائرنا ما هي إلا نتيجة اختياراتنا وقراراتنا اليومية.
ويظهر هذا جليًا في النهايات التي ارتضاها نجيب لرواياته، ففي ختام ملحمة الحرافيش، تلك الرواية الملحمية التي تعج بالصراعات والنزاعات بين الخير والشر في إطار حياة الحارة الشعبية المصرية، تنتهي الرواية بانتصار الخير الذي أرجع نجيب سببه للانتصار عل النفس وعلى أهوائها في المقام الأول، والذي وصفه نجيب بأن هذا هو أعظم انتصار يحققه الإنسان.
وختامًا، وبعد أن اتضحت الصورة كاملة لرؤية كلا الأديبين الكبيريين، يبدو لنا أن الأمر لا يمكن حسمه بتبني رؤية على حساب الأخرى، فكلا الرؤيتين تحملان جانبًا كبيرًا من الوجاهة والصدق. فيبقى الإنسان حائرًا، ويبقى التساؤل قائمًا. هل يستحق الإنسان مصيره؟