بين فروم وماركيز: الحب قرار أم شعور؟
آه لو كان الحب حبا، هكذا علق أحد الأزواج في مكتب ثيودور ريك مستشار العلاقات. قال الزوج هذه العبارة تعليقا على شكواه مما رآه من محاولات زوجته الدائمة للسيطرة عليه، فعلق ثيودور ريك على تعليقه كاتبا أن هذه العبارة كم هي خادعة، فبإمكاننا إطلاقها على أي شيء، مثلًا: آه لو كان العدل عدلا، آه لو كانت الحرية حرية، وهكذا. ولكن موضوع الحب له خصوصية أشد حيث أنه يمس كل فرد في حياته العامة والخاصة بل إنه يمكن أن يتعرض الشخص للأفعال المتضادة وكلها باسم الحب.
في هذا المقال سوف نتناول عملين تناولا موضوع الحب؛ أحدهما في شكل رواية وهي “الحب في زمن الكوليرا” للروائي الشهير جابريل جارسيا ماركيز، والآخر كتاب فن الحب لإريك فروم. ربما يظهر للوهلة الأولى أن المقارنة بين أديب وكتاب فكري هي مناظرة غير عادلة فلكل منطقه الخاص، ولكن هذا ليس صحيحا تماما، إذ أن الرواية كما يقول الفيلسوف والأديب ألبير كامو ليست سوى فلسفة تم تصويرها، كما أنه من السهل للقارئ أن ينفذ إلى عقل الراوي وأفكاره من خلال السرد البسيط للرواية. فالكاتب في الكتاب العادي ينقل أفكاره من عقله إلى القارئ عن طريق قولها مباشرة، أما الراوي في الرواية فإنه ينقلها عن طريق شخصيات الرواية، وهنا علينا لكي نحكم على فكر الرواية أن نحدد مسارا رئيسيا سارت فيه أحداث الرواية من حوارات وغيرها، فليست كل جملة قيلت على لسان شخص ما هي تعبير عن هذا المسار بل إنه يتحدد من جملة الحوارات والأحداث بشكل عام. والفكرة التي سنتناولها هنا هي التي وردت في ذلك التيار الأساسي للرواية في مقابل فكرة إريك فروم في كتابه.
وسنتناول العملين من خلال مقارنة نظرة كل منهما لجانب من جوانب الحب من خلال الاستشهاد بمقتطفات من كل منهما تتحدث عن نفس الموضوع.
تتناول الرواية المشهورة قصة شاب أحب فتاة ومنعته الظروف من الزواج بها فظل مرتبطا بها وجدانيا طوال عمره إلى أن مات زوجها وهما عجوزان، ثم تقابلا من جديد وفي خلال كل تلك السنين أمضى عمره مطاردا للنساء.
يقول كاتب الرواية على لسان إحدى النساء اللاتي كان يذهب إليهن فلونترينو اريثا بطل الرواية في سنوات انتظاره لعشيقته الأولى إنها قالت له “إن الحب قبل كل شيء هو موهبة طبيعية، إما أن يولد الإنسان وهو يعرفه أو أنه لن يعرفه أبدا”.
وهنا يعلق فروم على ذلك قائلا: “هذه النظرة -التي ترى أنه لا شيء أسهل من الحب– ظلت مستمرة باعتبارها الفكرة السائدة عن الحب بالرغم من الدليل الشامل على أن الأمر بالعكس. فلا يكاد يوجد أي نشاط أو أي مشروع كالحب يبدأ بآمال وتوقعات هائلة ومع هذا يفشل بشكل منتظم. ولو كانت هذه الحالة هي حالة أي نشاط آخر فسيهتم الناس بمعرفة أسباب الفشل وتعلم كيف يستطيع الإنسان أن يكون أفضل – أو أن يكفوا عن النشاط. ولما كان الكف عن النشاط مستحيلا في حالة الحب، فيبدو أنه لا يوجد سوى طريقة سديدة واحدة للتغلب على فشل الحب؛ ألا وهي بحث أسباب هذا الفشل والشروع في دراسة معنى الحب.
والخطوة الأولى التي علينا اتباعها هي أن نصبح واعين بأن الحب فن تماما كما أن الحياة فن. إذا أردنا أن نتعلم كيف نحب فعلينا أن ننطلق بالطريقة عينها التي ننطلق بها إذا أردنا أن نتعلم أي فن آخر كالموسيقى أو الرسم أو النجارة أو فن التطبيب أو الهندسة.
يمثل زواج الدكتور خوفينال وفيرمينا في الرواية حالة حب من جانب الدكتور خوفينال كما هي حالة فلونترينو، ولكن في حالة فلونترينو كانت الأم وهي أم فلونترينو مشجعة للزواج بينما كان الأب وهو والد فيرمينا داثا رافضا. ولكن في الحالتين كان الشابان يدفعهما الحب من النظرة الأولى وكانت الفتاة في موقف رد الفعل المتردد في البداية والموافق لاحقا عن إعجاب بالشخص الآخر، وكأن ما حدث بعد زواج الدكتور خوفينال كان ليحدث أيضًا إذا تمت الموافقة على العاشق الأول بطل الرواية.
يتحدث كاتب الرواية عن سنوات الخلاف الحاد بين الزوجين واصفا إياها بأن السعادة لم تبد عليهما في الأماكن العامة يوما مثلما بدت عليهما في تلك السنوات، فلقد عرفت فيرمينا داثا كيف تظهر للمجتمع بشكل مصطنع يساير ما يرغبه وسطها الاجتماعي، معلقا على ذلك بقولها “مشكلة الحياة العامة هي تعلم السيطرة على الرعب ومشكلة الحياة الزوجية هي في تعلم السيطرة على الضجر”.
وفي موضع آخر يعلق زوجها الدكتور خوفينال بقوله “مشكلة الزواج هي أنه ينتهي كل ليلة بعد ممارسة الحب ولابد للعودة إلى بنائه كل صباح قبل تناول الفطور”.
وهنا يعلق فروم على ما يسمى الحب من النظرة الأولى وعلى ضياع الحب بعد سقوط الحواجز بين المحبين قائلا:
“في الخلط بين التجربة البذيئة (للوقوع) في الحب والحالة الدائمة لأن (يكون) الإنسان في حالة حب، أو على نحو ما نقول بشكل أفضل (الوقوف) في موضوع الحب. فإذا حدث لاثنين يكونان غريبين – شأننا جميعًا – أن سمحا فجأة للحائط بينهما أن يسقط وشعرا بالقرب، شعرا بأنهما أصبحا شخصا واحدا، فإن هذه اللحظة الخاصة بالشعور بالواحدية هي من أشد التجارب في الحياة انبعاثا للبهجة والإثارة. وهذه التجربة تكون باعثة أكثر للدهشة والإعجاز بالنسبة للأشخاص المنعزلين المتوحدين الذين بلا حب. وهذه الأعجوبة الخاصة بالصميمية الفجائية غالبًا ما تكون أمرًا سهلًا إذا ما اقترنت أو صدرت بجاذبية وتحقق جنسيين. وعلى أية حال فإن هذا النمط من الحب لا يدوم بطبيعته نفسها فالشخصان يزدادان تعرفا على بعضهما وتشرع صميميتهما في فقدان طابعها الإعجازي إلى أن يقتل تطاحنهما وخيبات أملهما ووهمهما المشترك ما يتبقى من الإثارة الأولى، ومع هذا فإنهما في البداية لا يعرفان كل هذا، إنهما يعتبران في شدة الافتتان، هذه الجٌنة ببعضهما دليل على شدة حبهما، بينما لا يبرهن هذا إلا على درجة وحدتهما السابقة”.
يجري السياق العام في الرواية على تعريف الحب بأنه شعور غير مبرر عقلانيا يغمر الإنسان بالانجذاب نحو شخص آخر ونحو الحياة بالرغبة في السعادة والانتشاء. وهنا يعلق فروم بأن الحب هو قرار وفعل قبل أن يكون شعورًا، قائلا: «إن حب شخص ما ليس شعورا قويا، إنه قرار، إنه حكم، إنه وعد. إذا كان الحب شعورا فقط بين شخصين، فلن يكون هنا أساسا لوعد بأن يحبا بعضهما للأبد. فالشعور يأتي وقد يتولى. فكيف يمكنني أن أحكم بأنه سيظل إلى الأبد عندما لا يتضمن فعل حكما وقرارا؟».
«الحب أشبه بالكوليرا»، كانت هذه وجهة نظر والدة فلونترينو في الحب. أما فلونترينو فكان الحب بالنسبة له هو ما أنفق حياته كلها انتظارًا له محاولًا مطاردته، وإلى أن يناله كان الحب أيضا مخدرا ومسليا جيدا، وكما وصفه الكاتب “كان كلما وجد نفسه في خضم الكارثة أحس برغبته فى الانزواء في كنف امرأة”، فلقد أمضى بطلنا حياته كلها مطاردا للنساء بمختلف أنواعهم مسليًا نفسه بذلك إلى أن يحين موعد لقائه بربته المتوجة كما وصفها في بداية الرواية. معتبرا نفسه بذلك يعيش الحب بدون أي تعقيدات اجتماعية وبدون أي مسؤليات والتزامات شخصية حتى لو كانت نابعة من داخله، فكان ذلك الحب العابر هو الحب إلى أن يلقى حبه الكبير الذي كرس حياته من أجله، حتى لو أدى ذلك الحب العابر إلى مقتل اثنتين من عشيقاته المؤقتتات فلا داعي للتوقف عند ذلك كثيرا ما دام الحب المؤجل سيأتي في النهاية.
وعلى نفس الجانب يعلق فروم بـ”أن الحب ليس أساسا علاقة بشخص معين، إن الحب موقف اتجاه للشخصية يحدد علاقة شخص بالعالم ككل، لا نحو (موضوع) واحد للحب. فإذا أحب الشخص شخصًا آخر وحده وكان غير مكترث ببقية رفاقه فإن حبه ليس حبا بل هو تعلق تكافلي أو أنانية متسعة. ومع هذا فإن معظم الناس يؤمنون بأن الحب يكونه الموضوع ولا تكونه الملكة. فالإنسان الذي لا يرى أن الحب نشاط، قوة للنفس، فإنه يعتقد أن كل المطلوب هو إيجاد الموضوع الحق وأن كل شي بعد هذا يسير من تلقاء نفسه. ويمكن مقارنة هذا الموقف بموقف إنسان يريد أن يرسم ولكن بدلًا من تعلم الفن يزعم أن كل المطلوب هو انتظار الموضوع الحق وأنه سوف يرسم رسما جميلا عندما يجده.
إذا كنت أحب شخصا حقيقيا فإنني أحب الأشخاص جميعا، أحب العالم، أحب الحياة. إذا استطعت أن أقول لشخص آخر (إننى أحبك) فيجب أن أكون قادرا على أن أقول: (إننى أحب فيك كل شخص، أحب من خلالك العالم، أحب فيك نفسي أيضا).
فعليا لم تكن علاقات فلونترينو العابرة غير لقاءات جنسية، فعلاقته بالمرأة التي يزورها لم يكن لها هدف معلن آخر غير الجنس، وهو ما داوم الكاتب على تسميته “ممارسة الحب” وفي أحيان أخرى “الحب”. حتى أنه سمى أحد حوادث الاغتصاب لإحدى شخصيات الرواية بالحب: “ففي صباها بطحها على حين غرة فوق ملطم الأمواج رجل قوي وبارع لم تر وجهه أبدا وعراها ممزقا ثيابها ومارس معها حبًا عابرًا ومجنونا، وفيما هي ملقاة فوق الأحجار وجسدها كله مليء بالجروح تمنت لو يبقى ذلك الرجل فوقها إلى الأبد ليموت حبًا بين ذراعيها”.
كان بطل الرواية “يمارس الحب” مع الشابات العازبات والأرامل والمتزوجات والخدم والموظفات في شركته بل إن حبه قاده لأن يشتهي طفلة واقتادها فيما بعد إلى مسلخه السري كما وصفه الكاتب ليمارس معها الجنس، وهي التي أرسلها له والداها كوصي عليها في فترة دراستها في المدينة حتى أنه لم يستوقفه خبر انتحارها فيما بعد بعدما علمت بنيته في الزواج من فيرمينا داثا بعدما تعلقت هي به.
“تهدف الرغبة الجنسية إلى الاندماج – وهذه ليست بأي حال من الأحوال مجرد شهوة جسمانية؛ أي التخفيف من توتر مؤلم. غير أن الرغبة الجنسية يمكن أن تستثار بسبب القلق من أن الفرد وحده، بسبب الرغبة في أن يَقهر أو أن يُقهر، بسبب الخيلاء، بسبب الرغبة في توقيع الأذى بل حتى الدمار بقدر ما يمكن أن تستثار بسبب الحب. ويبدو أن الرغبة الجنسية يمكن أن تختلط بسهولة ويبعثها أي انفعال قوي وليس الحب إلا انفعالا من هذه الانفعالات. ولما كانت الرغبة في عقول معظم الناس مقترنة بفكرة الحب، فهم يخطئون عندما يتوصلون إلى أنهم يحبون بعضًا عندما يشتهون بعضهم جسمانيا. يمكن للحب أن يلهم الرغبة في الوحدة الجنسية وفي هذه الحالة تكون العلاقة الجسمانية ناقصة في الطمع، في الرغبة، في أن يقهر وأن يُقهر، لكنها تكون ممتزجة بالرقة. فإذا لم يكن الحب هو الذي يبعث الرغبة في الاتحاد الجسماني، وإذا لم يكن الحب الجنسي أيضًا حبا أخويا فإن هذه الرغبة لا تفضي إطلاقا إلا إلى وحدة لا تقل عن الشعور العربيدي المؤقت العابر”.
أشار فروم إلى عدة أنواع من الحب سماها الحب الأمومي، والحب الأبوي، والحب الأخوي، والحب الشبقي أو الجنسي. الحب الأمومي هو ذلك النوع من الحب الذي تحب به الأم طفلها فقط لأنه طفلها ولأنه يحتاج إليها كما يفعل الطفل نفس الشيء تجاه أمه لأنه يحتاج إليها. الحب الأبوي هو ذلك النوع الذي يحب به الأب طفله كنوع من رد الفعل على سلوك الطفل فالطفل المستحق للحب هو ذلك الطفل الجيد المطيع الذي يفعل الأشياء الصحيحة.
أما الحب الأخوي فهو الذي يحب به الإنسان إنسانا آخر مساويا له، فطالما أنا أحب أخي فيمكنني أن أحب جميع إخوتي في البشرية، وبه يساعد الإنسان المحتاج والعاجز. أما الحب الشبقي أو الجنسي فهو تلك الرغبة في الاتحاد بالآخر بعد الشعور “بسقوط” مفاجئ للحواجز بين الشخصين، وهو ما يسمى الوقوع في الحب، وغالبًا ما يزول هذا النوع من الحب بعد تجربة الاتحاد وسبر أغوار الآخر.
وربما يكون ماركيز قد تعمد الإشارة إلى هذين النوعين من الحب بشكل غير مباشر من خلال أم فلونترينو التي مات زوجها ولم تتزوج وربت ابنها وحيدة، وهي التي شجعته فيما بعد في التقدم لخطبة فيرمينا داثا وحاولت مواساته بعد رفض والد فيرمينا له الذي مثل الجانب الأبوي من الحب في تربيته لابنته وعنايته بتجارته بعدما ماتت زوجته وحرصه على إرسال ابنته للمؤسسات التربوية الكنسية. كما أنه رفض زواج ابنته من فلونترينو لأنه في النهاية زواج غير مناسب اجتماعيا. أما الحب الأخوي فيروي الكاتب موقفا عابرا لفلونترينو اريثا وهو يودع إحدى عشيقاته “لقد تعلم فلونترينو اريثا معها ما كان عاناه كثيرا وإن لم يكن يدرك كنهه: هو أن بوسع المرء أن يعشق عدة أشخاص في الوقت نفسه ويتألم الألم ذاته لهم جميعا دون خيانة أي منهم، وفيما هو يقف وحيدًا وسط الجموع في الميناء قال غاضبًا: إن في القلب حجرات أكثر مما في فندق للعاهرات”.
بالطبع هناك خلط بين الحب الشبقي والأخوي في العبارة، ولكنها إشارة مهمة من الكاتب لمعاناة البطل في بحثه عن الحب.
«أنا لا أخشى أن أموت ولكني أخشى ألا أموت حبا»، كانت هذه عبارة لوالد فلونترينو نقلها عنه ولده في الرواية لتعبر عن نظرة البطل إلى الحب بأنه الحاجة الأسمى في الحياة، وهو ما اتفق عليه الكاتبان في النهاية وهو أن الحب هو الجواب الأمثل على مشكلة الوجود الإنساني وتجاوز الواقع المادي للإنسان.
«هذه الحاجة إلى التجاوز هي حاجة من أشد الحاجات الرئيسية للإنسان مغروسة في واقعة إدراكه الذاتي، في واقعة أنه غير مكتف بالقيام بدور المخلوق وأنه لا يستطيع أن يتقبل نفسه كالنرد الذي يقذف به للخارج، أنه محتاج إلى الشعور بأنه خالق، بأنه يتجاوز الدور السلبي لكونه مخلوقًا».