بين قطب ونيتشه
إن المعايش لمُفَكِر، الشاعر بمكباداته، النابض قلبه بهمومه، المتقاطع مع أنين قلبه، يختلف كليًا عن القارئ له؛ والفارق بين النمطين هو الفارق بين الإنسان وجثته؛ فالمتأمل لا يجد اختلافًا كبيرًا بين ذات الحي وذاته الميتة، فلم ينقص من هذا الإنسان الحي منذ لحظات شيئًا من أعضائه. وبرغم من عدم إدراك الإنسان حقيقة السر وراء استحالة الإنسان من الحياة إلى الموت إلا أن كل البشر لا يختلفون على البون بين الحياة والموت، وهذا ما أحاول بيانه بين مجرد القراءة لمُفَكِر ومكابدته الحية.
وأحسب – إلى حد بعيد أن علاقتي بكل من سيد قطب وفريديرك نيتشه – هي من هذا النوع من المكابدة لا مجرد القراءة «المعلوماتية» الباردة، وهذا بدوره ما جعلني أرى المشترك الكامن الجلي المتخفي تحت عباءة سوداء كثيفة من التباين الزمني والمكاني بينها؛ فالأول قد نشأ في بيئة شرقية مسلمة أما الآخر فقد نشأ في بيئة علمانية غربية ملحدة.
وإذا ما قرر القارئ تجاوز هذا النمط التفسيري محاولاً الولوج لبُعد أعمق، فسيعميه إدراك القلق الإنساني في زمن ملتبس اختلاف الديانة بين سيد قطب – برغم اللغط المُثَار حوله – المسلم ونيتشه المُلِحد، فلن يستطيع تلمس ذلك بسبب التلاقي الروحي الكبير بين كليهما وإن اختلفت بهما السبل في النهايات.
في محاضرة للدكتور محمد صفار متحدثًا عن قطب قال إنه قد لازمه ثلاث متناقضات رئيسية ألحت عليه أيما إلحاح؛ تمثلت الأولى في حب عميق للدين مع غضب شديد من صورته في بيئته وقتها والتي تجلت في التبرك بالمجاذيب لدرجة التبرك بالماء الذي يغتسلون فيه بما فيه من وسخ. أما الثاني، فهو رؤيته لحالة المزارعين المأجورين المتردية والتي رأى كثيرًا من آثارها مثل أكلهم بعضا من الخضروات بعد غليها في الماء والملح فقط، وكان هذا هو زادهم الوحيد تقريبًا.
في المقابل يجد نفسه ابنًا لإحدى عائلات الطبقة فوق المتوسطة (قبل التقسيم الحاد للطبقات الذي طرأ بعد ما يقال عنه تاريخيًا ثورة 1952 وتولي جمال عبد الناصر بعد الإطاحة بمحمد نجيب سدة الحكم)، ويرى قدرا من الاستهتار من والده في التعامل مع المال مما يجد في ذاته حالة من عدم القدرة على قبول هذا الوضع والتألم منه وكأنه أحد أسباب فقر الفقراء بانتمائه لعائلة ثرية. وفي الوقت ذاته لا يستطيع إلا تقدير تلك النعمة التي كانت سببًا في انتقاله للدارسة في القاهرة.
أما الثالثة، فتجلت في الحالة الوجدانية في تفاعله مع القرآن صغيرًا والتي قد انسحبت بعد نضوجه، فوقف متسائلاً أهم قرآنان: قرآن الصبا وقرآن الشباب؟ واتساقًا مع حاله المتشظي بسبب التنازع بين متناقضات منشأهما الرئيسي السؤال الجواني: هل هناك معنى متجاوز للحياة أم أنها بلا معني ولا غاية؟ ولقد قَبِل قطب تلك الحالة وسار في السبل مكابدًا في محاولة إنسانية فذة وفريدة للالتئام الجواني الحقيقي الذي تطلب منه تحمل مسئولية تلكم الأسئلة وجعلها محور سعيه في الحياة في محاولة تفقد البيئات والأعمال المختلفة المعينة على التئام تلك الذات المتشظية داخله.
ومثله كان نيتشه، فقد أحس في أعماقه بتناقضات الواقع الذي عاش فيه، ولقد أدرك أن التفاؤل المروج في طيات النموذج الحداثي يخفي في أثنائه التعاسة للبشرية؛ إذ إن التقدم التقني والاستتار وراء دعاوى مثل تحقيق السعادة والرفاهية للإنسان ليست إلا قفازا يخفي تحته مخالب البؤس والشقاء لإنسان العصر الحديث الفاقد لذاته والمتغافل عما يجول في نفسه مسلوب الإرادة حيال ما يُقَدَم له من فقاعات براقة.
وكان لهذا الزمان أثره في نيتشه، فقد حاول جاهدًا لملمة شتات نفسه، وشحذ شظايا ذاته بعد هذا الإدراك العميق للواقع القبيح المستتر بوهم من الدعاوى كرفاهية الإنسان وتقدمه وما شابهما.
وكان أثر سعيه الصادق إلى حد بعيد الابتعاد عن كثير من صور النجاح المعهودة في ذلك الوقت؛ فبرغم سعيه إلى تقلد بعض المناصب الجامعية للعمل كأستاذ للفلسفة إلا أن تلك المحاولات باءت بالفشل، والسبب في ظني صدقه الذي نضح على ذاته البرانية، فأضحت مرآة لشظايا ذاته الجوانية الماقتة لصور المعاني من نجاح وفشل، ومن نعيم وشقاء وفقا للتعريف الضمني لتلك المعاني وتجسيدها في صور بعينها؛ فلا مانص لفيلسوف الناجح سوى الجامعة وحلقات الدرس الأكاديمية وغير ذلك من صور مما لم يستطع نيتشه تحقيقه على أثر مكابداته التي أفضت إلى تحقق التشظي – في رأيي – وإحكامه حتى أضحت ذاته تجسيدًا حيًا لتلك الحالة، وصورة نابضة لمضامينها.
وحالة التشظي في النموذج القطبي أفضت إلى أسئلة وسبل للسعي كما قلنا؛ فيتضح ذلك في كتاباته كما في «العدالة الاجتماعية في الإسلام» الذي يفشي ضمنًا بإلحاح سؤال بين علاقة الغني والفقير وهو سؤال ضمني عن قدر الله في عباده فمنهم من يقدر له الغنى ومنهم من يقدر عليه الفقر، وقد يتجلى هذا القدر في صورة غبن الغني للفقير ليزداد فقرًا مما يربك المعنى ويجعل الإيمان بقضية القدر بحاجة إلى مكابدة شاقة خاصة إذا ما طغت صورة الطغيان على الفقراء لتضحى الصورة الغالبة في وقت ما لتفسير فقر الفقراء وغنى الأغنياء – كما كان حال العصر الذي عاش فيه قطب وعايشه.
وفي كتابه «التصوير الفني في القرآن الكريم» نجد أن قطب يتعامل مع الوحي في حالة تنزع القداسة عنه – بتعبير د.محمد صفار في محاضرته عن الكتاب ذاته – في محاولة عسرة على النفس البشرية لاستخلاص الجمال القرآني منفردًا آملاً في استعادة الروح الذائبة مع كلام الله التي فقدها في فترة الشباب.
أما في النموذج النيتشوي فقد أفضت حالته إلى العزلة والانتقاد الشديد لكل ما هو مستقر وثابت دون مواربة، فلقد عرّى «ظلال الإله» المستترة في فلسفة الحداثة المدعية نبذها للدين، فالحديث عن التقدم والإنسانية والعدالة…إلخ تمثل مطلقات شديدة الصلة بما تم الإدعاء بتهميشه ممثلاً في السلطة الكنيسة.
وفي كتابه الأهم «هكذا تكلم زرادشت» تحدث عن الإنسان الأعلى أو السوبرمان الذي يحيا وفقًا لقيمه هو، وما يراه صوابًا وخطأ لا يستمده إلا من ذاته وليس من تقاليد مسيحية بالية أو قيم حداثية واهية، فلكي يعيش الإنسان كما يريد عليه استنطاق قيمه النابعة من ذاته وتصديقها، وفي كتابه «إرادة القوة» أوضح أن البشر ينقسمون لسادة وعبيد، فالسادة هم قلة وهم من يقر الأخلاق ويفرض إرادته، أما العبيد فهم متبعو القيم الخارجة عن ذواتهم وهو في نظره أشباه بشر لا قيمة لهم وعليهم الانصياع لإرادة القوة المتمثلة في هؤلاء الذين لديهم الجرأة في فرض إرادتهم على الحياة.
ونجد عند قطب النزوح التدريجي البطيء الأصيل نحو التئام النفس وشحذ شظاياها في كل متكامل مؤمنًا حقًا بغائية الوجود ومصدقًا بالوحي المهيمن على الحياة والذي كان أهم عوامل موته داخل نفسه تشريحه بالدرس والتفسير، فالوحي عند قطب ناطق بذاته مخاطب في كله النفس الإنسانية، وأن أي محاولة لتفكيكه بغية الدراسة تعني موته، وهو ما حدث بعد عصر النبوة والخلفاء الراشدين من خلال الدرس الكلامي البارد وإقحام المنطق ليهيمن ضمنًا على النص الإلهي.
وهذا الالئتام لنفس قطب هو فعل مكابدة شاقة في التعامل مع الأسئلة الجوانية المنازعة لنفسه بين نمطي التوحيد وما سواه وهما لا يجتمعان في نفس إنسان جاد أبدًا اللهم إلا إن كانت هذه هي نقطة انطلاقه في محاولة للعروج إلى الله.
وفي مكابدة قطب دليل خفي على فاعلية الوحي في جمع شتات النفس المتشظية في كل زمان ومكان باختلاف الأسئلة؛ فرحلة قطب أشبه ببرادة الحديد المتناثرة تتجاذبها متاهات الحياة في اتجاهات شتى وتبعثرها الأهواء هنا وهناك دون غاية أو هدف وإرادته تأبى ذلك فلتلمها وتسير بها نحو الغيب ممثلاً في مكابدة التصديق والسعي للهداية الحقة التي تشمل ذرات الذات الإنسانية كلها إلى أن اقترب للمجال المغناطيسي المبتغي ممثلاً في معايشة الوحي والتحقق به.
فعمل هذا المجال المغناطيسي على إعادة تشكل تلك الذات المتشظية وجعل من تسكين تلك الجزئيات في مواضعها الصحيحة رغمًا حتى عن إرادة صاحبها حقيقة جلية داخلها. وقد تجلى هذا في عمل قطب العمدة «في ظلال القرآن» وقبله «خصائص التصور الإسلامي» و«مقومات التصور الإسلامي»، فنجده يكاد يقف عن الآيات، يريد ألا ينطق من جلالها، ويظهر ذلك في كثير من مواضع عناوين الكتب المذكورة، فنجد صفحة أو اثنين لا يقحم فيهما كلمة من كلامه، وكأن ذاته تقف حتى لا تحترق من جلال ما ترى في الآيات ومن فرط نورها فهي ناطقة بذاتها.
وفي المقابل نجد أن نيتشه كلما اتسق مع ذاته دون معين الوحي الممثل للمجال المغناطيسي، تشظت نفسه وتفككت، فكان في نقده للنمط الحداثي الغربي كمحارب الميدوسا، ما إن قطع لها رأسا حتى تفتق من الرأس اثنان ومن الاثنين أربعة وهلم جر. ومع استمرار تلك الحالة تفككت النفس وتشظت إلى جزيات صغيرة استحال معها تجميع زمامها، وهذا – حسب رؤيتي – حال كل إنسان صادق في التعامل مع الحياة دون الوحي إن كان جادًا.
يروى أن نيتشه رأى رجلاُ يضرب حصانًا من شرفته، فهرع لإنقاذ الحصان ولكن جسده أبى التحرك ليصل إلى بغيته، فتوقف دون إرادة منه في الشارع، وهذا دليل على صدق الحالة المتشظية التي آل إليها نيتشه، فنفسه المفككة أضحت لها اختيارات رغمًا عن إرادته هو، وكأن شخوصًا كثيرة متناحرة باتت تسكن ذاته تتجاذبها في اتجاهات شتى متنازعة. والجنون في حالته نيتشه هو القرار الوحيد الذي لا مفر منه، وأحسب أنه اختيار واع لعدم قدرته على تحمل ما يحدث له داخل نفسه، وكأنه يعلن الاستسلام لتلك الذوات المتناحرة للتحكم في آخر بقعة صغيرة تقف عليها إرادته بعد انكماش نفوذها داخل ذاته.
وصدق السعي باختلاف المآلات يولد كُلاَ مُرَكبًا في حركة الذات الساعية؛ وهذا ما نتلمسه في مجموع إنتاج كل من قطب ونيتشه؛ فالخطاب المُرَكَب المتسق الذي تتلمس داخل بنيته ذات المُفَكِر لا كلماته فحسب هو النتاج الطبيعي لحالة المكابدة تلك. وعندما أثير من لغط حول نصوص كليهما دليل على تركيب نصوصهما واتساقها؛ فالنص المُرَكَب يمكن اختزاله لاستخلاص معنى عضوي جزئي خارجًا من رحمه، ولكنه لا يعبر عن النص في كله وتركيبه – كما فعل قطب نفسه مع القرآن في استخلاص عناصر الجمال فيه مجردة في كتابه «التصوير الفني في القرآن الكريم»، كما أنه يمكن تفكيكه ليعاد تركيبه في نسق آخر معادِ لمضامنيه وإن كان مستخدمًا لجزئياته نفسها.
وأحسب أن هذا التعامل مع نصوص كل من قطب ونيتشه قد تم في أغلبه على هذه الطريقة؛ فنجد أن الخطاب السلفي الجهادي قد استعان بأفكار قطب كما استعانت حركة حركة فتح الله كولن بكتاباته، ولكن كلتا الحركتين قد صفت المضامين المُرَكَبَة باستخدام الجزئيات بعد ذبح كيانه الحي النابض، وهذا أيضًا حدث مع نيتشه، فالقول إن كتابات نيتشه هي إنجيل النازية، وما هتلر إلا تجسيد لسوبرمان نيتشه ليس إلا نحرًا للتركيب النصي لنيتشه واستئصال أعضائه الجزئية بعد موته.
ولهذا أجد أن انتقال الفكر في كله من مُفَكِر لآخر بحاجة إلى فهم المضامين المرتكز عليها المفكر والسياق النفسي والاجتماعي والسياسي له، بل وتقاطع هموم المتلقي لهموم الذات المنقول عنها، وهذا يتطلب حالة جادة ومكابدة حارة لانتقال أفكار مفكر من حيزه في كله دون ذبحه لحيز زماني ومكاني آخر وفقًا لتحدياته وأسئلته. ويمكن القول إن خير من مثل قطب لا السلفية الجهادية ولكن بيجوفيتش والمسيري والأنصاري وغيرهم، وخير من مثل نيتشه مدرسة فرانكفورت لا نازية هتلر.
كانت هذه أولى السبحات في نموذجي قطب ونيتشه مما كان لهما أثر جواني ممتد في نفسي آملاً استئناف هذه السبحة محاولاً استنطاق علاقات أكثر تفصيلاً في مكابدة كتابية أخرى للغوص في ذات كليهما نزولاً لمستوى أعمق في الرؤية وأدق في التفاصيل.
والله أعلم..