بين جبرون وحلاق: محاولة في التفسير الاجتماعي
مما يلفت الانتباه هو النقاش الواسع الذي حظي به عمل وائل حلاق «الدولة المستحيلة» في العالم العربي، وهو نقاش مستحق لكتاب مثير للاهتمام، مقابل محدودية هذا النقاش عند التطرق إلى أعمال أخرى تتقاطع في موضوعها مع موضوع كتاب حلاق، وهي أعمال لا تقل أهمية عنه إن لم تتجاوزه،وأحيل بشكل خاص إلى عمل أمحمد جبرون «مفهوم الدولة الإسلامية»، والذي أعتقد بأفضليته لجهة المبنى والمعالجة التاريخية.
إن تفسير الاستقبال المتباين للعملين، كما أعتقد، لا يتعلق بشكل أساسي بمحتوى العملين، بقدر ما يتعلق بالسياق السياسي للجمهور لحظة استقباله لهما. لهذا سأهتم هنا بتقديم بعض الملاحظات حول اللحظة السياسية للجمهور المتلقي وصلته ابالاستراتيجيات والإجابات المقترحة في كل من الكتابين.
بتعبير آخر، سأقدم بعض الملاحظات، حول لماذا حظي كتاب حلاق بمثل هذا السجال المستفيض على عكس الأعمال الأخرى بما فيها عمل جبرون، دون التطرق إلى مناقشة ومفاضلة محتوى العملين، إلا بما يتعلق بسياق الاستقبال.
الدولة المستحيلة
يمتاز عمل حلاق بميزة لطالما تمتعت بها الأدبيات الماركسية تحديدًا، وهي القدرة على الجمع بين أطروحتين تنتميان إلى سويتين تحليليتين متباينتين في مبنى نظري واحد، أطروحة تفسيرية/وصفية وأخرى معيارية/نقدية، وتقديمهما كأنهما طرح واحد كلي مترابط بالضرورة.
هكذا يقدم حلاق أطروحة تفسيرية تتعلق بالتمايز النوعي بين الدولة الحديثة ونظام الحكم الإسلامي التاريخي، وأخرى ناقدة للحداثة والدولة الحديثة من زاوية المعضلة الأخلاقية التي تواجهها الأخيرة. لكن حلاق يدمج الأطروحتين في مبنى واحد، جاعلاً من التمايز بين نظام الحكم الإسلامي والدولة الحديثة هو الأساس للمعيار الأخلاقي المُستخدم لنقد الدولة الحديثة.
أعتقد أن هذين الطرحين يمكن فصلهما، بحيث أن القبول بأحدهما لا يترتب عليه قبول الآخر بالضرورة، أن نقبل بالتمايز النوعي بين الدولة الحديثة ونظام الحكم الإسلامي لا يعني أن نقبل بالضرورة الامتياز الأخلاقي (القيمي) لنظام الحكم الإسلامي تجاه الدولة الحديثة، نكتفي بالتمييز دون المفاضلة. بالطبع سيعترض حلاق على هذا الفصل، كونه من التباسات الحداثة التي تفصل بين الحقيقة والقيمة، بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، ولكن لنترك هذه النقطة جانبًا، طالما أن النقاش لا يدور حول عمل حلاق تخصيصًا.
باختصار تدور أطروحة حلاق حول التمايز الأساسي بين الدولة الحديثة ونظام الحكم الإسلامي بالاستناد إلى «السيادة» كمفهوم مركزي. تحتكر الدولة الحديثة السيادة، بينما تعود السيادة لله في نظام الحكم الإسلامي وتتحقق عمليًا من خلال سيادة الشريعة المندمجة في نظام المعايير الاجتماعي الذي يقوم عليه الفقهاء والعلماء وهم طبقة منغرسة في البنية الاجتماعية وغير منفصلة عنها.
وانطلاقًا من هذا الأساس يقدم حلاق مرافعة نقدية للمعضلة الأخلاقية التي تواجهها الدولة الحديثة، العاجزة عن تأسيس الأخلاقي مما يسبب التناقضات التي تعانيها هذه الدولة الحديثة من فصل متعثر للسلطات وتغول الدولة على مجتمعها إلى تذرير الأفراد أمامها، في مقابل الامتياز الأخلاقي لنظام الحكم الإسلامي والذي يحقق الوحدة بين الأخلاقي والقانوني، بحيث يكون نظام الحكم خاضعًا للاعتبارات الأخلاقية المنغرسة اجتماعيًا. يؤمثل حلاق نظام الحكم الإسلامي التاريخي، فليس هو مثال متعال على التاريخ، بل إن التاريخ نفسه قد رُفع إلى مستوى المثال.
تبدو وصفة حلاق مناسبة تمامًا للسياق السياسي الحالي الذي تجد الحركة الإسلامية، وجمهورها والمتعاطفون معها، نفسها متورطة فيه. من ناحية هناك دولة فاسدة وطاغية ومتوحشة تغولت على المجتمع والأفراد، وهي مسؤولة عما حاق بمجتمعها من هزائم وانهيارات وفشل التنمية والتحديث. كما أنها تمارس القمع والإرهاب، اللذان وصلا مؤخرًا إلى مستويات مهولة في مواجهة الاحتجاجات والانتفاضات. وبرغم هذا أو بسببه، فإن هذه الدولة تدعي الحداثة والتنوير وأنها أكثر تقدمًا من مجتمعها الذي تحكمه وتشرعن حكمها على أساس هذا الادعاء.
على الجهة الأخرى تقف الحركة الإسلامية عاجزة عن مواجهة الدولة. فبمعزل عن التنوعات الإيديولوجية والاستراتيجيات المتباينة التي تبنتها حركات الإسلام السياسي، فإنها هُزمت تمامًا أمام الدولة أو تورطت في حروب أهلية وطائفية. فقد سبق وحاولت بعض تيارات الإسلام السياسي أن تتلاءم مع ما اعتقدته متطلبات الدولة ومعاييرها (لنتجاوز جدية هذه المحاولات واتساقها)، وقد كانت الاشتراكية يومًا والديمقراطية يومًا آخر وحقوق الإنسان واقتصاد السوق في يوم ثالث، ولكنها وبرغم محاولتها الانطلاق من قبول واقعة الدولة والسياسة الحديثة، فإنها وجدت طريقهما موصدة أمامها.
الخيار الآخر تمثل بمواجهة الدولة وتبني الخيار الثوري (المسلح) وإيديولوجية إسلامية راديكالية لمواجهتها. لفترة قصيرة اتشحت هذه الايديولوجيات الإسلامية الثورية ببلاغة يسارية، ولكنها انتهت لاحقًا إلى إيديولوجيا تقوم على الحاكمية والتي ليست إلا نسخة مقلوبة عن الدولة نفسها. حتى هذا الإسلام الثوري مُني بالهزيمة في كل مكان واجه فيه الدولة. بل وبرغم انتصاره في أماكن متفرقة، كما في إيران أو السودان، فإنه انتهى إلى إعادة بناء دولة مستبدة لا تختلف كثيرًا عما يفترض أنه خرج لمحاربته.
تبدو وصفة حلاق بمثابة الترياق السحري لهذه الحالة، فهي قدمت لجمهور الإسلام السياسي الوصفة السحرية للمعضلة التي يواجهها. من ناحية قدم حلاق نقدًا شديد الجذرية للدولة الحديثة، ومن ناحية أخرى قدم تفسيرًا للهزيمة التي واجهها الإسلام السياسي دون المساس بالمثال الإسلامي نفسه، بل وبالتشديد على تفوقه ومثاليته، تفسير يريح النفس المؤمنة بهذا المثال ويطمئنها. فالحركة الإسلامية هُزمت لأنها تورطت في عالم الدولة الحديثة نفسه، وهو عالم متناقض مبدئيًا وبشكل جوهري مع فكرة نظام الحكم الإسلامي. احتفظ الحكم الإسلامي هنا بمرجعيته وبوصفه معيارًا ومثالًا لنقد الدولة الحديثة. حلاق قدم قراءة تلبي الحاجات التالية لجمهوره:
- مقاربة نقدية جذرية للدولة الحديثة.
- تفسير لهزيمة الإسلام السياسي، تجد أصلها في قبول الإسلام السياسي لفكرة الدولة الحديثة.
- دون أن يمس هذا التفسير والنقد بالمثال نفسه وهو نظام الحكم الإسلامي، بل عبر التشديد على قيمته ومثاليته.
والخلاصة أن السعي لتحقيق هذا المثال مستحيل في إطار الدولة الحديثة، فالنضال من داخل بنية السياسة والدولة الحديثة لن يوصل لما يرغبه المرء ويتمناه، طالما أن التناقض مع المثال الإسلامي هو تناقض جوهري لا يمكن حله. المكان الأمثل لمناهضة الدولة الحديثة مع الالتزام بالمثال في الوقت ذاته يقبع خارج السياسة نفسها، مما يسمح للمرء بالتحرر من عبئها المباشر.
لا أعتقد أن هناك وصفة أكثر مثالية لتيار سياسي أنهكته الهزائم المتلاحقة من وصفة حلاق. هذه الوصفة ليست حصرية على الإسلام السياسي، فهناك مثيل لها في تراث الحركات الأناركية والمعارضة اليسارية الجذرية وغير البرلمانية، والتي اعتبرت أن أية مشاركة في النظام السياسي الرأسمالي، بما فيه البرلمان، ستؤدي إلى التورط في هذا النظام ومن ثم قبوله أو التلوث بعيوبه.
قدمت هذه الحركات نقدًا جذريًا للنظام السياسي لدرجة أن الخيار الوحيد الذي أصبح متاحًا لها هو البقاء خارجه، لكن يجب الإضافة أيضًا أن هذه الحركات كانت إما حركات هامشية أو حركات منيت بالهزيمة. في النهاية لدينا وصفة تقدم نقدًا جذريًا لدرجة أنه يستحيل العمل الفعلي معها، حلاق خاطب التيه والضياع الإسلامي في لحظتنا الراهنة وقدم له تأصيلًا نظريًا.
مفهوم الدولة الإسلامية
في المقابل قدم جبرون وصفة مغايرة بالكامل، تنهل مباشرة من الإطار المقاصدي لفهم الشريعة، وهي مقاربة يعترض عليها حلاق بشدة ويعتبرها وسيلة يستخدمها مفكرون إسلاميون حديثون لإدخال قيم ليبرالية إلى داخل الفكر الإسلامي [1]. يمكن تلخيص الطرح الأساسي لجبرون عبر العلاقة بين المتعالي والمتعين في التاريخ، حيث يتمثل المتعالي بالمقاصد الكلية للشريعة كالبيعة والعدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما المتعين فهو أنظمة الحكم الإسلامية كما تجسدت في التاريخ، باعتبارها استلهامًا بشريًا وسعيًا لتحقيق المقاصد الكلية ضمن الشروط التاريخية التي حكمت هذه التجارب. وهي شروط ليست جيدة بالضرورة، بل ربما تعكس انحدار تاريخي كما حصل مع إمارة التغلب. حيث سعى الفقهاء وقتها إلى ضبط سلطة أمراء التغلب قدر الإمكان من جهة ودرء خطر الحرب الأهلية (الفتنة) من جهة أخرى. سعى الفقهاء إلى حل المسائل العملية التي طرحت عليهم في سياقاتهم وأزمنتهم وتمثل القيم الكلية للشريعة قدر الإمكان بما تسمح به شروطهم والفهم التاريخي للقيم الكلية في تلك اللحظة.
النتيجة أن ما يجعل من النظام إسلامي هو تمثله لهذه القيم الكلية، وهي عملية مفتوحة على التاريخ ولا تنتهي. بالمقابل فإن أنظمة الحكم الإسلامية التاريخية هي تعيينات تاريخية للمثال المتعالي، وليست هي نفسها مثال، على العكس تمامًا من فكرة حلاق. وعليه فإن الحداثة ليست مناقضة للمثال الإسلامي ممثلًا بالقيم الكلية ومقاصد الشرع، وإن بدت الحداثة مناقضة لشيء فهي مناقضة للمتعين التاريخي، الأنظمة السياسية الإسلامية التاريخية وأطروحات الفقهاء التي رافقتها، والتي رُفعت إلى مرتبة المثال.
فالحداثة، وهنا تحيل إلى الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والحرية أي إلى التصور الإيجابي للحداثة، ليس مناقضة أو مضادة للقيم الكلية للإسلامي (المقاصد)، بل هي إسهام بشري في تحقيق هذا الكلي، وهو كلي لا يقتصر على المسلمين، وبالتالي يمكن الاستفادة منه في مسعى المسلمين اليوم لتحقيق تجربتهم في مقاربة القيم الكلية لمقاصد الشريعة، كما فعل المسلمون الأوائل دون حرج، هكذا يكون المجال مفتوحًا للمصالحة بين الحداثة، والدولة الحديثة خصوصًا، والإسلام.
سياق جبرون، وهو السياق المغاربي، يختلف جذريًا على السياق المشرقي الذي يتم فيه استدعاء حلاق. فالدولة المغربية تتمتع بشرعية تاريخية وامتداد لم ينقطع ومتداخل مع شرعية دينية يحوزها الملك، على عكس الدول المشرقية التي نشأت إما عبر التدخل الاستعماري المباشر أو عبر انقلاب جذري في بنية الدولة أسس لقطيعة تامة مع النظام السابق كما في مصر مثلاً.
لم يواجَه الإسلاميون المغاربة بقمع مشابه لما حصل لأقرانهم في المشرق، وهم يشكلون الآن جزء من المجال السياسي،فيؤلفون الحكومة ويتعاونون مع الملك ويواجهون التحديات العملية لإدارة الدولة. لا يعني هذا أن الوضع المغربي وضع مثالي وقد حلت فيه كل المشكلات المتعلقة بالديمقراطية والتنمية والحكم الرشيد، لكن العملية السياسية هناك ليست مختزلة في حرب تدور رحاها بين الدولة ومجتمعها وضمنًا التيار الإسلامي مثلما هو الحال في المشرق، حيث لا مكان للتحديات والتساؤلات التي تطرحها استراتيجية جبرون. تحتاج المقاربة المقاصدية إلى لحظة هدوء وأفق مفتوح على الأمل بتحقيق مكان في عالم السياسة والدولة، بحيث يتم تطويع الأخيرة لحد ما إلى شروط الشرعية الشعبية، وهو ما يبدو ممتنعًا على السياق المشرقي، والذي يُضاف إلى تعقيده المسألة الطائفية المتشابكة مع سياسات الإسلام السياسي.
جمهور حلاق هو الجمهور الذي أُخرج عنوة من السياسة بعد فشل جميع محاولاته للدخول إليها، دون أن يحوز القدرة على فرض نفسه أو حتى حماية نفسه من الهجوم الذي تعرض له. حلاق قدم –كما يبدو- إجابة مغرية، إن التناقض مع السياسة الحديثة، والدولة والنظام العالمي نفسه، تناقض جوهري تمتنع المصالحة معه، دون أن يعني هذا تبني خيار المواجهة وهي لن تفضي على أية حال إلا إلى إعادة بناء مسخ الدولة تحت مسمى الإسلامية. ما يجعل الخيار المتاح، ربما، هو مغادرة السياسة نفسها إلى عوالم النقد الجذري والسؤال الأخلاقي.
جبرون، من جهة أخرى، تحدث إلى جمهور حركة سياسية نشطة وذات أفق مفتوح وفعالة في المجال السياسي وسياسات الدولة، حيث يتوجب عليها حل المسائل العملية التي تواجهها في «عالم الدولة» مستلهمة قيمها الإسلامية. اللحظة السياسية التي خاطبها جبرون هي الاستثناء أمام اللحظة التي خاطبها حلاق.
[1] محاضرة وائل حلاق في مؤتمر “قراءات في الفقه والفلسفة” أكاديمية القاسمي 8.4.2017